“خذوا كلوا هذا هو جسدي ! إشربوا هذا هو دمي” ( متى ٢٦ : ٢٦ – ٢٩ ).
إنّ المسيح الربّ، لكي يكون حقًاً ودائمًا عمّانوئيل “، أي ” الله معنا ” ، أسّس بفيض من حبّه سرّي القربان والكهنوت المقدسين ، قبل أن يتألّم ويموت ويقوم من بين الأموات. أعطى تلاميذِهِ ، كهنة العهد الجديد ، سلطة الإحتفال بتقدمة الذبيحة الإلهية ، ذبيحةً ذاته غير الدموية لفدائنا وخلاصنا من خطايانا، تحت شكلي الخبز والخمر المحوّلين إلى جسده ودمه . اراد تقدمة ذاته وليمة سرّيّة لمغفرة الخطايا وللحياة الإلهيّة فينا، إلى أن يأتي ثانيةً قائلاً لهم : ” إصنعوا هذا لذكري ” (لوقا ٢٢ : ١٩).
تحتفل الكنيسة في الخميس الذي يلي عيد الثالوث الأقدس، بعيد القربان المُقدّس ، لكي نتذكّر أنّ ربّنا يسوع تمّم ذبيحة الفداء، مرّة وإلى الأبد على الجلجلة. في هذه الذبيحة نتذكّر آلامه وموته وقيامته، ونؤمن بأنّه حاضر سرّيًّاً في الذبيحة الإلهية غير الدموية المتجدّد فيها سرّ فصحه، وننتظر مستقبلاً مجيئه في آخر الأزمنة. هذه النظرة إلى ما بعد الزمن تولّد فينا شعلة الرجاء.
القربان المُقدّس سر محبة وشركة :
في سرّ القربان المُقدّس ، ندخل في حياة شركة عميقة مع يسوع، فيمنحنا النعمة لكي نثبت فيه، بحسب رغبته : ” اثبتوا فيّ كما أنا فيكم ” (يوحنا ١٥ : ٤).
هذه الشركة تصبح محبّة متبادلة بين الربّ وبيننا . لأنّ الخبز القربانيّ الذي قسمه يسوع وأعطاه لتلاميذه واحد ، وهذا دليلٌ على أنه : يسوع ورسله واحد ، ونحن أبناء الكنيسة متحدين معهم أيضاً واحد ، ونحن على كثرتنا واحد. وهذا يعني أنّ الإفخارستيا ” سرّ القربان ” ، ” سر الشكر الاإلهي “، يُعطي الكنيسة، جسد المسيح السرّي ، قوة الإيمان لنسير مع المسيح في شركة المحبّة التي تؤدي بنا إلى الخلاص ، وهكذا نكون في شركة تامة مع جسده السري الذي هو الكنيسة المقدسة أُمّنا ، التي أعطانا إياها الرّبّ يسوع ، ونحن نُحبّها ونعيش في وحدة دائمة معها ومع بعضنا البعض بالأسرار المُقدّسة ، وخاصة بسر القربان المُقدّس .
المحبّة والشركة حاجة كل إنسان في العائلة والكنيسة والمجتمع :
من عمق سرّ القربان، جسد المسيح ودمه، ومن صميم جوهر الكنيسة التي هي جسد المسيح الكلّيّ، تنطلق المحبّة والشركة .
نعم مع المحبّة والشركة التي منحنا إياهما يسرع ، ننطلق كلّنا معاً ، وبقلب واحد ، لأننا كُلنا بحاجة ماسة إليهما :
نحتاج إلى الشركة التي تعني في بعدها العاموديّ الإتحاد بالله ، وفي بعدها الأفقيّ الوحدة الكاملة بيننا. لكنّ هذا الإتحاد وهذه الوحدة يحتاجان إلى المحبّة، لكي تشدّ روابط الإتحاد والألفة والوحدة بيننا . ومن لا يوجد في قلبه حُب الله والمسيح يسوع لا يستطيع أن يعيش الشركة ببعديها العامودي والأُفقي .
القربان المُقدّس مدرسة إيمان وعمل :
سرّ القربان المُقدّس ، هو مدرستنا التي إليها ننتمي وفيها نكبر ونتعلّم وصايا الحبّ وجماله ، وسعادة التضحية والعطاء، سعادة بذل الذات والسخاء على مثال الرّبّ يسوع الذي بذُل نفسه من أجلِنا ، وعلٰمنا قائلاً : ” ما من حُبّ أعظم من حُبّ مَن يبذل نفسه في سبيل أحبائه ” . وفيها نتعلّم الأخوّة من أب واحد للجميع، وهو الله . وفيها نتعلّم أيضاً أن نعيش فرح بناء الوحدة باحترام الآخر المختلف عنّا ، وقبوله كما هو دينياً ومعتقداً وثقافة ، وأن نتبادل معه الحوار البنّاء بحثاً عن الحقيقة التي تجمع ولا تفرّق . وفيها نتعلّم أيضاً فضيلة الرجاء الذي هو الثبات في إيماننا ، ونحن كلنا ثقة بأن الربّ يسوع معنا في جميع ظروف حياتنا، وقد أكّد لنا يسوع ذلك بفمه في اليوم الذي صعد فيه إلى السماء عندما قال لرسله ولنا من بعدهم : ” ها أنا معكم جميع الأيّام، إلى انتهاء العالم ” (متى ٢٨ : ٢٠).
قال الرّبّ يسوع : ” من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وانا فيه ” ، مع تلميذي عماوس نقول له : ” أمكث معنا يارب ، ورافقنا في مسيرتنا الروحيّة مانحاً إيانا جسدك ودمك لكي لا نجوع ولا نعطش أبداً .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك