vatican media

من صليب المسيح نتعلّم المحبّة، لا الكراهية، ونتعلّم الرّأفة، لا اللّامبالاة، ونتعلّم المغفرة، لا الانتقام

النص الكامل لعظة البابا في القداس الإلهي في عيد ارتفاع الصّليب المقدّس

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

الصّليب هو مشنقة الموت، ولكن في هذا العيد نحتفل بارتفاع صليب المسيح. لأنّه على تلك الخشبة حمل يسوع على عاتقه خطيئتنا وشرّ العالم، وهزمهما بمحبّته. لهذا نحتفل اليوم. تبيِّن لنا ذلك كلمة الله التي أصغينا إليها: هناك من ناحية، الحيّات التي تلدغ، ومن ناحية أخرى الحيّة التي تخلّص. لنتوقّف عند هاتَين الصّورتَين.

أوّلًا، الحيّات التي تلدغ. إنّها تلدغ الشّعب الذي سقط للمرّة الألف في خطيئة التذمّر. التذمّر على الله لا يعني فقط كلام السّوء والتذمّر عليه تعالى؛ بل هو، بمعنى أعمق، غياب الثقة بالله، وبوعده، من قلوب بَني إِسْرائيل. كان شعب الله، في الواقع، يسير في الصّحراء نحو أرض الميعاد وقد أنهكه التعب، ولم يستطِع تحمّل السّفر (راجع عدد 21، 4). فأحبطت عزيمته، وفقد الرّجاء، وفي لحظة معينة بدا الأمر كما لو أنّه نسي وعد الله: لم يعد لدى هؤلاء الناس القوّة ليؤمنوا بأنّه هو الذي يقود مسيرتهم نحو أرض غنيّة ومثمرة.

ليس من قبيل الصّدفة أنّه عندما نَفَدَت الثقة بالله، بدأت الحيّات القاتلة تلدغ الشّعب. إنّها تذكّرنا بالحيّة الأولى التي تكلّم عليها الكتاب المقدس في سِفر التكوين، إنّها المجرّب الذي سمّم قلب الإنسان وجعله يشك في الله. في الواقع هو أنّ الشّيطان، بالتّحديد في شكل حيّة، قد فَتَنَ آدم وحواء، وولّد فيهما عدم الثقة وأقنعهما أنّ الله ليس صالحًا، بل هو حسودٌ بسبب حريتهما وسعادتهما. والآن، في الصّحراء، عادت الحيّات، “الحَيَّاتِ اللاَّذعة” (عدد 21، 6)؛ أيّ عادت الخطيئة الأصليّة: بَنو إسْرائيل يشكُّون في الله، ولا يثقون به، ويتذمرّون، ويتمردون على من أعطاهم الحياة، وبالتالي يعرِّضون أنفسهم للموت. هذا ما يُحدِثُه عدم الثقة في القلب!

أيها الإخوة والأخوات الأعزّاء، هذا الجزء الأوّل من القصة يطلب منّا أن ننظر عن كثب إلى اللحظات في تاريخنا الشّخصيّ والجماعيّ التي غابت فيها الثقة بالله، وثقتنا بعضنا ببعض. كم مرّة فقدنا الثقة والصّبر، وقَسَوْنا في صحاري حياتنا، وغاب عن بصرنا هدف المسيرة! حتى في هذا البلد الكبير توجد الصّحراء التي تقدّم لنا مشاهد رائعة، وتذكّرنا في الوقت نفسه بالتعب والجهد، والجفاف الذي نحمله في قلوبنا. إنّها لحظات التعب والمحنة، التي لم تَعُدْ لدينا فيها القوّة لننظر إلى العُلَى، إلى الله؛ إنّها مواقف في الحياة الشّخصيّة والكنسيّة والاجتماعيّة، التي تلدغنا فيها حيّة عدم الثقة، وتنفث فينا سموم خيبة الأمل وصعوبة العيش والتشاؤم والاستسلام، فننغلق في ”الأنا“، وتُطفئ فينا الحماس.

في تاريخ هذه الأرض، كانت هناك لدغات أخرى مؤلمة: أفكّر في حيّات العنف اللاَّذعة، والاضطهاد الإلحاديّ، ومسيرة مُضنِيَة أحيانًا، هدَّدَت حرية الشّعب وجرحت كرامته. حَسَنٌ لنا أن نحتفظ بذكرى آلامنا: يجب ألّا نزيل بعض الظلمات في ذاكرتنا، وإلا يمكن أن نظن أنّها مياه عابرة، وأن طريق الخير صار محدّدًا بشكل نهائي. لا، لا يتمّ كسب السّلام أبدًا مرّة واحدة وإلى الأبد، بل يجب الفوز به كلّ يوم، وكذلك العيش معًا بين الجماعات العرقيّة والتّقاليد الدينيّة المختلفة، والتنمية المتكاملة، والعدالة الاجتماعيّة. حتى يتمّ مزيد من التقدّم والنمو في كازاخستان “في الأخوّة والحوار والتفاهم […]، ولبناء جسور تعاون وتضامن مع الشّعوب والأمّم والثقافات الأخرى” (القدّيس يوحنا بولس الثاني، خطاب أثناء حفل الترحيب، 22 أيلول/سبتمبر 2001)، يحتاج البلد إلى التزام الجميع. حتى قبل ذلك، هناك حاجة إلى فعل إيمان متجدّد بالله: أن ننظر إلى العُلَى، وأن ننظر إليه تعالَى، وأن نتعلّم من محبّته الشّاملة على الصّليب.

