12. ولا تَتْركْني في وَهَنِ قوّتي (راجع مزمور 71، 9)
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
صلاة كبار السّنّ الجميلة التي نجدها في المزمور الواحد والسبعين، والتي أصغينا إليها، تشجّعنا على التأمّل في التّوتر الشّديد الذي يسود حالة الشّيخوخة، عندما نتذكّر الصّعاب التي تجاوزناها والبركات التي حصلنا عليها، وعندما يعرِّض ذلك إيماننا ورجاءنا للامتحان.
يبدأ الامتحان نفسه مع الضعف الذي يرافق مرحلة المرور في السّنّ المتقدّمة بالهشاشة والتعرّض لأنواع الشدائد. صاحب المزامير – كبير السّنّ الذي يتوجّه إلى الله – يذكّر صراحة أنّ هذه الحالة تصبح وقت عزلة، الكلّ يتركك فيه، وخداع ومراوغة وغطرسة، يتعرّض لها المُسِنّ. إنّها نوع من الإذلال الذي صِرْنا مختَصِّين فيه في مجتمعنا. هذا صحيح! في مجتمع الإقصاء هذا، وثقافة الإقصاء هذه، يتمّ وضع كبار السّنّ جانبًا ويتألّمون من هذه الأمور. في الواقع، هناك كثيرون من ينتهزون سنّ المسنّين، لخداعهم، ولترهيبهم بألف طريقة. نقرأ كثيرًا في الصحف أو نسمع أخبارًا عن كبار السّنّ الذين تمّ خداعهم دون ضمير للاستيلاء على مدخراتهم، وغيرهم تُركوا دون حماية أو تمّ التخلّي عنهم دون رعايّة، أو تمّ الاعتداء عليهم بأنواع الازدراء والترهيب حتى يتخلّوا عن حقوقهم. وأيضًا في العائلات – وهذا أمر خطير، ولكنّه يحدث أيضًا في العائلات – إذ تحدث مثل هذه الأعمال القاسيّة. فيتمّ إقصاء كبار السّنّ، والتخلّي عنهم في دور المسنّين، دون أن يزورهم أبناءهم، وإن زاروهم، فيزورونهم مرات قليلة في السنة. يتمّ وضع كبار السّنّ بالتحديد في زاوية الحياة. وهذا يحدث: يحدث اليوم، ويحدث في العائلات، ويحدث دائمًا. علينا أن نفكّر في هذا.
يجب على المجتمع بأسره أن يسرع ليهتمّ برعاية كبار السّنّ – فهم كنز! -، وما زال عددهم يزداد فيه، وإهمالهم والتخلّي عنهم ما زال يزداد أيضًا. عندما نسمع عن كبار السّنّ الذين حُرِموا استقلاليتَهم وتأميناتهم، حتى مسكنهم، فإنّنا نفهم أنّ ازدواجيّة مجتمع اليوم أمام المتقدّمين في السّنّ ليست مشكلة طارئة، بل هي سمة من سمات ثقافة الإقصاء التي تسمّم العالم الذي نعيش فيه. كبير السّنّ في المزمور وضع يأسه بين يدَي الله، قال: “إِنَّ أَعدائي علَيَّ يَتَكلَّمون، والمُتَرَصِّدينَ لِنَفْسي مَعًا يَتَآمَرون. يَقولون: إِنَّ اللهَ قد تَرَكَه، فلاحِقوه وأَمسِكوه فلَيسَ لَه مُنقِذ” (الآيات 10-11). العواقب وخيمة. فالشّيخوخة لا تَفقِد كرامتها فحسب، بل يتولّد حولها شكّ: هل تستحق البقاء؟ وهكذا فإنّنا جميعًا نميل إلى إخفاء ضعفنا، وإخفاء مرضنا، وعمرنا، وشيخوختنا، لأنّنا نخشى أن يكون ذلك كلّه مثل ”غرفة انتظار“ قبل فقدان كرامتنا. لنسأل أنفسنا: هل هو إنسانيّ الوصول إلى مثل هذا الشعور؟ لماذا الحضارة الحديثة، المتطوّرة والفعّالة، هي غير مريحة أمام المرض والشّيخوخة، بل تخفي المرض وتخفي الشّيخوخة؟ ولماذا السياسة، التي تبدو شديدة الالتزام بتعريف حدود العيش الكريم، هي في نفس الوقت عديمة الإحساس لتوفّر للمسنّين والمرضى حياة فيها كرامة ومودّة؟
كبير السّنّ في المزمور الذي أصغينا إليه، كبير السّنّ هذا الذي يرى شيخوخته على أنّها هزيمة، يكتشف من جديد ثقته بالله. ويشعر بالحاجة إلى المساعدة. فيتوجّه إلى الله. علّق القدّيس أغسطينس على هذا المزمور، وحث كبير السّنّ، قال: “لا تخف من أن تُترك في شيخوختك. […] لماذا تخشى أن يتخلّى عنك [الرّبّ]، ويرفضك في زمن الشّيخوخة، عندما تضعف قوتك؟ بل ستكون قوّته فيك بالتحدّيد في الوقت الذي تضعف فيه قوّتك” (المؤلفات اللاتينية لأباء الكنيسة 36، 881-882). ويبتهل صاحب المزمور كبير السّنّ فيقول: “لِبِرِّكَ أَنقِذْني ونَجِّني، أَمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ وخَلِّصْني. كُنْ لي صَخرَةَ حِصْنٍ أَلتَجِئُ إِلَيها في كُلِّ حين، فقَد أَمَرتَ بِتَخْليصي، لأَنَّكَ صَخرَتي وحِصْني” (الآيات 2-3). الدعاء يشهد على أمانة الله ويسأل الله في قدرته على تحريك الضمائر التي جرفها عدم الإحساس برمزيّة الحياة الفانيّة، التي يجب الحفاظ عليها في سلامتها. ويستمر في الصّلاة على هذا النحو: “اللَّهُمَّ لا تَبتَعِدْ عنِّي، يا إِلٰهي أَسرِعْ إِلى نُصرَتي. لِيَخْزَ المُعادونَ لِنَفْسي ويَفْنَوا، ولْيَلْتَحِفِ العارَ والفَضيحةَ طالِبو مَساءتي” (الآيات 12-13).
في الواقع، الخزْيُ يجب أن يقع على الذين يستغلّون ضعف المرض والشّيخوخة. أمّا الصّلاة فتجدّد وعد أمانة الله وبركته في قلب المسنّ. وكبير السّنّ يكتشف من جديد الصّلاة ويشهد على قوّتها. لم يرفض يسوع قط، في الأناجيل، صلاة الذين يحتاجون إلى المساعدة. المسنّون، بسبب ضعفهم، يمكنهم أن يعلّموا الذين يعيشون في أعمار مختلفة في الحياة أنّنا جميعًا بحاجة إلى أن نسلّم أنفسنا لله، ونطلب مساعدته. بهذا المعنى، علينا جميعًا أن نتعلّم من الشّيخوخة: نَعم، هناك نعمة في أن نكون كبارًا في السّنّ، وهذه النعمة تُفهَم على أنّها تسليم أنفسنا لرعاية الآخرين لنا، بدءًا من الله نفسه.
هناك إذن ”سلطة تعليميّة للضعف“، لا تخفي الضعف، لا. هي صحيحة، هناك واقع وهناك سلطة تعليميّة للضعف، تذكّرنا بها الشّيخوخة بمصداقيّة طوال فترة حياة الإنسان. علينا ألّا نخفي الشّيخوخة، وألّا نخفي ضعف الشّيخوخة. هذا درسٌ لنا جميعًا. هذه السّلطة التعليميّة تفتح أفقًا حاسمًا لإصلاح حضارتنا. وهو إصلاحٌ أصبح الآن لا غنى عنه حتى نعرف كيف نعيش كلّنا معًا. تهميش كبار السّنّ، فكرًا وعملًا، يُفسد جميع فصول الحياة، وليس فقط للمتقدّمين في السّنّ. يمكن لكلّ واحد منّا أن يفكّر اليوم في كبار السّنّ في عائلته، ويقول: كيف أتواصل معهم، هل أتذكّرهم، وهل أذهب لزيارتهم؟ هل أسعى لكي لا ينقصهم شيء؟ هل أحترمهم؟ كبار السّنّ من عائلتي، أمي وأبي وجدي وجدتي وأعمامي وأصدقائي، هل ألغيتهم من حياتي؟ أم أذهب إليهم لأتعلّم منهم الحكمة، حكمة الحياة؟ تذكّر أنّك ستكون أيضًا كبيرًا في السّنّ. فالشّيخوخة تأتي للجميع. وكما تُحبّ أن تُعامَل في وقت الشّيخوخة، عامِل كبار السّنّ اليوم. إنّهم ذاكرة العائلة، وذاكرة البشريّة، وذاكرة البلد. حافظوا على كبار السّنّ الذين هم الحكمة. ليمنح الرّبّ يسوع كبار السّنّ الذين هم جزء من الكنيسة قوّة وجمال هذا الابتهال وهذا الاستفزاز. ولنُصَبْ بعدوى الثقة بالله. وهذا من أجل خير الجميع، من أجل خيرهم وخيرنا وخير أبنائنا.
*******
قِراءَةٌ مِنْ سِفْرِ المزامير (71، 5-6. 20-21)
فإِنَّكَ أَنتَ أَيُّها السَّيِّدُ رَجائي وأَنتَ أَيُّها الرَّبُّ مُنذُ صِبايَ مُعتَمَدي. مِنَ الرَّحمِ علَيكَ اعتَمَدتُ، ومِن بَطنِ أُمِّي أَنتَ أَخرَجتَني، ولَكَ في كُلِّ حينٍ تَسْبِيحي. […] أَنتَ الَّذي أَراني كَثيرًا مَضايِقَ كَثيرةً وشُرورًا. لكِنَّكَ تَعودُ فتُحْيِيني، ومِن أَعماقِ الأَرضِ تُصعِدُني، تَزيدُ في قَدْري، وتَرجِعُ فتُعَزِّيني.
كلامُ الرَّبّ
*******
Speaker:
تَكلَّمَ قَداسَةُ البابا اليَومَ علَى الشَّيخوخَةِ في المزمورِ الواحِدِ والسَبعين، وقال: صلاةُ كِبارِ السِّنِّ الجميلةُ الَّتي نجدُها في المزمورِ الواحِدِ والسَبعينَ تُشَجِّعُنا على التأَمُّلِ في التَّوتُرِ الشَّديدِ الَّذي يسودُ حالةَ الشَّيخوخة، عندما نتذكَّرُ صِعابَ الحياةِ وَبركاتِها، والَّتي تُصبحُ امتحانًا للإيمانِ والرَّجاءِ فينا. صاحِبُ المزمور، الكبيرُ في السِّنّ، يُذَكِّرُنا أنَّ مِحنَةَ المُسِنِّ تَنجُمُ عن موقفِ الآخرينَ مِنهُ: قد يكونُ مَوقِفَ خُذلانٍ لَهُ، وابتعادٍ عَنهُ، وَخِداعٍ لَهُ، وَمُراوَغَتِهِ، وَترهيبِهِ، والإساءَةِ إليهِ، وَحِرمانِهِ استِقلالِيَتَهُ وَسلامَتَهُ، حتَى مَسكِنَهُ. هناكَ في الواقعِ مَن يَستَغِلُّ المُسِنِّينَ بألفِ طريقة. والمُجتَمَعُ مُقَصِّرٌ في حِمايَتِهِم. مُجتَمَعُنا مُتَقَدِّمٌ في أمورٍ، لكنَّهُ غيرُ مُتَقَدِّمٍ في هذا المجال. لذلكَ يجبُ على المجتمعِ بأسرهِ أنْ يُسرِعَ في تجديدِ التزامِهِ لرعايَةِ كِبارِ السِّنّ. صاحِبُ المزمورِ الَّذي رأَى في شيخوخَتِهِ هزيمةً، وضعَ يأسَهُ بين يدَي اللهِ وصلَّى. واكتَشَفَ مِن جديدٍ ثِقَتَهُ بالله. فالصَّلاةُ تُجَدِّدُ وَعدَ أمانةِ اللهِ وَبَرَكَتَهُ في قلبِ كبيرِ السِّنّ، الَّذي يَشهَدُ على قُوَّتِها. كَبيرُ السِّنِّ يُنَبِّهُنا جميعًا أنَّنا بحاجةٍ بعضُنا إلى بعض، وأنَّنا أوَّلًا بحاجةٍ إلى الله.
*******
Speaker:
أُحَيِّي المؤمِنينَ الناطِقينَ باللغَةِ العربِيَّة. كِبارُ السِّنّ، بِسَبَبِ ضَعفِهِم، يُمكِنُهُم أنْ يُعَلِّمُوا الَّذين يعيشونَ في أعمارٍ مُختَلِفَةٍ في الحياةِ أنَّنا جميعًا بحاجةٍ إلى أنْ نُسَلِّمَ أنفُسَنا لله، ونَطلُبَ مُساعَدَتَهُ. لأنَّ الله هوَ دائمًا رَجاؤُنا، والله هوَ سَنَدُنا. باركَكُم الرّبُّ جَميعًا وحَماكُم دائِمًا مِن كُلِّ شَرّ!
*******
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana