vatican media

البابا من البحرين: لا يمكننا أن نشهد حقًا لإله المحبّة إن لم نكن متّحدين فيما بيننا كما يشاء هو

كلمة البابا فرنسيس في اللقاء المسكوني والصلاة من أجل السلام في عوالي – كاتدرائيّة سيّدة شبه الجزيرة العربيّة

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

صاحب السّمو الملكيّ،

سعادة السّيّد وزير العدل،

شكرًا على حضوركما الذي يشرّفنا،

“بينَ فَرثِيِّين وميدِيِّين وعَيْلامِيِّين وسُكَّانِ الجَزيرَةِ بَينَ النَّهرَين واليَهودِيَّةِ وقَبَّدوقِية وبُنطُس وآسِيَة وفَريجِيَة وبَمفيلِيَة ومِصرَ ونَواحي ليبِيَةَ المُتاخِمَةِ لِقِيرِين، ورُومانِيِّينَ نُزَلاءَ هٰهُنا مِن يَهودٍ ودُخَلاء وكَريتِيِّينَ وعَرَب. فإِنَّنا نَسمَعُهم يُحَدِّثونَ بِعَجائِبِ اللهِ بِلُغاتِنا” (أعمال الرّسل 2، 9-11).

صاحب القداسة، أخي العزيز البطريرك برثلماوس، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، يبدو أنّ هذه الكلمات كُتِبَت لنا اليوم: شعوب عديدة ولغات عديدة، من أنحاء كثيرة ومن طقوس كثيرة، نحن هنا معًا، ونحن معًا بسبب العجائب الكبيرة التي صنعها الله! – نحن في سلام، مثل ذلك اليوم في صباح العنصرة، الذي فيه لم يَفهم أحد شيئًا -. في أورشليم، في يوم العنصرة، على الرّغم من قدومهم من مناطق عديدة، شعروا بأنّهم موحَّدون في روح واحدة: اليوم، مثل أمس، تنوّع الأصّول واللغات ليس مشكلة، بل غِنى. كتب مؤلف قديم: “لو قال قائلٌ لواحد منّا: لقد قبلت الرّوح القدس، فلماذا لا تتحدّث بكلّ اللغات؟ يجب أن تجيب: بالتّأكيد أنا أتحدّث بجميع اللغات، في الواقع أنا منغرس في جسد المسيح، أي في الكنيسة التي تتحدّث بكلّ اللغات” (كلمة مؤلف أفريقي من القرن السادس: المؤلفات اللاتينية لأباء الكنيسة 65، 743).   

أيّها الإخوة، هذا ينطبق علينا أيضًا، لأنّنا “اعتَمَدْنا جَميعًا في رُوحٍ واحِد لِنَكونَ جَسَدًا واحِدًا” (1 قورنتس 12، 13). للأسف، لقد جَرجنا جسد الرّبّ يسوع المقدّس بتمزقاتنا، لكن الرّوح القدس، الذي يوحّد جميع الأعضاء، هو أكبر من انقساماتنا الجسديّة. لذلك من الصّواب أن نقول إنّ ما يوحّدنا أكثر بكثير ممَّا يفرقنا، وكلّما سِرنا بحسب الرّوح، كلّما زادت رغبتنا لنستعيد، بعون الله، الوَحدة الكاملة بيننا.

لِنَعُدْ إلى نص العنصرة. أثناء التأمّل فيه، رأيت في داخلي أمرَين، يبدو لي أنّهما مفيدان في مسيرتنا، مسيرة الشّركة والوَحدة، ولهذا أودّ أن أشاركهما معكم. هما الوَحدة في التنوّع وشهادة الحياة.

الوَحدة في التنوّع. قال سفر أعمال الرّسل إنّ التّلاميذ كانوا في يوم العنصرة، “مُجتَمِعينَ كُلُّهم في مَكانٍ واحِد” (2، 1). نلاحظ كيف أنّ الرّوح الذي نزل على كلّ واحد منهم، اختار اللحظة التي كانوا فيها كلّهم مجتمِعين معًا. كان يمكنّهم أن يعبدوا الله ويصنعوا الخير للقريب منفصلِين، كلُّ واحد وحده، ولكن بالاقتراب في الوَحدة يُفتَحُ باب عجائب الله على مصراعيه. الشّعب المسيحي مدعوٌ إلى أن يجتمع معًا حتى تتحقّق عجائب الله. أن نكون هنا في البحرين قطيع المسيح الصّغير، منتشرًا في أماكن وطوائف مختلفة، يساعد على أن نتنبّه لحاجتنا إلى الوَحدة، وإلى المشاركة في الإيمان: كما هو الحال في مجموعة الجزر الصّغيرة، إذ لا تنقص الرّوابط القويّة بين الجزر، ليكن كذلك أيضًا بيننا، حتّى لا نكون منعزلين، بل في شركة أخويّة.

أيّها الإخوة والأخوات، أسأل نفسي: كيف نجعل الوَحدة تنمو إن بدا أنّ التاريخ والعادات والالتزامات والمسافات تجذبنا إلى أنحاء أخرى؟ ما هو ”مكان اللقاء“، ”العلية الرّوحيّة“ لشركتنا ووَحدتنا؟ إنّه تسبيح الله الذي ينعشه الرّوح في الجميع. صلاة التّسبيح لا تفصل، ولا تُغلق النفس على ذاتها، وعلى حاجاتها الخاصّة، بل تضعنا في قلب الآب، وكذلك تربطنا بكلّ الإخوة والأخوات. صلاة التّسبيح والسّجود هي أسمى صلاة: فهي حرّة وغير مشروطة، وتجلب فرح الرّوح، وتنقيّ القلب، وتعيد الانسجام، وتشفيّ الوَحدة. إنّها مضادٌ للحزن، ولتجربة الاستسلام لمشاعر الانزعاج بسبب صغرنا الداخليّ وصغرنا الخارجيّ لأعدادنا. الذي يسبِّح لا يهتمّ لصغر القطيع، بل لجمال كوننا صغار الآب. التّسبيح، الذي يسمح للرّوح أن يسكب عزاءه فينا، هو علاج جيّد ضد العزلة والحنين إلى الوطن. إنّه يسمح لنا بأن نشعر بقرب الرّاعي الصّالح، حتى عندما يَثقل علينا نقص الرّعاة القريبين، المتكرّر في هذه الأماكن. الرّبّ يسوع، في صحارينا تحديدًا، يحبّ أن يفتح دروبًا جديدة وغير متوقعّة وأن يفجِّر ينابيع المياه الحيّة (راجع أشعيا 43، 19). التّسبيح والسّجود يقودان هناك، إلى ينابيع الرّوح القدس، ويعودان بنا إلى الأصول، إلى الوَحدة.

حسنٌ لكم أن تستمرّوا في تغذيّة التّسبيح لله فيكم، لكي تكونوا أكثر فأكثر، علامةَ وَحدةٍ لجميع المسيحيّين! استمرّوا أيضًا في العادة الجميلة، أي في وضع أماكن العبادة في خدمة الجماعات الأخرى، من أجل عبادة الرّبّ الواحد. في الواقع، ليس فقط هنا على الأرض، ولكن أيضًا في السّماء، هناك طريق واحد للتّسبيح يوحّدنا. إنّه طريق الشّهداء المسيحيّين الكثيرين من مختلف الطّوائف – كم من الأشخاص استُشهِدوا في هذه السّنوات الأخيرة في الشّرق الأوسط وفي العالم أجمع، كَم! الآن، هم يشكّلون سماءً واحدةً مرصّعة بالنّجوم، التي تُشير إلى الطّريق للذين يسيرون في صحاري التّاريخ: لدينا الهدف نفسه، ونحن كلّنا مدعوّون إلى ملء الشّركة مع الله.

لكن، لنتذكّر أنّ الوَحدة التي نحن نسير إليها، تتِم في الاختلاف. وهذا أمرٌ مهمّ يجب أخذه في عين الاعتبار، وهو: أنّ الوَحدة ليست ”أنّنا كلّنا متساوون“، لا، بل تتِم في الاختلاف. أوضحت رواية العنصرة أنّ كلّ واحدٍ سَمِعَ الرّسل يتكلّمون “بِلُغَةِ بَلَدِه” (أعمال الرّسل 2، 6): فالرّوح القدس لا يصوغ لغة متطابقة للجميع، بل يسمح لكلِّ واحدٍ أن يتكلّم بلغات الآخرين (راجع الآية 4)، ويجعل كلّ واحدٍ يسمع لُغَتَهُ على فمِ الآخرين (راجع الآية 11). باختصار، الوَحدة لا تُغلق علينا في تشابه ساحق للفرد، بل تهيؤنا للتّرحيب المتبادل في الاختلافات. هذا يحدث للذين يعيشون بحسب الرّوح القدس: فهو يعلِّم التّرحيب بكلّ أخ وأخت في الإيمان مثل جزء من الجسد الذي ننتمي إليه. هذا هو روح المسيرة المسكونيّة.

أيّها الأعزّاء، لنسأل أنفسنا كيف نتقدّم في هذه المسيرة. أنا، الرّاعي، والخادم، والمؤمّن، هل أنا مطيع لعمل الرّوح القدس؟ هل أعيش المسكونيّة على أنّها عبء، والتزامٌ إضافيّ، وواجبُ مؤسّسة، أم مثل رغبة يسوع الصّادقة في أن نصير “واحِدًا” (يوحنّا 17، 21)، ومثل رسالة تنبع من الإنجيل؟ عمليًّا، ماذا أفعل للإخوة والأخوات الذين يؤمنون بالمسيح، وهم ليسوا ”من كنيستي“؟ هل أعرفهم، وهل أبحث عنهم، وهل أهتمّ بهم؟ هل أحافظ على المسافات بيني وبينهم، وأتصرّف بطريقة رسميّة، أم أحاول أن أفهم القصّة وأقدّر الخصوصيّات، دون أن أعتبرها عقبات لا يمكن التغلّب عليها؟

بعد الوَحدة في الاختلاف، نأتي إلى الموضوع الثّاني: شهادة الحياة. في عيد العنصرة، انفتح التّلاميذ، وغادروا العليّة. منذ تلك اللحظة سيذهبون إلى كلّ مكان في العالم. أورشليم، التي بدت لهم نقطة الوصول، صارت نقطة الانطلاق لمغامرة غير عاديّة. الخوف الذي كان يُبقيهم منغلقين في البيت صار ذكرى بعيدة: إنّهم يذهبون الآن إلى كلّ مكان، لكن، لا ليتميّزوا عن الآخرين ولا حتّى ليحدثوا ثورة في نظام المجتمع وفي النظام العالميّ، بل ليشعّوا، بحياتهم، جمال محبّة الله في كلّ ركن في العالم. في الواقع، شهادة حياتنا ليست خطابًا بالكلمات، بل هي شهادة يجب إظهارها بالأفعال، والإيمان ليس امتيازًا يجب أن نطالب به، بل هو عطيّة يجب أن نشاركها. يقول نصّ قديم، إنّ المسيحيّين “لا يعيشون في مدن معينّة، ولا يستخدمون لغة غريبة، ولا يتبنّون أسلوب حياة خاصّ، […] كلّ منطقة غريبة هي موطنهم […]. يعيشون على الأرض، ومواطنتهم في السّماء. يحترمون القوانين الموضوعة، لكن مع أسلوب حياتهم هم فوق القوانين. إنّهم يحبّون الجميع” (Epistola a Diogneto, V). إنّهم يحبّون الجميع: هذه هي العلامة المسيحيّة، وجوهر الشّهادة. وجودكم هنا في البحرين، سمح للكثيرين منكم أن يعيد اكتشاف بساطة المحبّة الحقيقيّة وأن يمارسها: أفكّر في المساعدة التي تقدَّم إلى الإخوة والأخوات الذين يَصِلون إلى هنا، وفي حضور مسيحيّ يشهد في تواضع يوميّ، وفي مكان العمل، التفهّم والصّبر، والفرح والوداعة، واللّطف وروح الحوار. في كلمة واحدة: السّلام.

حسنٌ لنا أن نتساءل عن شهادتنا، لأنّه مع مرور الوقت يمكننا أن نمضي قدمًا ونحن خاملون وتضعف فينا مقدرتنا على إظهار يسوع، إذ ننسى روح التّطويبات، والاتساق بين قولنا وعملنا، وصلاح الحياة، والسّلوك السّلمي. لنسأل أنفسنا الآن ونحن نصلّي معًا من أجل السّلام: هل نحن حقًا أصحاب سلام؟ هل تسكننا الرّغبة في أن نبيّن وداعة يسوع في كلّ مكان، دون أن ننتظر أيّ شيء في المقابل؟ هل نتبنّى، ونحمل في قلوبنا وفي صلاتنا، الجهود والجراح والانقسامات التي نراها من حولنا؟

أيّها الإخوة والأخوات، أردت أن أشارككم هذه الأفكار في الوَحدة التي يقوّيها التّسبيح، وفي الشّهادة التي تقوّيها المحبّة. الوَحدة والشّهادة عنصران أساسيّان: لا يمكننا أن نشهد حقًا لإله المحبّة إن لم نكن متّحدين فيما بيننا كما يشاء هو. ولا يمكننا أن نكون متّحدين إن بقي كلّ واحد على حدة، دون أن ننفتح على الشّهادة، ودون أن نوّسع حدود اهتماماتنا وجماعاتنا باسم الرّوح الذي يعانق كلّ لغة ويريد أن يصل إلى كلّ واحد. أسمح لنفسي أن أضيف تأمّلًا: خلق الرّوح القدس في ذلك اليوم اختلافًا كبيرًا (تنوّعًا كبيرًا)، الذي بدى كأنّه اضطرابٌ كبير. لكن الرّوح القدس نفسه الذي أعطى المواهب المختلفة، هو نفسه الذي خلق الوَحدة، الوحدة في كونها انسجام. الرّوح القدس هو الانسجام، كما قال أحد آباء الكنيسة الكِبَار: ”Ipse Harmonia est“، إنّه الانسجام نفسه. هذا ما نصلّي نحن من أجله، وهو أن يحدث هذا الانسجام بيننا. إنّه يوحّد ويرسل، ويجمع في شركة ويرسلنا لنحمل الرّسالة. لِنعهد إليه بطريقنا المشترك، في الصّلاة، ولْنبتهل إليه أن يفيض علينا عنصرة متجدّدة، تعطينا نظرات جديدة وخطوات سريعة في مسيرتنا، مسيرة الوَحدة والسَّلام.

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير