أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
نستأنف التّعليم في موضوع التّمييز- لأنّ موضوع التّمييز مهمٌّ جدًّا لكي نعرف ماذا يحدث في داخلنا، من أحاسيس وأفكار، لذا علينا أن نميّز من أين تأتي تلك الأحاسيس والأفكار، وإلى أين تأخذني، وإلى أيّ قرار-، وسنتوقّف اليوم عند أوّل العناصر المكوِّنَة له، أيّ الصّلاة. حتّى نميّز، يجب علينا أن نكون في مكان مناسب وفي حالة صلاة.
الصّلاة هي عنصر مساعد لا غنى عنه من أجل التّمييز الرّوحي، وخاصّة عندما تشارِك المشاعر في الصّلاة، وتسمح لنا بالتوجّه إلى الله ببساطة وألفة، كما لو أنّنا نتحدّث إلى صديق. الصّلاة هي أن نعرف كيف نتجاوز الأفكار، وندخل في صلة حميمة مع الرّبّ يسوع، وبعفويّة ومودة. سرّ حياة القدّيسين هو الألفة والثقة بالله، التي كانت تنمو فيهم، وتسهِّل عليهم معرفة ما يرضيه. الصّلاة الحقيقيّة هي الألفة والثقة بالله. لا أن نردّد الصّلوات مثل البّبغاء، لا. الصّلاة الحقيقيّة هي تلك العفويّة والمليئة بالمودّة مع الرّبّ يسوع. هذه الألفة تتغلّب على الخوف أو على الشّك في أنّ إرادته ليست من أجل خيرنا، وهي التّجربة التي تراود أفكارنا أحيانًا وتجعل قلبنا قلقًا وفي حالة شك، أو مرارة أيضًا.
لا يتطلّب التّمييز يقينًا مطلقًا – فهو ليس أسلوبًا كيميائيًّا مطلقًّا، لا، ولا يتطلّب يقينًا مطلقًا -، لأنّه يتصل بالحياة، والحياة ليست منطقيّة دائمًا، فهي تقدّم جوانب كثيرة لا يمكن حصرها في فئة واحدة من التّفكير. نحن نودّ أن نعرف بدقة ما الذي يجب أن نفعله، ومع ذلك، حتّى عندما يحدث ذلك الأمر، نحن لا نتصرّف دائمًا بصورة منطقية. كم مرّة عشنا نحن أيضًا الخبرة التي وصفها الرّسول بولس، وهي: “أَنَّ الخَيرَ الَّذي أُريدُه لا أَفعَلُه، والشَّرَّ الَّذي لا أُريدُه إِيَّاه أَفعَل” (رومة 7، 19). نحن لسنا عقولًا فقط، ولسنا آلات، ولا يكفي أن نتلقّى التّعليمات لننفّذها: فالعقبات دون تقريرنا، مثل المساعدات لكي نقرّر من أجل الرّبّ يسوع، هي قبل كلّ شيء مليئة بالمشاعر، ومن القلب.
إنّه لأمرٌ له معنى أنّ المعجزة الأولى التي صنعها يسوع في إنجيل مرقس هي طرده للأرواح الشّريرة (راجع 1، 21-28). في مجمع كفرناحوم حرّر إنسانًا من الشّيطان، وحرّره من الصّورة المشوهة لله التي يقترحها الشّيطان علينا منذ البداية، وهي صورة الله الذي لا يريد سعادتنا. الشّخص الذي كان فيهِ رُوحٌ نَجِس، في ذلك المقطع من الإنجيل، كان يعلم أنّ يسوع هو الله، إلّا أنّ هذا الأمر لم يحمله على الإيمان به. بل قال: “أَجِئتَ لِتُهلِكَنا” (الآية 24).
