يتفرّد الإنجيليُّ يوحنّا بذكر مريم “أمّ يسوع” بالقرب من الصّليب مع بعض النّسوة. وكان عند الصّليب أيضًا التّلميذ الأحبّ ليسوع، يوحنّا كاتب الإنجيل الرّابع، وكانوا جميعُهم “ينظرون إلى من طعنوا” (يو 19/ 37؛ زك 12/ 10)، متأمّلين كلّ ما يجري بانذهالٍ ينوحون ويبكون كما على بكرٍ وحيدٍ (زك 12/ 10) … تَبِعَت مريم العذراء إبنها يسوع على درب الجلجلة، ولم تَخَفْ من مشهد الصَّلب المهول، لم تلتفت إلى الوراء، وهي على يقين تامّ بأنَّ الله سينجّيه ويُخلّصه، فيسوع هو المنتصر بالرُّغم من كونه معلَّقًا على الصَّليب؛ لنطلب في هذا اليوم المشهود المقدّس نعمة الإيمان كي نفهم غنى هذا السرّ العظيم… كانت مريم عند أقدام الصَّليب تتأمّل في الخالق مصلوبًا بشجاعة وقوّة، تتأمَّله ابنها وربَّها يعيش أقصى درجات الآلام… تنظر إلى حدث الصَّلب بإيمان إبراهيم الَّذي قدّم ٱبنه إسحٰق ذبيحةً للرّبّ في طاعةٍ إيمانيَّة مُطلَقَة (تك 22/ 1- 19).
في الآية 25، ذكر الإنجيليّ يوحنّا حرفيًّا “أمّه” (أمّ يسوع) مرّتين؛ أمّا في الآية 26، فذكر حرفيًّا “الأمّ”، معلنًا أنَّ “أمّ يسوع” هي “أمُّ تلاميذ يسوع” أجمعين، بل هي “الأمّ” في الـمُطلَق! وهي حوَّاء الجديدة، أمّ جميع المؤمنين، على مثال حوَّاء القديمة، أمّ الأحياء.
من أعلى الصَّليب، نادى يسوع الأمَّ الثَّكلى الواقفة بالقرب من صليب وحيدها، وإلى جانبها التّلميذ الذي كان يسوع يحبُّه واقفًا، فقال: “يا ٱمرأة ها هو ٱبنك”، ثمّ قال للتِّلميذ: “ها هي أمّك”. في عرس قانا الجليل نادى يسوع مريم أمّه “يا ٱمرأة” (يو 2/ 4) ويعود ويدعوها من أعلى الصَّليب “يا ٱمرأة”، مشهدان مرتبطان ببعضهما البعض وكأنَّ عرس قانا ٱستباق لعرس الابن على الصَّليب الذي دفع دمه مهرًا لعروسته… بَطُلَ الرَّمزُ وظَهَرَت الحقيقة… وها عريسُ (“الخَتَن” في التَّقليد البيزنطيّ) الكنيسة مكلَّلٌ بالدّم القاني…
لم يترك يسوع أمّه وحيدة في هذا العالم بل أوكلها إلى تلميذه موصيًا إيّاه بأن يبقى إلى جانبها، فاستقبلها يوحنَّا في منزله- عائلته أي “في ما هو له”، من تلك السّاعة، وبذلك يكون قد ٱستقبل التّلميذ يسوع نفسَه، وبقي يتمتّع بحضور يسوع وحبّه من خلال أمّه!
لم يقبل التّلميذ أمّ يسوع لِيَأْوِيَها فقط، ويؤمّن لها المسكن والمأكل، بل كثروة روحيَّة أيضًا، فأصبحت بعض غناه!
شَهِدَ التِّلميذ أيضًا على الجلجلة، طعنةَ الرُّمح في جنب يسوع المائت على الصَّليب، ورأى سَيَلَان الدّم والماء من جنبه، دليلًا على موته، ودليلًا على ذبيحته التَّامّة. ولكنّه رأى أيضًا في الماء رمزًا للعماد، وفي الدّم رمزًا للقربان الأقدس (1 يو 5/ 7)، وبِهِمَا تولد الكنيسة من جنب المسيح وهو آدم الثَّاني رأس الخليقة الجديدة، ولادة حوَّاء من ضلع آدم الأوّل! (تك 2/ 23)، ولقد تمثّلت الكنيسة على الجلجلة بالأمّ العذراء، والتِّلميذ الحبيب، والمريمات (بعض النِّسوة)، ويوسف الرَّامي، ونيقوديموس، فَحَدَثُ موت يسوع على الصَّليب يُشكّل ولادةَ الكنيسة…
جنب الابن يسوع المفتوح بالرُّمح على الصَّليب، هو ينبوعٌ ينقّي من الإثم ومن كلّ خطيئة، على ما يذكر نصّ زكريَّا “في ذلك اليوم يكون ينبوعٌ مفتوح لبيت داود ولسكَّان أورشليم، للتَّنقية من الخطيئة والرِّجس” (زك 13/ 1).
نجد عند الصَّليب جماعةً مخلَّصة لم تستَطِع أن تُحيد الألم عَمَّنْ حُكِمَ عليه ظلمًا، لكنّها بقيت إلى جانبه متأمّلة بسرّ آلامه ومتذكّرةً قوله “إنَّ حزنكم سيتحوّل إلى فرح” (يو 16/ 20).
مريم هي أمّ يسوع وأمّنا، أمّ شعب الله-الكنيسة.
مريم هي المساهمة في الفداء والخلاص.
مريم تتألّم لا من أجل ٱبنها فحسب بل من أجل البشريّة كلّها! وتريد الخلاص لكلّ الناس.
لنتحلَّ بإيمان مريم العذراء في حياتنا لا سيّما في أوقات الشِّدّة والضِّيق.
يسوع يعطينا بشخص أمّه أثمن وأغلى ما عنده كما في العشاء السّرّيّ “هذا هو جسدي… هذا هو دمي”، وهنا قال لنا “هذه هي أمّكم…”.، مقدِّمًا لنا أمّه خاصّته إرثًا لنا. فكلُّ ما هو له أصبح لنا.