إستهلَّ يسوعُ رسالته الخلاصية بحضور عرس في قانا الجليل ، وأجرى أول معجزاته بتحويل الماء إلى خمر فائق الجودة وبزرع البهجة والفرح في قلوب الحاضرين .
هذه الأعجوبة أرادها يسوع علامةً تدلُّ أنّه قادر على تحويل باطن الإنسان العتيق إلى إنسانٍ جديد . وبهذا التحويل يزرع الفرح والسعادة في القلوب ، كما زرعها في قلب عروسَي قانا والمدعوين . هذا يعني أنَّ يسوع المسيح هو فرحُ الانسان الدائمِ والثابت . وبهذه الآية استبق وهيّأَ تحويلَ الخمر إلى دمه في عرس الفداء .
فكما آمنَ تلاميذُه بألوهيَّته عندما حوَّل الماء إلى خمر ، كذلك سيؤمنون عندما سيحوِّل ، في عشائه الأخير وهو وليمةُ عرس فداء البشر ، الخبز إلى جسده والخمر إلى دمه لحياة العالم وخلاصه .
أعجوبة تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة ، تدعو كلِّ واحدٍ منّا إلى التأمل بها لكي يقطف ثمار التعليم الذي تدلُّ إليه هذه المعجزة .
القديس يوحنا الإنجيليّ يجمع بين الماء والخمر ، فيربط بين الماء والدم اللذَين سالا من جنب يسوع المعلَّق على الصليب ، عندما طعنه أحد الجنود بحربة ، ” أمَّا يسوع فلمَّا وصلوا إليه ورأَوهُ قد مات ، لم يَكسِروا ساقيه ، لكن واحِداً مِنَ الجنود طَعَنَهُ بحَربةٍ في جنبِهِ ، فخرَجَ لوقتِهِ دَمٌ وماء ” ( يوحنا ١٩ : ٣٣ – ٣٤ ) . فإذا بعناصر آية تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة في العرس البشري ، تصبح عناصر عرس الخلاص الإلهي : فالماء الذي جرى من جنب يسوع أصبح ماء المعمودية للولادة الثانية من الماء والروح ( يوحنا ٣ : ٥ )، والخمر أصبح دم ذبيحة الفداء لغفران الخطايا والحياة الجديدة فينا بالروح القدس .
ولأن الخمر علامة الفرح ، فإنه يرمز للروح القدس، المعروف بخمرة الروح التي تنعش حياةَ المؤمنين والمؤمنات وحياةَ الكنيسة ، فيتكلَّمون كلام هذا الروح ، أعني كلام الحقيقة والمحبة والغفران ، كلامَ العدالة والحرية والسلام . في الواقع عندما حلَّ الروح القدس على التلاميذ ، بدأوا يُكلّمون الشعوب المتواجدين في أورشليم لمناسبة عيد الخمسين ، كان هؤلاء مندهشين إذ سمعوهم يتحدَّثون بعظائم الله بلغاتهم ، وهم ” من كلَّ الشعوب الذين تحت السماء ” ، قال بعضهم، ولو بهزء : ” هؤلاء شربوا خمراً، فسكروا “( أعمال الرُسُل ٢ : ١ – ١٣ ). فقام بطرس وشرح أن ذلك ليس من شرب الخمر المادّي ، بل من ” شرب ” خمرة الروح القدس ، إذ قال : ” يا رجال اليهوديّة ، وأنتم أيُّها المُقيمونَ في أُورَشَليمَ جَميعاً ، إعلموا هذا ، وأصغوا إلى ما أقول : ليس هؤلاء بِسُكارى كما تزعمون ، فالساعَةُ هي الساعةُ التاسِعَةُ مِنَ النهار .
ولكن هذا هو ما قيل بِلسانِ النبي يوئيل : ” سيكون في الايام الأخيرة ، يقولُ الله ، أنّي أُفيضُ من روحي على كلِّ بشر، فيتنبّأ بنوكم وبناتُكم ويرى شُبَّانُكم رؤى ، ويحلُمُ شُيوخُكم أحلاماً ، وعلى عبيدي وإمائي أيضاً أُفيض من روحي في تلك الايام، فيتنبّأون ” ( أعمال الرُسُل ٢ : ١٤ – ١٨ ) .
” مهما قال لكم فافعَلوه ” ( يوحنا ٢ : ٥ )
دور مريم في هذه الآية هو ، أنها تُعَلِّمنا معنى ” الحضور ” المنفتح على الآخر في حاجاته ، والعمل على سدِّ هذه الحاجات ، فقالت ليسوع : ” ليس عندهم خمر ” . وطلبت إلى الخدم أن يستعدوا لأي عمل يقوم به يسوع : ” إصنعوا ما يقول لكم ” . إنَّ حاجاتنا تفتح نفوسنا على الرجاء بتدخُّل الله وعنايته ، الذي يُظهر دائماً مجده في عظائم التاريخ . مريم العذراء هي الوسيطة بين البشر والله ، والمسيح الوسيط الاول والوحيد بين الله والناس ، يُتمُّ ما يلتمسه المؤمنون والمؤمنات على يد أمه مريم العذراء الكلية القداسة .
معجزة الخمر في عرس قانا الجليل تُشيرُ إلى زمن التغيير وترميم العلاقات مع بعضنا البعض، وتدعو الجميع إلى التزام المحبّة الإجتماعية ولاسيما على مستوى الاوضاع الاقتصادية الآخذة بالتردّي والتدهور .
تدعونا ايضاً إلى مساعدة إخوتنا وأخواتنا الفقراء والمحتاجين بدافع من المحبة ومن باب العدالة ، لأننا نُعيد لهم ما هو في الاساس من حقّهم . هذه هي ثقافتنا الانجيلية وتعليم كنيستنا .
باسم المسيح ، الذي بدأ رسالته الخلاصية بتحويل الماء إلى خمر ، أدعوكم لكي نبدأ مسيرة سنتنا الجديدة بتغير قلوبِنا وأفكارنا وعاداتنا إلى الأفضل والأحسن ، ولنكون على مثالهِ في خدمة الجميع وزرع الفرح والسعادة بينهم .
+ المطران كريكور اوغسطينوس كوسا اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك