في مقالنا السابق، تناولنا روحانيّة الكنيسة الأولى التي تنقسم إلى مرحلتي الآباء الرسوليّين، ومن ثم الحياة المسيحيّة. وكما قلنا سابقًا، ليس من روحانيّة واحدة داخل الكنيسة، هذه الكنيسة المندفعة من الروح القدس وأيقونة الثالوث الأقدس – الكنيسة آتية من العلاء، ونابعة من الثالوث، الكنيسة مركّبة على صورة الثالوث أيضًا. واحدة في التعدّدية، وشراكة مواهب وخدم مختلفة يبعثها الروح الواحد، تعيش الكنيسة من دورة الحبّ هذه، التي يشكّل الثالوث منبعها ومثالها – في القرون الأولى، انقسم أبناء أيقونة الثالوث إلى مسيحيين من أصل يهودي وآخرين من أصل وثني. ومع الوقت، حصل تباين في طريقة التعبير عن المعتقد المسيحي، فالبعض أراد دخول المسيحيين من أصل وثني في شريعة الختان والبعض رفض هذا التعبير. إنتهى هذا النقاش (موضوع الختان) مع مجمع أورشليم الذي إجتمع فيه الرسل من أجل اتخاذ القرار النهائي في هذا الموضوع والعدول عن الختان. سنتاول في مقالنا هذا، ما هي الحياة المسيحية في القرون الأولى.
خلال هذه المرحلة، تمحورت الروحانية المسيحية على المسيح لأنّ كلمات المسيح وأفعاله كانت حيّة في ذاكرة المسيحيّين بفضل الذين شهدوا له، ولأنّ المسيحيّين عاشوا في تلك المرحلة بانتظار عودة المسيح القائم من بين الأموات. في المقام الأول، كان حضور المسيح يُختبَرُ خصوصًا في الإطار الليترجي للإفخارستيّا والصلاة والمواعظ الكتابيّة. ففي الكنيسة الأولى، نرى شهادات كثير من المسيحيين أمام الإضطهاد الأول الذي مارسته السلطات الرومانية في تلك الحقبة، ومن الشهداء المسيحيين الأوائل المعروفين هم الرسل والتلامذة على سبيل المثال لا الحصر.
من جهة، اتخذت المسيحية طابعًا إسكاتولوجيًّا، إذ تمحور الاهتمام الأوّل للمسيحيّين الأوّلين حول الاستعداد الساهر للظهور، أو للمجيء الثاني للمسيح. وقد تعزَّز هذا الانتظار بالتفسير الحرفيّ لسفر الرؤيا 20: 1 – 10، وهو مقطع سمح بظهور العقيدة المسمّاة “الألفيّة”. فقد أعلن المسيح في المناسبات مجيئه الثاني، وألحّ أيضًا أنّ أتباعه ليسوا من هذا العالم، وليس لهم هنا مدينة باقية. وبالنتيجة، اختبر المسيحيّون الأوّلون توتّر العيش في حالة مؤقتّة، فكانوا كنيسةً ساهرة. وإذ شعروا بأنّ المجيء الثاني قريب، عاشوا وكأنّ الكنيسة كانت تعيش آخر أيّامها.
من جهة أخرى، تميّزت روحانيّة المسيحيّين الأوّلين بالزهد. ويعود أصل معنى الكلمة إلى ممارسة الفضائل وتنميتها لا أفعال التقشّف ونكران الذات كما بات شائعًا اليوم. وسيتطوّر الزهد لاحقًا في طريقة الحياة التي تعيشها طبقة معيّنة من الشعب داخل الكنيسة. ولكن في تلك الأيام الأولى، كان الزهد نتيجة منطقيّة للتمحور حول المسيح وانعكاسًا للبعد الإسكاتولوجيّ للروحانيّة المسيحيّة.
أخيرًا، اتّخذت روحانية المسيحيين الأولين طابعًا جماعيًا أو اجتماعيًا. فكما نعرف من أعمال الرسل، شكّلت الحياة الجماعيّة منذ البداية عنصرًا أساسيًا للكنيسة. فمن الناحية اللاهوتية، كانت الجماعة توفّر محيطًا يستطيع المسيحيّون أن يمارسوا فيه المحبّة الأخويّة. ومن الناحية الليترجية، تشكّل الجماعة المؤمنة النواة المطلوبة بحكم الطبيعة الحقيقيّة لليترجيّة الإفخارستيّا والصلاة الجماعيّة. بالمقابل كانت الحياة الجماعيّة تتطلّب مشاركة في الممتلكات، لتفادي الفرديّة المنفصلة المتولّدة من الهيمنة الشخصيّة. ومن بين كلّ عناصر الحياة الرسوليّة، كانت الحياة الجماعيّة أكثرها أساسيّةً، والتي نالت المشاركة بالخيرات الاهتمام الأعظم فيها من بين كلّ ممارسات الحياة الجماعيّة.. فهذه على الأقلّ شهادة أعمال الرسل 2: 42 – 47؛ “وكانوا يُواظِبونَ على تَعليمِ الرُّسُل والمُشاركة وكَسْرِ الخُبزِ والصَّلَوات. واستَولى الخَوفُ على جَميعِ النُّفوسِ لِما كانَ يَجري عن أَيدي الرُّسُلِ مِنَ الأَعاجيبِ والآيات. وكانَ جَميعُ الَّذينَ آمنوا جماعةً واحِدة، يَجعَلونَ كُلَّ شَيءٍ مُشتَرَكًا بَينَهم، يَبيعونَ أَملاكَهم وأَمْوالَهم، ويَتَقاسَمونَ الثَّمَنَ على قَدْرِ احتِياجِ كُلٍّ مِنْهُم، يُلازِمونَ الهَيكَلَ كُلَّ يَومٍ بِقَلبٍ واحِد، ويَكسِرونَ الخُبزَ في البُيوت، ويَتناوَلونَ الطَّعامِ بِابتِهاجٍ وسَلامةِ قَلْب، يُسَبِّحونَ اللهَ ويَنالون حُظوَةً عِندَ الشَّعْبِ كُلِّه. وكانَ الرَّبُّ كُلَّ يَومٍ يَضُمُّ إِلى الجَماعَةِ أُولئِكَ الَّذينَ يَنالونَ الخَلاص”.
إنّ قراءة الكتابات الأصلية للمسيحيين الأوائل معناها التواجه مع الشجاعة الأولية والوضوح الأولي، اللذين ينقيان آفاقنا ويجبراننا على أن نلقي نظرة جديدة على مواقف حياتنا المعاصرة. فما هو نوع الأوثان التي تواجهنا في جهادنا لإتِّباع المسيح اليوم؟ وما هو نوع القوى التي تستميت للفوز بولائنا وباهتماماتنا؟ لقد شكّل المؤمنون الأوائل تهديدًا للنظام الاجتماعي وللبنية الإدارية والحكومية وحتى للأساس الأخلاقي للمجتمع الذي كانوا يعيشون فيه. فهل نحن كذلك؟ لقد ضحوا بكل شيء – حتى بحياتهم – لأجل الحقيقة التي كانت متأجّجة في قلوبهم. أنفعل نحن ذلك؟ لقد باعوا كل ما كان لديهم وأعطوه للفقراء، ثم اتحدوا معًا مشكلين جماعات متشاركة ومترابطة النسيج، حيث كانوا يرعون الضعفاء والمرضى ويطعمون الفقراء. أيمكن أن يُقال هذا علينا أيضًا؟