” فحَسبي أن أُتِمَّ شوطي وأُتِمَّ الخِدمةَ التي تلقيتُها من الرب يسوع ، أي أن أشهدَ لبشارةِ نعمة الله … أُنادي بالملكوت … فتنبَّهوا لأنفُسِكم ولجميعِ القطيعِ الذي جعلكمُ الرُّوحُ القُدُس حُراسّاً له لِتَسهَروا على كنيسة الله التي اكتسبها بدمهِ … أَستودِعُكُمُ الله وكلِمةَ نِعمتهِ وهو القادرُ على أن يَشيدَ البُنيان ويَجعَلَ لكمُ الميراثَ مع جميعِ المُقَدَّسين ” ( اعمال الرُسُل ٢٠ : ٢٤ – ٣٢ ) .
من هو القديس كريكور ( غريغوريوس ) المنوِّر ؟
عندما كان ملك الأرمن تريدات (درطاد) الثالث عائداً من روما، مرّ بقيصريّة ( تركيا الوسطى ) حيث كان يعيش فيها عدد كبير من الأرمن الهاربين من السيطرة الفارسية، فاستعان بهم وكان من بينهم كريكور بن اناك، وكان مسيحياً .
أُعجب الملك بالشاب كريكور دون أن يعلم أنه إبن الذي قتله أبوه ، وطلب منه أن يصطحبه إلى أرمينيا، فلبى طلبه وعاد كريكور إلى أرمينيا ليخدم البلاط الملكي .
كان كريكور من أنشط حاشية الملك لدرجة أن الملك تريدات الثالث طلب منه يوماً أن يُقدّم إلى الألهة اناهيد البخور وأغصان الغار تمجيداً لإسمها، فرفض كريكور هذا الطلب مُعلناً أنه مسيحي، لا يعبد الأصنام ولا يُقدّم لهم القرابين . فحزن الملك، وإشتدّ غضبه لما علِم أن والد كريكور قتل أباه الملك خوسروف. فأمر بتعذيبه، ثمّ بسجنه وأخيراً رماه في بئر عميق ليتخلّص منه .
وكان كريكور يتحمّل كل هذ المشقات متذكراً كلام القديس بولس : ” وهاءَنذا اليوم ماضٍ إلى اورشليم أسيرَ الرُّوح، لا أدري ماذا يَحدُثُ لي فيها. على أنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يُؤَكِّدُ لي في كُلِّ مدينةٍ بأن السّلاسِلَ والشَّدائِدَ تنتظِرُني. ولكِنِّي لا أُبالي بحياتي ولا أرى لها قيمةً عندي ، فحسبي أن أُتِمَّ شوطي وأُتِمَّ الخِدمةَ التي تلَقَّيتُها من الربِّ يسوع ، أي أن أشهَدَ لِبِشارةِ نِعمَةِ الله ” ( أعمال الرسل ٢٠ : ٢٢ – ٢٤ ) لكن العناية الإلهية خطّطت مصير الشعب الأرمني من هذا البئر العميق والمعروف لدى الأرمن بإسم ” خورفيراب “.
عاش كريكور خمسة عشر عاماً بين الثعابين والحشرات دون أن يمسه أذى ، وكان يأكل رغيفاً واحداً من الخبز بفضل إمرأة كانت ترميه له من خلال ثقب وجدَتهُ محفوراً في إحدى جوانب البئر، إلى أن أنقذه الله وكان خروجه من البئر نصراً جديداً .
مرض الملك تريدات:
في هذه الأثناء أعلن ترايانوس امبرطور روما القضاء على المسيحيين بإضطهادهم وقتلهم ورميهم أمام الأسود المفترسة، فهرب من روما ثلاثون فتاة مع القديسة هربسيمه اللواتي التجأنا إلى أرمينيا.