وهكذا نأتي إلى الصّورة الثّانية وهي: الحيّة التي تُخلّص. بينما كان الشّعب يموت بسبب الحيّات اللّاذعة، استجاب الله لصلاة موسى يتشفّع بالشّعب، وقال له: “اصنَعْ لَكَ حَيَّةً لاذِعَةً واجعَلْها على سارِيَة، فكُلُّ لَديغٍ يَنظُرُ إِلَيها يَحْيا” (عدد 21، 8). في الواقع، “كانَ أَيُّ إِنْسانٍ لَدَغَته حَيَّةٌ ونَظَرَ إِلى الحَيَّةِ النُحاسِيَّةِ يَحْيا” (آية 9). ومع ذلك، يمكن أن نتساءل: لماذا لم يقضِ الله ببساطة على الحيّات السّامّة، بدل أن يعطي هذه التّعليمات المعقّدة لموسى؟ يبَيِّن لنا هذا طريقة الله في التعامل مع الناس، أمام الشّرّ، والخطيئة وانعدام الثّقة في البشريّة. وكما في الماضي، كذلك الآن أيضًا، في المعركة الروحيّة الكبرى التي تسكن التاريخ حتى النّهاية، لا يبيد الله الشّرّ الذي يسعى إليه الإنسان بحريّته: الحيّات السّامّة لا تختفي، إنّها دائمًا موجودة، وتتربّص بنا، ويمكنها دائمًا أن تلدغ. ما الذي تغيّر إذن، وماذا صنع الله؟

شرح يسوع ذلك في الإنجيل، قال: “كما رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة، فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإِنسان، لِتَكونَ بِهِ الحَياةُ الأَبديَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن” (يوحنّا 3، 14-15). هذا هو التحوّل: وصلت إلى ما بيننا الحيّة التي تخلّص: وهو يسوع الذي رُفع على خشبة الصّليب، ولا يسمح للحيّات السّامّة التي تهاجمنا، أن تقودنا إلى الموت. أمام وَضَاعَتنا، وَهَبنا الله سُمُوًّا جديدًا وهو: إن أبقينا نظرنا موجّهًا إلى يسوع، لن تستطع بعد لدغات الشّرّ أن تسيطر علينا، لأنّ يسوع، على الصّليب، أخذ على عاتقه سُمّ الخطيئة والموت، وهزم قوّتها المدمّرة. هذا ما فعله الآب أمام انتشار الشّرّ في العالم، لقد أعطانا يسوع، الذي تقرّب منّا كما لم يكن بإمكاننا أن نتخيّل أبدًا: “ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَلَه اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا” (2 قورنتس 5، 21). هذه هي عَظَمَة الرّحمة الإلهيّة التي لا نهاية لها: يسوع الذي ”صار خطيئة“ من أجلنا، ويسوع الذي على الصّليب ”صار حيّة“ – يمكننا أن نقول -، حتّى إذا ما نظرنا إليه أمكننا أن نقاوم لدغات الحيّات السّامّة والخبيثة التي تهاجمنا.

أيّها الإخوة والأخوات، هذا هو الطّريق، طريق خلاصنا، وولادتنا من جديد وقيامتنا، وهو: أن ننظر إلى يسوع المصلوب. من هذا الارتفاع يمكننا أن نرى حياتنا وتاريخ شعوبنا بطريقة جديدة. لأنّنا من صليب المسيح نتعلّم المحبّة، لا الكراهية، ونتعلّم الرّأفة، لا اللّامبالاة، ونتعلّم المغفرة، لا الانتقام. إنّ ذراعَي يسوع المفتوحتَين، هما عناق الحنان الذي به يريد الله أن يستقبلنا، ويبيّنان لنا الأخوّة التي نحن مدعوّون إلى أن نعيشها فيما بيننا ومع الجميع. إنّهما يدلّاننا على الطّريق، الطّريق المسيحيّ: لا طريق إجبار إكراه، ولا طريق القوي ومَن هو الأهمّ، ولا الطريق الذي به يصارع صليب المسيح الإخوة والأخوات الذين من أجلهم بذل المسيح حياته. طريق يسوع هو طريق آخر، هو طريق الخلاص: إنّه طريق المحبّة المتواضعة، والمجّانيّة والشّاملة، ومن دون ”إذا“ ومن دون ”لكن“.

نعم، لأنّ يسوع وهو على خشبة الصّليب، أزال سُمّ حيّة الشّرّ. وأن نكون مسيحيّين، هذا يعني أن نعيش من دون سُموم: أي ألّا نلدغ بعضنا بعضًا، ولا نتذمّر، ولا نتّهم، ولا نثرثر، ولا ننشر عمل الشّرّ، ولا نلوّث العالم بالخطيئة وعدم الثّقة اللذين يأتيان من الشّرّير. أيّها الإخوة والأخوات، لقد وُلدنا من جديد من جَنْبِ يسوع المفتوح على الصّليب: فلا يكن فينا سُمٌّ مُهلِك (راجع الحكمة 1، 14). بل، لنصلِّ، حتّى يمكننا أن نصير مسيحيّين بنعمة الله أكثر فأكثر: وأن نصبح شهودًا فرحين لحياة جديدة، وللمحبّة، وللسّلام.

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير