لم يذكر، ولم يكتب الإنجيليون الأربعة في الإنجيل المقدّس لهذا القديس العظيم أي كلمة خرجت من فمه ، ولم تسمع الأرض نطقاً له . بل كان صمته وكماله ، وجمال نفسه ، وبديع صفاته ، وسمو فضائله ، مع بساطة حياته ، اروع تعليم ، وافصح بيان ، واجمل فلسفة خرجت من فم إنسان .
القديس يوسف مثلٌ أعلى للشبّان وللرجال وللأزواج ولأرباب العائلات ، وللرهبان البتوليين ، وللبنات العذارى ، لأنه جمع في شخصه وفي حياته اسمى المزايا وأكمل الفضائل التي يمكن ان يتحلى بها الإنسان في هذه الدنيا.
كان يوسف البتول من بيت لحم ، من سبط يهوذا ومن عشيرة داود ، ” … ويعقوب ولِدَ يوسُف زَوجَ مٓريم التي وُلِدَ منها يسوع وهو الذي يُقالُ له المسيح ” ( متى ١ : ١٦ ) . فكان بذلك من أشراف اسرائيل مولداً ومنشأ ، وحسباً ونسباً . إلا ان الله ، الذي كان قد أراد لإبنه الوحيد حياة البساطة والإتضاع والفقر، شاء ان يكون الرجل الذي سوف ينتدبه ليكون الحافظ والحارس الأمين لأمه ، والخادم الحكيم الصادق ليسوع في حداثته ، فقيراً متواضعاً و بسيطاً ، لا شأن له بين قومه ، ولا ذكر له بين أهله وعشيرته .
لكن غنى القديس يوسف كان في قلبه . وكانت ثروته اخلاقه وفضائله . فاصطفاه الله بين جميع رجال اسرائيل لأعظم رسالة دعا إليها بشراً . فكان يوسف ذلك الرجل الذي حقق مقاصد الله وإرادته فيه .
جعل يوسف حياته كلها ، عواطفه واتعابه ، شغله وقواه ، سهره وافكاره وفقاً على خدمة مريم وإبنها يسوع ، ومحبتهما والتفاني والتضحية في سبيلهما.
لم يذكر الإنجيل المُقدّس القديس يوسف كثيراً ، ذكره القديس متى في الفصل الأول من الآية ١٩ حتى الآية ٢٥ واصفاً إياه ” رجُلاً باراً ” . كما ذكره في الفصل الثاني عندما تراَى له الملاك في الحلم وقال له : ” قم فٓخُذ الصبي وَأُمَّه واهرب إلى مصر وأقم هُناك حتى أُعلِمٓك ، لإن هيرودُس سيبحث عن الطفل ليُهلِكه ” … ( متى ١٢ – ١٥ ) ، وما إن توفيَ هيرودُس حتى تراءى ملاك الرّبّ في الحلم ليوسف في مصر وقال له : ” قُم فَخُذ الطفل وأُمَّه واذهب إلى أرضِ إسرائيل ، فقد مات من كان يُرِيدُ إهلاك الطفل ” …. وجاء مدينة يُقال لها الناصرة فسكن فيها ، ليتِمَّ ما قيل على لسان الأنبياء ، إنه يُدعى ناصرياً ( متى ٢ : ١٩ – ٢٣ ) .
ذكره القديس لوقا في الفصل الثاني أثناء ميلاد يسوع فكتب : ” وصعد يوسف ايضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي يُقال لها بيت لحم ، فقد كان من بيتِ داود وعَشيرته، ليكتَتِب هو ومريمُ خطيبَتُه وكانت حاملاً … ” ( لوقا ٢ : ٤ – ٧ ) . وكتب أيضاً : عندما بشر الملائكة الرعاة بميلاد يسوع ، ذهب الرعاة مسرعين إلى المكان الذي ولِدَ فيه يسوع ، فوجدوا مريـم ويوسف والطفل مُضجعاً في المذود ( لوقا ٢ : ١٦ ) ،
متى توفي القديس يوسف ؟
لا أحد يعلم متى توفي القديس يوسف . ولكننا نستطيع القول بأنه مات بعدما انتهت رسالته بتربية يسوع والإهتمام به وبأُمه العذراء مريـم ، وبعدما أُصبّح يسوع قادراً ، على حسب قوانين وقواعد الطبيعة البشرية القيام بمسؤولياته في الحياة والعيش مع والدته .
رقد القديس يوسف بالربّ بين يدي يسوع ومريم … لأنه كما نقرأ في الإنجيل المُقدّس، لما بدأ يسوع يُبشّر بملكوت الله، أخذ اليهود يتساءلون ويقولون : “أليس هذا ابن يوسف”؟
كان يوسف ملاكاً حارساً لمريم ، وكان ستاراً لعفافها وشرفها ، وكان الحافظ الأمين لطفولة يسوع، والخادم النشيط المحب لتلك العائلة المقدسة . فلما انتهت تلك الرسالة ، مات بين يدي يسوع ومريم ، مملوءاً نعمةً وقداسةً ، وبذلك أصبح شفيع المائتين بالرب . لأن يسوع ومريم ملآ ايامه الأخيرة تعزية وسلواناً وبهجةً ، وشكرا له خدمته واتعابه ، ولذلك وعده يسوع بإكليل المجد المُعد له في السماء . فذهب يبشّر الآباء والأنبياء وسائر القديسين ، بمجيء المخلص، وبقرب نجاتهم وافتدائهم وخلاصهم .
لقد امتاز القديس يوسف بايمانه الحي الذي فاق كل ايمان ، وبتواضعه العميق، وبثقته بالله التي لا حدّ لها .
إيمان القديس يوسف:
اما إيمانه فقد ظهر حياً في الحوادث التي رافقت حَبَل مريـم خطيبته وولادتها إبنها الإلهي، وهرب المولود الجديد من وجه هيرودس . ففي ذلك كلّه لم يضعف إيمان يوسف بقدرة الله ، وهذا الإيمان الحي كان يذكي فيه المحبة ليسوع ، وينير طريقه في حياته الروحية. إن الإيمان هو العين التي بها يرى القلب اسرار الله .
تواضع القديس يوسف:
اما تواضعه فلقد فاق كلّ حدّ . لأنه تعلّم من مريم ومن يسوع ان لا ينظر إلى ذاتِهِ ولا يبحث عن مصلحته ، ولا يتعالى ويتكبر في عين نفسه وأمام الآخرين . كان من سلالة ملوك يهوذا، ومع ذلك لم يغضب لِما ناله من التعب والفقر. كان أباً ومربياً ليسوع خالق السماوات والأرض ، ومع هذا لم يأنف من أن يشتغل بيديه ، ويتعب ليل نهار، لكي يقدر ان يعيش هو وعائلته الصغيرة . كان الحارس للمسيح الربّ الذي تنتظره الأجيال منذ ألوف من السنين ، ومع هذا كله بقي صامتاً، متواضعاً، لا يبوح بسر يسوع ومريم ، ولا بسرّه لإحد ، كاتماً عن الجميع أمر هذا الولد الإلهي العجيب ، الذي يأوي إلى بيته ويشاطره مائدته وحجرته ، وهو رب المجد ، المسيح المنتظر ومخلص العالم .
هذا هو يوسف البار الذي يشعر بالفرح في داخله وفي أعماق قلبه ، عندما يبقى مجهولاً ومنسياً عند الناس ، لكي يكرس كل قواه الروحية والجسديّة لخدمة الله وإبنه يسوع ومريم أمه. لأنه كيف يمكنه أن يرى ابن الله ، وقد ” تجٓرَّدَ من ذاته مُتَّخذاً صورة العبد ” ( فيليبي ٢ : ٧ ) ، ويسعى هو إلى الظهور والمجد الباطل؟ إن يوسف هو حقاً مثال العفاف والوداعة والتواضع .