الساعة التّاسعة، أي الثّالثة بعد الظهر، صرخ يسوع من أعلى الصّليب: “إيلي، إيلي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟” أي “إلهي، إلهي، لِمَ تركتني؟”. كلمات ممزوجة من العبريّة والآراميَّة ترجمها متَّى ومرقس إلى اليونانيَّة. هذا المشهد من الآلام هو لحظات يسوع الأخيرة، وبعدها أسلم الرُّوح في يد الآب. في صراخ يسوع هذا تظهر حالة الإنسان الَّذي يصلّي في الشِّدَّة والضّيق والبلوى والأسى.
علّمت مريم الأمّ البتول يسوع ابنها منذ الصِّغَر الصَّلاة والتوكّل على الله، لذلك على الصَّليب يصلّي باللغة الآراميَّة، لغة الأمّ، ويشهق بآيات المزمور 22 بكامله:
“إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟”، وهذا ما نصلّيه في “رتبة سجدة الصّليب” يوم الجمعة العظيمة- جمعة الصلبوت… وأمّه كانت واقفة عند أقدام صليبه، تردّد معه تلك الآيات المزموريَّة بالأسى والحزن الشّديد، والتوكّل الكامل على الله. سلّم يسوع في الصّلاة أمره بالكامل إلى الله… على حسب قول المزمور “يُصلّي إليكَ كلُّ صفيّ في أوانِ الضِّيق” (مز 32/ 6).
الجزء الأوّل من المزمور 22 هو شكوى البريء المضطَهد أمام الله، الذي يحيط به الخصوم ويبغون موته. إنَّها صرخة تعبّر عن الشِّدّة، واليأس، والآلام المبرّحة، هي كلمات يُصلّيها يسوع كعبد الله المتألِّم، المعتصم بالله والمتوكّل عليه، والآخذ على عاتقه، ليس آلام الشَّعب اليهوديّ وحسب، بل عذابات وآلام العالم أجمع، يحمل عذابات جميع الَّذين يتألَّمون في هذا العالم. يُعبّر هذا القسم من المزمور عن مأساة كآبة المسيح ٱبن الله الذي يواجه الموت وحيدًا في صمت الله الذي لا يجيب.
صلاة يسوع “إلهي إلهي، لماذا تركتني؟” هي صلاة كلّ متألِّم في الضّيق والشّدّة، يصف واقعه أمام الله، والله بدوره يرضى عنه وينجّيه كما رضيَ عن شعبه في مراحل تاريخه، لكنَّ الله في الواقع الحاليّ مخالفٌ لقربه من شعبه، إنَّه الإله الصَّامت الَّذي لا يستجيب لشدَّة صفيّه البارّ والقدّوس… كانت آلام يسوع رهيبة، وكأنَّ الله قد تركه وحده يتخبّط في أوجاعه! إنّه ليل الأوجاع والآلام… إنّه دُجى الليل… إنّه ليل ظلمة سلطان هذا العالم الَّذي سوف يسحقه يسوع بصليبه… أو هو ظلام حضور الله كما ٱختبره الشَّعب في تاريخه بعبوره الصَّحراء إلى أرض الحرّيّة…
أمّا الجزء الثاني من المزمور 22، والذي كان يسوع يُصلّيه على الصّليب، فيدور حول الثّقة والرّجاء والشّكر: “وأنت يا ربّ، لا تتباعد. يا قوّتي، أسرع إلى نصرتي”. لم يعد الموضوع شكوى تدور حول تخلّي الله عن البارّ، بل هو تسليم البارّ ذاته كلّيًّا بين يدي الله. لذا صرخة يسوع لم تكن صرخة يأس بل يقظة إيمان ورجاء ومحبّة كاملة! إنّها صلاة إعلان الخلاص الآتي من الله وإعلان مجده وسط شعبه…
يسوع على الصّليب كما في كلّ حياته، هو رجل الصّلاة، يعلّمنا أنّ الصّلاة ترفعنا إلى الله.
يسوع في وقت الضّيق والشّدّة يستعين بالله أبيه، ويشكو إليه أمره، ويضع فيه ثقته ورجاءه.
نحن، على مثال يسوع، نصلّي ونسلّم أمرنا إلى الله مردّدين، كما علّمنا: “يا أبانا، لتكن مشيئتك” “يا ربّ توكّلنا عليك” “يا رب دبّرنا بأمرك” لا سيّما في هذا الزمن الصّعب…
فلندرك أنّ الله، في الضّيق والبلوى والشّدّة، هو خلاصنا وحياتنا، وعليه رجاؤنا وتوكّلُنا.
لنصلِّ للرّبّ في كلّ ضيق فتتحوّلَ صرختنا إلى نشيد تسبيحٍ وهتاف حمدٍ لله…
مات يسوع موت البريء… مات نيابةً عن كلّ البشر، أي عن البريء والمذنب.
يقول بعض الَّذين لا إيمان لهم “بأن لا وجود لله بسبب وجود الشّرّ” أي لا يجوز وجود إله يسمح بالشّرّ لأولاده، لكنَّ يسوع على الصَّليب هو في قمّة آلامه الَّتي كانوا يعتبرونها شرًّا يعترف بوجود الله بقوله “إلهي إلهي…”، وأنّ الله إلهٌ حيّ، وهو إلهه. لذلك حين نصرخ “أنتَ وين يا ألله؟”، فلنعلم أنّ المسيح عاش الشُّعور ذاته الَّذي نعيشه، أي الحزن والوحدة والألم… في هذه التجربة هناك نور المسيح الَّذي يعزّينا في ضيقنا ويبكي معنا ويشجّعنا في ضعفنا…