علِم الملك تريدات الثالث بوجودهن فأمر بحضور هربسيمه إلى القصر . كانت نية الملك إمتلاك هذه الفتاة الجميلة ، لكنها رفضت جميع مغرياته وعروضه . ولمّا حاول السيطرة عليها بالقوة، دفعته إلى الوراء وخرجت من القصر هاربة . فأمر بقطع رؤوس الفتيات بعد أن خرجت هربسيمه وجرحت كرامة الملك . فعاقبه الله لهذه الجريمة ، فأصيب بداء غريب ، فترك القصر وذهب إلى الغابات بعد أن أصبح منظره كالحيوان .
الأعجوبة الكبيرة:
لكن العناية الإلهية ، مهدّت الطريق إلى معرفة النور من خلال ظلام البئر . فألهمت أخت الملك أن شفاء أخيها لم يأتِ إلاّ على يد كريكور الذي اضطهده .
لكن من يؤمن بمثل هذا الخبر؟ فتكررت الرؤيا إلى أن اضطرت الأميرة بالذهاب إلى بئر ” خورفيراب ” لتبحث عن كريكور، فكان إعجابها كبيراً لمّا رأته في البئر وهو على قيد الحياة فطلبت منه شفاء أخيها من مرضه الخبيث . ففعل كريكور وشفاه من علله وأمراضه الخبيثة .
أرمينيا أول دولة اعتنقت المسيحية سنة ٣٠١:
بعد هذه الأعجوبة الكبيرة ، اعتنق الملك تربدات الثالث وإمرأته وحاشيته والوزراء والعاملين في البلاط، الدين المسيحي، ثمّ أصدر مرسوماً ملكياً بإلغاء عبادة الأصنام وبهدم هياكلها ، ثم طلب من كريكور أن يذهب إلى قيصرية كبادوكيا لينال الرسامة الكهنوتية والأسقفية . فذهب إلى هناك ومنحه الأسقف الرسامة.
عاد المطران كريكور من قيصرية كبادوكيا بعد أن نال الرسامة الكهنوتيّة والاسقفية وعمّد الملك والوزراء وأهل البلاط الملكي وكل الشعب في أرجاء المملكة الأرمنية ، وحارب الشرّ والظلمة ونشر الإيمان وعلّم الثالوث الأقدس وأسس التعليم المسيحي ، وأقام الكهنة قائلاً لهم : ” تنبّوا لأنفُسِكُم ولجميع القَطيع الذي جَعَلَكُكُ الرُّوح القُدُسُ حُرّاساً له لِتَسهَروا على كنيسةِ الله اللهِ التي اكتسَبَها بدمِهِ ” ( اعمال الرسل ٢٠ : ٢٨ ) . ولكن هذا العمل الثابر لغى كثير من العقبات . فكانت هناك مواجهة عنيفة من طرف عُبّاد الأصتام ، غير أن الملك تغلب عليهم وأعطى أرزاقهم للكنيسة الجديدة .
وفاة الأسقف القديس كريكور :
توفي القديس كريكور ، بعد أن بشّر بالإنجيل وتنسّكَ في مغارة على سفح جبل ، ولسان حاله يقول : ” والآنَ أستودِعُكُمُ الله وكلمة نعمَتِهِ وهو القادر على أن يَشيدَ البُنيان ويجعلَ لكمُ الميراث مع جميع المُقَدَّسين ” (اعمال الرسل ٢٠ : ٣٢ ) . رآه الرعاة في جوف شجرة وقد أسلم الروح . كما توفي الملك تريدات الثالث برائحة القداسة .
صلاة لالتماس شفاعة القديس كريكور ( غريغوريوس ) المنوِّر:
أيها الحبر الأعظم ، القديس كريكور ( غريغوريوس ) المنوِّر ، انت الذي حاربت الشر والظلمة والأصنام ، ونشرت نور الإيمان بين الشعب الأرمني وعلّمته سر الثالوث الأقدس ، ونلت ملكوت الله ، تشفّع من أجلنا لدى أبينا السماوي . أمين .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك