العالم اليوم كما في الأمس ، فيه الصالحون والأشرار، والله أب رحوم ، لا يسمح بعقاب الأشرار فوراً، بل ينصحهم ويرشدهم ويؤدبهم بطرق ووسائل كثيرة ومتنوعة ، بهدف صحوتهم من غفوتهم وعودتهم إلى طريق الحقّ ، طريق الخلاص .
مَثَل الزؤان في الإنجيل المقدّس مليء بالعبر والمعاني الروحيّة والأدبية . هذا المَثَل الذي ضربه الرّبّ يسوع لتلاميذه خلاصته هي : إنّ زارعاً زرع حقله بالزرع الجيّد ، فأتى عدوّه ليلاً ، وزرع زؤاناً مع القمح . فلمّا طلع الزرع ، وأخرج سنبله ، ظهر الزؤان معه .
أثناء الحصاد أعلم الحصادون صاحب الحقل ، بأنه بين القمح يوجد زؤان ، وطلبوا منه السماح لهم بجمع الزؤان، أجابهم دعوهما ينموان معاً ، لئلا تنزعوا القمح مع الزؤان . وحين يأتي الحصاد ” اجمعوا الزؤان أوّلاً، واحزموه حزماً ليُحرق، وأمّا القمح فاجمعوه في أهرائي “(متى ١٣ : ٢٤ – ٣٠).
وقد فسّر السيّد المسيح المَثَل لتلاميذه قائلاً : الزارع هو المسيح . والحقل هو العالم ، والزرع الجيّد هو أبناء الملكوت ، والزؤان هو أبناء الشرّير، والعدوّ ، الذي زرع الزؤان ، هو إبليس ، والحصاد هو نهاية العالم ، والحصّادون هم الملائكة (متى ١٣ : ٣٦ – ٤٦) .
على خطى ابراهيم شفيه ورحمة :
إذا تعمقنا في تفسير المسيح للمَثَل ، نستنتج أن في العالم ، ومع الأسف ، أبرار واردياء ، وهذا يذكّرنا بعقاب مدينة سدوم . فحين عرف ابراهيم بالعقاب الإلهي ، قال للربّ : ” أَتُهلك الصدّيق البريء مع الشرّير ؟ ربّما يوجد في المدينة خمسون صدّيقاً، أَتُهلكها كلّها ولا تصفح عنها من أجل الخمسين صدّيقاً فيها ؟ … فقال الربّ : ” إن وجدت خمسين صدّيقاً في سدوم، صفحت عن المكان كلّه إكراماً لهم ” (سفر التكوين ١٨). وبدأ ابراهيم يخفّض العدد ، حتّى وصل إلى العشرة . فاضطُرّ إلى أن يسكت أخيراً، لعدم وجود عشرة صالحين في المدينة .
يقول عدد من آباء الكنيسة المفسّرين للكتاب المُقدّس ، إنّ الله سمح بنمو الزؤان ليعطيه فرصةَ في أن يصير قمحاً . يسمح الله للأردياء بالوجود ولا يفنيهم ، لأنّه، بفيض محبّته، يمنحهم وقتاً للتوبة وإصلاح سيرة حياتهم . وهذا يذكّرنا، أيضاً، بكلام الربّ على لسان النبي حزقيال : ” أَبموت الشرّير يكون سروري ، يقول السيّد الربّ ؟ كلا، بل بتوبته عن شرّه فيحيا “(حزقيال ١٨ : ٢٣) . كما يذكّرنا بكلام الإنجيل : ” ليس الأصحّاء بِمُحتاجينَ إلى طبيب، بل المرضى” (متى ٩: ١٢).
هذا المثل يعلّمنا ، أوّلاً : أنّ الأشرار والأردياء موجودون في العالم. فعلى المؤمنين أن لا يتشنّجوا ويتضايقوا من وجودهم ، في هذه الحياة . بل على العكس ، والأَوْلى بهم أن يشفقوا عليهم ، ويساعدوهم ، لأنّهم بحاجة إلى الخلاص . لكن قبول وجودهم لا يعني مسايرتهم في فسادهم وشرّهم . بل على العكس تماماً ، على المؤمنين أن يكونوا يقظين ، على الدوام ، لكي يحفظوا أنفسهم من الوقوع في الفساد والشرّ .
وواجبهم أن يمتنعوا عن فعل الشرّ، وأن يتوبوا باستمرار، كما يطلب الربّ ، في سفر أشعيا النبي : ” فاغتسِلوا . وتَطَهَّروا وأزيلوا شرّ أعمالكم من أمام عينيّ . وكفّوا عن فعل الشرّ والإساءة . تَعَلَّموا الإحسان والتمسوا الحقّ ” (أشعيا ١ : ١٦) .
ثانياً : يُعلّمنا ، أنّ المؤمن مدعوّ إلى المساهمة في تحقيق هدف الله ، أعني خلاص البشر. وأنّ هذه المساهمة لا تتحقّق إلا بالمثال الصالح والقدوة الحسنة . الكلام والوعظ والتعليم والأنشطة الرسوليّة وما إليها، وسائل لا أهداف . وهذه كلّها لا تؤثّر في الآخر، إلّا إذا خرجت من أناس طاهرين نقيين وصادقين ومخلصين ، وسالكين في وصايا الربّ وتقواه ومخافته .
لذلك تشدّد الكنيسة على حياة التوبة ، وعلى البعد الداخلي للحياة المسيحيّة . إذ إنّ تتميم جميع الوصايا، من حيث الظاهر، ممكن ، من دون أن يرافقه تتميم لها، من الداخل . وهذا ما كان عليه الفريّسيون ، في زمن المسيح . يتبيّن من الإنجيل المقدّس ، أنّ السيّد ما كان قاسياً مع أحد ، كما كان مع هؤلاء المؤمنين المرائين ، أعني الفرّيسيين، الذين وصفهم ” بالقبور المُبَيَّضَة ، ظاهرها جميل ، وباطنها ممتلئ بعظام الموتى وبكلّ فساد . وأنتم هكذا تظهرون للناس أبراراً ، وباطنكم كلّه رياء وشرّ ” (متى ٢٣ : ٢٧) .
بنو الملكوت وبنو البشر متشابهان من الخارج مختلفان في الثمر :
يقول الرسول بولس في رسالته الأولى لكنيسة قورنتس : ” كتبت إليكم في رسالتي أن لا تخالطوا الزناة . ولا أعني زناة هذا العالم أو الجشعين والسرّاقين وعبّاد الأوثان على الإطلاق ، وإلّا وجب عليكم الخروج من العالم !” (قورنتس الأولى ٥ : ٩) . هذا ما يعني أن المؤمنين يحيون في هذا العالم لا في عزلة عنه ، بل فيه . لكنّهم يتميزون بعدم مسايرتهم له في ما لا يتوافق وقيم إيمانهم وجوهره . هم يتعاطون مع البشر بمحبّة ورصانة ، انطلاقاُ من تعاليم وقيم إنجيلهم . لا يحكمون على المختلف عنهم ، ولا يقتلونه ، لا جسديّاً ولا معنوياً . بل يبذلون جهدهم لكي يكونوا مخلصين لتعاليم مسيحهم، أمناء على إيمانهم ، شهوداً لربّهم . ويتمّمون هذا كلّه بسيرة لا عيب فيها . وإن شابها نقص ، بسبب الضعف البشري ، فإنّهم سرعان ما يصلحونه .
يعلمون جيداً أنّهم شهود لإيمانهم في قلب المجتمع ، فلا يشاركون في ما يخالفه او يكون ضدّهُ . يمتنعون عن السيّئات والجرائم ، وإن سار عليها كلّ مجتمعهم . يبقون على الأمانة والإخلاص . بقدر ما تكون سيرتهم بلا لوم ، يعملون بصمت ، دون أن يقتحموا على الآخرين حياتهم ، بفرح إيمانهم ونقاوته .
بنو الملكوت يصنعون محبة وفرحٍ وسلام :
منعت الثورة الشيوعيّة الصينيّة ، الراهبات ، اللواتي يخدمن في المستشفيات ، من الكلام مع المرضى . وحدث أن أُدخل أحد المسؤولين الكبار إلى إحدى هذه المستشفيات ، بحالة خطرة . هذا بعدما رأى حنان الراهبات وتفانيهنّ في خدمة المرضى ، قال لرئيستهن ، بانذهال : ” كم هو إلهكم مُحبّ ، حتى إنكنّ محبّات وخدومات بهذا المقدار! ” . هذا الرجل شجّع المسؤولون ، في ما بعد ، على الطلب من الأم تيريزا دي كلكوتا، أن تفتح فروعاً لجمعيّتها، المعروفة براهبات ” مرسلات المحبّة ” ، في الصين، التي كانت بلداً مغلقاً على التبشير بالمسيح يسوع .
أوصى المسيح تلاميذه، ومن خلالهم كلّ أتباعه في العالم قائلاً لهم : ” كونوا لي شهوداً في أورشليم والسامرة وإلى أقاصي الأرض “. هذه كانت وصيّته الأخيرة ، قبل صعوده إلى السموات . لذلك كانت السيرة النقيّة، والأمانة المطلقة في حفظ تعاليمه ، على وجوههم ، عند مسيحييّ القرون الأولى .
لم يقل المسيحيون أبداً نحن في وسط مجتمع كاره للمسيح ومعادٍ لنا، فلنعتزل ولنعيش وحدنا، ولنذهب إلى حيث يكون المسيح محبوباً !!!
بل قاطعوا رداءة العالم وسيّئاته ، حفظوا عفّتهم ، وخدم العبيد منهم أسيادهم الفاسقين بكلّ تفانٍ وإخلاص . وهكذا خمّروا البلاد الوثنيّة بخميرة الإنجيل ، ونقلوها بدمائهم وعرقهم وإلتزامهم الروحي الصافي، إلى العالم بأسره .
الشرير يعمل لكي يحوّل الحنطة إلى زؤان ،
وينو الملكوت يعملون ليحوّلوا الزؤان إلى حنطة على مثال معلمهم الإلهيّ ،
لإن إبن الإنسان جاء ليطلب الخاطئ والمريض والضال ،
إبن الإنسان لم يأتي ليهلك الزؤان ، بل جاء ليخلصه .
وهكذا نحن ، على مثال يسوع ، رسالتنا أن نعمل ليصير الزؤان حنطة ، والحنطة خبزاً ، والخبز يتحوّل بسر الإفخارستيا وبقوة الرُّوح القُدُس إلى جسد المسيح لخلاصنا وخلاص العالم وحياته وسلامه .