يعتقد الكثيرون، والمسيحيّون أيضًا، الأمر نفسه: أي أنّ يسوع يمكن أن يكون أيضًا ابن الله، لكنّهم يشكّون في أنّه يريد سعادتنا، بل يخشى بعضهم إن أخذوا عرضه على محمل الجدّ، وهو ما يقترحه علينا يسوع، فهذا يعني أن ندمّر حياتنا، ونكبح رغباتنا وأقوى تطلّعاتنا. هذه الأفكار تظهر أحيانًا في داخلنا: وهو أنّ الله يطلب منّا الكثير، ونحن نخاف من أن يطلب الله منّا الكثير، وأنّه لا يحبّنا حقًّا. لكن رأينا في لقائنا الأوّل [في موضوع التّمييز] أنّ علامة الّلقاء مع الرّبّ يسوع هي الفرح. عندما ألتقي مع الرّبّ يسوع في الصّلاة، أُصبحُ فرِحًا. كلّ واحدٍ منّا يُصبحُ فرِحًا، وهذا أمرٌ جميل. بينما الحزن أو الخوف هما من علامات البُعد عن الله: قال يسوع للشّاب الغني “إِذا أَرَدتَ أَن تَدخُلَ الحَياة، فَاحفَظِ الوَصايا” (متّى 19، 17). للأسف، بعض العقبات لم تسمح لذلك الشّاب أن يحقّق رغبة قلبه في أن يتبع عن قُرب ”المعلّم الصّالح“. كان شابًّا مهتمًّا وجريئًا، وبادر إلى لقاء يسوع، لكنّه كان أيضًا منقسمًا جدًّا في عواطفه، لأنّ الغِنَى كان مهمًّا جدًّا بالنّسبة له. لم يجبره يسوع على أن يتّخذ قرارًا، لكنّ النّص يقول إنّ الشّاب ابتعد عن يسوع “حزينًا” (الآية 22). من يبتعد عن الرّبّ يسوع لن يكون سعيدًا أبدًا، حتّى لو كان يملك خيرات وإمكانيّات كثيرة. يسوع لا يجبرنا أبدًا على أن نتبعه، أبدًا. يسوع يجعلنا نعرف إرادته، ويجعلنا من كلّ قلبه نعرف الأمور، لكنّه يتركنا أحرارًا. وهذا هو الأمر الأجمل في الصّلاة مع يسوع: الحريّة التي يتركها لنا. لكن عندما نبتعد نحن عن الرّبّ يسوع، يبقى في داخلنا أمر محزن، وأمر سيّئ في قلبنا.
أن نميّز ما الذي يحدث في داخلنا ليس سهلًا، لأنّ المظاهر تخدع، بينما الألفة مع الله يمكن أن تبدّد شكوكنا ومخاوفنا بهدوء، وتجعل في حياتنا مزيدًا من القبول لـ “نوره اللطيف”، بحسب التّعبير الجميل للطّوباوي جون هنري نيومان. القدّيسون يشعون النّور المنعكس عليهم، ويُبيّنون بحركات بسيطة في يومهم حضور محبّة الله، الذي يجعل المستحيل أمرًا ممكنًا. يُقال إنّ الزّوجين اللذَين عاشا معًا فترة طويلة في محبّة متبادلة، يُصبحان متشابهَين. يمكننا أن نقول شيئًا مشابهًا عن الصّلاة المليئة بالمشاعر: إنّها تجعلنا، بطريقة تدريجيّة لكن فعّالة، أكثر قدرة على أن نتعرّف على ما هو مهمّ بسبب التشابه في الطبيعة، مثل شيء ينبع من أعماق كياننا. أن نكون في حالة صلاة لا يعني أن نقول كلمات وكلمات، لا، بل أن نكون في حالة صلاة يعني أن نفتح قلبنا على يسوع، وأن نقترب من يسوع، وندع يسوع يدخل في قلبنا ويُشعرنا بحضوره. وهناك يمكننا أن نميّز متى يكون يسوع، ومتى نكون نحن مع أفكارنا، بعيدين في كثير من المرّات عمّا يريده يسوع منّا.
لنطلب هذه النعمة: أن نعيش علاقة صداقة مع الرّبّ يسوع، مثل الصّديق الذي يتحدّث إلى صديقه (راجع القدّيس أغناطيوس دي لويولا، رياضات روحية، 53). كنت أعرف أخًا تقيًّا كبيرًا في السّنّ، وكان البوّاب لأَحَدِ الأديرة، وفي كلّ مرّة كان يستطيع أن يقترب من الكابيلّا، كان ينظر إلى الهيكل ويقول: ”مرحبًا“، لأنّه كان قريبًا من يسوع. لم يكن بحاجة لأن يردّد كلامًا كثيرًا، لا، بل كان يكتفي بالقول: ”مرحبًا، أنا قريبٌ منكَ، وأنتَ قريبٌ منّي“. هذه هي العلاقة التي يجب أن تكون لدينا في الصّلاة: قُرب، وقُرب مع مودّة مثل الإخوة، وقُرب مع يسوع. وابتسامة، وحركة بسيطة من دون أن نردّد كلمات لا تصل إلى القلب. وكما قلت، أن نتحدّث إلى يسوع مثل الصّديق الذي يتحدّث إلى صديقه. إنّها نعمة يجب أن نطلبها بعضُنا لبعض: أن نرى يسوع صديقنا، صديقنا الأكبر والأكثر إخلاصًا، الذي لا يستغلُّنا، وقبل كلّ شيء لا يتخلَّى عنّا أبدًا، حتّى عندما نبتعد نحن عنه. يسوع يبقى واقفًا عند باب قلبنا. ولكنّنا نقول له: ”لا، أنا لا أريد أن أعرف أيّ شيء معك“. وهو يبقى صامتًا، ويبقى هناك حاضرًا، لأنّه أمينٌ دائمًا. لنمضِ قُدُمًا مع هذه الصّلاة، ولْنقلْ صلاة الـ ”مرحبًا“، وصلاة إلقاء التحيّة على الرّبّ يسوع من قلبنا، وصلاة المودّة، وصلاة القُرب، بكلماتٍ قليلة، لكن بحركاتٍ وأعمالٍ صالحة. شكرًا.
*******
قِراءَةٌ مِن رِسالَةِ القِدّيسِ بولس الرَّسول إلى أهلِ أَفَسُس (5، 15. 17-20)
[أيُّها الإخوة]، تَبصَّروا إِذًا تَبَصُّرًا حَسَنًا في سيرتِكُم فلا تسيروا سيرةَ الجُهَلاء، بل سيرةَ العُقَلاء. […] فإِيَّاكُم أَن تَكونوا مِنَ الأَغبِياء، بلِ افهَموا ما هي مَشيئَةُ الرَّبّ. […] دَعُوا الرُّوحَ يَمْلَأُكُم واتْلُوا مَعًا مَزاميرَ وتَسابِيحَ وأَناشيدَ رُوحِيَّة، […] واشكُرُوا اللهَ الآبَ كُلَّ حينٍ على كُلِّ شَيءٍ باسمِ رَبِّنا يسوعَ المسيح.
كلامُ الرَّبّ
*******
Speaker:
تَكلَّمَ قَداسَةُ البابا اليَومَ علَى العُنصُرِ الأوّلِ مِن عناصرِ التّمييزِ وهوَ الصَّلاة، وقال: الصّلاةُ هيَ عنصرٌ مساعدٌ لا غِنَى عنهُ مِن أجلِ التّمييزِ الرُّوحي، وخاصّةً عندما تَمتَلِئُ الصَّلاةُ بالمشاعر، وتَجعَلُنا نتوجَّهُ إلى اللهِ ببساطةٍ وأُلفَة، كما لو أنَّنا نتحدَّثُ إلى صديق. الصَّلاةُ هيَ أن نعرفَ كيفَ نتجاوَزُ أفكارَنا، ونَدخُلُ في صِلَةٍ حميمةٍ مَعَ الرَّبِّ يسوع. فالأُلفَةُ معهُ تُساعِدُنا على أنْ نتغلَّبَ على الخوفِ أو على الشَّكِ في أنَّ إرادتَهُ ليست من أجلِ خيرِنا، وهيَ تجربةٌ تُراوِدُنا أحيانًا وتجعلُ قلبَنا قَلِقًا وَمُتَرَدِّدًا. يَعلَمُ المسيحيُّونَ أنَّ يسوعَ هو ابنُ الله، لكنَّ البعضَ منهُم يشُكُّ أحيانًا في أنَّهُ يريدُ سعادَتَنا، بلْ يخشُونَ إنْ سارُوا معهُ جدِّيًّا، أنْ تُدَمَّرَ حياتُهُم، فيجبُ كبحُ رغباتِهِم، وتطلُّعاتِهِم، والابتعادُ عن كلِّ عزيزٍ علَيهِم. لكن رأينا في لقائِنا الأوَّلِ في موضوعِ التَّمييزِ أنَّ علامةَ الّلقاءِ مَعَ الرَّبِّ يسوع هي الفرح. بينما الحزنُ أو الخوفُ هما مِن علاماتِ البُعدِ عنه. مَن يبتعدُ عنِ الرَّبِّ يسوع لنْ يكونَ سعيدًا أبدًا، حتّى لو كان يملِكُ خيراتٍ وإمكانيّاتٍ كثيرة. التَّمييزُ ليس سَهلًا، لأنَّ المظاهِرَ تخدَعُنا، بينما الأُلفَةُ مَعَ اللهِ يمكنُ أنْ تُبَدِّدَ شكوكَنا ومخاوِفَنا، وتجعلَنا قادرينَ علَى أنْ نميِّزَ بطريقةٍ فعّالَة. لذلكَ الصَّلاةُ المليئةُ بالمشاعرِ تساعدُنا على التَّمييز، وتجعلُنا أكثرَ قدرةً علَى معرفةِ ما هو مُهِمٌّ لحياتِنا، وما هو سببُ فرحِنا.
Speaker:
أُحَيِّي المؤمِنينَ الناطِقينَ باللغَةِ العربِيَّة. لِنَعِشْ عَلاقةَ صَداقَةٍ مَعَ الرَّبِّ يسوع، لأنَّهُ صديقُنا الأكبرُ والأكثرُ إخلاصًا، وهو لا يَستَغِلُّنا، ولا يَتَخَلَّى عنّا أبدًا، حتَّى عندما نَبتَعِدُ نحن عنهُ. باركَكُم الرّبُّ جَميعًا وحَماكُم دائِمًا مِن كُلِّ شَرّ!
*******
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana