أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
في مسيرة دروس التّعليم المسيحيّ في الغَيرَةِ الرّسوليّة، نبدأ اليوم بالنّظر في بعض الشّخصيّات التي قدّمت شهادة مثالية، بأساليب مختلفة وفي أوقات مختلفة، لما يعنيه حبّ البشارة بالإنجيل. والشّاهد الأوّل هو طبعًا الرّسول بولس. أودّ أن أكرّس له درسَين.
قصة بولس الطَّرَسُوسي رمز ومثال في هذا الموضوع. في الفصل الأوّل من الرّسالة إلى أهل غلاطية، وكذلك في سفر أعمال الرّسل، يمكننا أن نلاحظ أن غَيرَتَه للإنجيل ظهرت بعد اهتدائه، وحلّت محل غَيرَتِه السّابقة لليهوديّة. كان رجلًا غيّورًا لشريعة موسى واليهوديّة، وبعد اهتدائه، استمرّت هذه الغَيرة، ولكن لإعلان يسوع المسيح وللكرازة عنه. فقد أحبّه بشغف. كان شاول – الاسم الأوّل لبولس – غيورًا من قبل، لكن المسيح بدّل غيرته: من الشّريعة إلى الإنجيل. أراد حماسه واندفاعه في البداية أن يدمّر الكنيسة، لكن بعد ذلك قام ببنائها. يمكننا أن نسأل أنفسنا: ماذا حدث، مِن تدميره للكنيسة إلى بنائها؟ ماذا تغيّر في بولس؟ بأي معنى تغيّرت غَيرَته وحماسه واندفاعه لمجد الله؟
القدّيس توما الأكويني يعلّم أنّ الهوى والاندفاع، من وجهة نظر أخلاقيّة، ليس جيّدًا ولا سيّئًا: استخدامه للفضيلة يجعله جيّدًا أخلاقيًّا، والخطيئة تجعله سيّئًا [1]. في حالة بولس، ما غيّره ليس فكرة أو قناعة، بل كان اللقاء مع الرّبّ يسوع القائم من بين الأموات – لا تنسوا ذلك، ما يُغيّر الحياة هو اللقاء مع الرّبّ يسوع – وبالنّسبة لشاول كان اللقاء مع الرّبّ يسوع القائم من بين الأموات هو الذي غيّر كيانه كاملًا. إنسانيّة بولس، اندفاعه نحو الله ومجده لم يُلْغَ، بل تبدّل، ”بدَّلَه“ الرّوح القدس. الرّوح القدس هو وحده الذي يمكنه أن يغيّر قلوبنا. وكذلك كلّ جانب من جوانب حياته. تمامًا كما يحدث في الإفخارستيا: الخبز والخمر يبقيان، لكنهما يصيران جسد المسيح ودمه. غَيرَة بولس بقيت، لكنّها صارت غَيرَة للمسيح. تغيّر معنى الغَيرة، لكن الغيرة بقيت نفسها. نحن نخدم الرّبّ يسوع بإنسانيتنا، بصفاتنا وخصائصنا، لكن ما يغيّر كلّ شيء فينا ليس فكرة بل حياة حقيقيّة خاصّة، كما قال بولس نفسه: “فإِذا كانَ أَحَدٌ في المسيح، فإِنَّه خَلْقٌ جَديد. قد زالتِ الأَشياءُ القَديمة وها قد جاءَت أَشياءُ جَديدة” (2 قورنتس 5، 17). اللقاء مع يسوع المسيح يغيّرك من الدّاخل، ويجعلك شخصًا آخر. إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة، وهذا هو معنى أن نكون خليقة جديدة. أن تصير مسيحيًّا لا يعني أن تستخدم مساحيق تجميل لتغيّر وجهك، لا! إن كنت مسيحيًّا، قلبك يتغيّر، لكن إن كنت مسيحيًّا في الظّاهر، فهذا ليس جيّدًا… المسيحيّون الذين يستخدمون مساحيق تجميل (لتصير صورتهم المسيحيّة أجمل) هم ليسوا جيّدين. التّغيّر الحقيقيّ هو تغيّر القَلب. وهذا ما حدث لبولس.
حبّ الإنجيل ليس مسألة فهم أو دراسات، تفيد طبعًا لكنها لا تؤدّي إلى ولادة جديدة. بل هو العيش من جديد للخبرة نفسها: ”السّقوط والقيامة“ التي عاشها شاول/بولس، والتي كانت مصدر ظهور اندفاعه الرّسوليّ. يمكنك أن تدرس كلّ اللاهوت الذي تريد، ويمكنك أن تدرس الكتاب المقدّس وكلّ ذلك، وتصير ملحدًا أو دنيويًّا، لكن حبّ الإنجيل ليس مسألة دراسات. في التاريخ كان هناك لاهوتيّين ملحدين كثيرين! الدّراسة مفيدة لكنّها لا تلِد حياة النّعمة الجديدة. في الواقع، كما يقول القدّيس أغناطيوس دي لويولا: “ليس العِلم الكثير الذي يشبع النّفس ويرضيها، بل الإحساس بالأشياء وتذوُّقُها في الداخل” [2]. إنّها الأمور التي تغيّرك من الدّاخل، وتجعلك تعرف أمرًا آخر، وتتذوّق أمرًا آخر. ليفكّر كلّ واحدٍ منّا في هذا الأمر: ”هل أنا متديّن؟“ – ”حسنًا“ – ”هل أصلّي؟“ – ”نعم“ – ”هل أحاول أن أحفظ الوصايا؟“ – ”نعم“ – ”لكن أين يسوع في حياتك؟“ – ”لا، أنا أصنع الأمور التي توصي بها الكنيسة“. ويسوع أين يكون في حياتك؟ هل التقيت بيسوع، وهل تكلّمت معه؟ هل تأخذ الإنجيل أو تتكلّم مع يسوع، هل تتذكّر من هو يسوع؟ وهذا الأمر ينقصنا كثيرًا. عندما يدخل يسوع حياتك، مثلما دخل إلى حياة بولس، فإّنه يدخل ويغيّر كلّ شيء. سمعنا كثيرًا تعليقات عن النّاس، تقول: ”انظر إلى ذلك الآخر، الذي كان بائسًا وهو الآن رجل جيّد، أو امرأة جيّدة… مَن الذي غيّره؟“ يسوع، لقد وَجَدَ يسوع. هل تغيّرت حياتك المسيحيّة؟ ”لا، نوعًا ما، نعم…“. إن لم يدخل يسوع حياتك فلن تتغيّر. يمكنك أن تكون مسيحيًّا من الخارج فقط. لا، يجب أن يدخل يسوع حياتك وهذا يغيّرك، هذا ما حدث لبولس. نحن بحاجة إلى أن نجد يسوع، ولهذا قال بولس إنّ محبّة المسيح تأخذ بمجامع قلبنا، والتي تدفعنا إلى الأمام. هذا التّغيير نفسه حصل مع القدّيسين كلّهم، الذين عندما وجدوا يسوع مَضوا قدمًا.
يمكن أن نتعمق في تأمّلنا في التّغيير الذي حدث في بولس، الذي كان مضطهِدًا ثمّ صار رسولًا للمسيح. نلاحظ أنّه حدث فيه نوع من التّناقض: في الواقع، طالما كان يعتبر نفسه بارًّا أمام الله،كان يشعر بأنّه مخوّل بأن يضطهد، وأن يسجن، وحتّى أن يقتل، كما في حالةإسطفانس. ولكن عندما أناره الرّبّ يسوع القائم من بين الأموات، اكتشف أنّه كان “مُجَدِّفًا مُضطَهِدًا عنيفًا” (راجع 1 طيموتاوس 1، 13)، – هكذا قال على نفسه: ”كنت مُجَدِّفًا مُضطَهِدًا عنيفًا“ – إذّاك صار حقًا قادرًا على أن يحبّ. وهذا هو الطّريق. إن قال أحدنا: ”أشكرك يا ربّ، لأنّني إنسان جيّد، وأصنع أمورًا جيّدة، ولا أرتكب خطايا كبيرة…“: هذا ليس طريقًا جيّدًا، بل هو طريق الاكتفاء الذّاتي، والطّريق الذي لا يبرّرك، بل يجعلك كاثوليكيًّا أنيقًا، ولكن الكاثوليكيّ الأنيق ليس كاثوليكيًّا قديسًا، بل هو أنيق فقط. الكاثوليكيّ الحقيقيّ، المسيحيّ الحقيقيّ هو الذي يقبل يسوع في داخله، يسوع الذي يغيّر القلب. هذا هو السّؤال الذي أطرحه عليكم جميعًا اليوم: ماذا يعني يسوع لِي؟ هل سمحت له بأن يدخل إلى قلبي، أم أبقيته فقط في متناول يدي، وليس كثيرًا في داخلي؟ هل تركته يغيّرني؟ هل يسوع هو فقط مجرّد فكرة، ولاهوت يتمّ تعليمه… وهذه هي الغَيرة، عندما يجد أحدٌ ما يسوع، يشعر بالنّار في داخله، ومثل بولس يشعر أنّ عليه أن يعظ به، وأن يتكلّم عليه، وأن يساعد النّاس، وأن يصنع أمورًا جيّدة. عندما يجد أحدٌ ما فكرة عن يسوع، يبقى مفكرًا وباحثًا في المسيحيّة، وهذا لا يُخلّصه، بل يسوع فقط يخلّصنا، إن التقينا به وفتحنا له باب قلبنا. أن نجد فكرة عن يسوع هذا لا يخلّصنا! ليساعدنا الله لنجد يسوع ونلتقي به. إذّاك سيغيّر حياتنا من الدّاخل وسيساعدنا على أن نساعد الآخرين.
*******
قِراءَةٌ مِن رِسالَةِ القِدّيسِ بولس الرَّسول إلى أهلِ غلاطية (1، 22-24)
[أيُّها الإخوة، أنا] لَم أَكُنْ مَعروفَ الوَجهِ في كَنائِسِ المَسيحِ الَّتي في اليَهودِيَّة، بل سَمِعوا فقَط أَنَّ «الَّذي كانَ يَضطَهِدُنا بِالأَمْسِ صارَ اليَومَ يُبشِّرُ بِالإِيمانِ الَّذي كان يُحاوِلُ بالأَمْسِ تَدْميرَهُ»، فأَخَذوا يُمَجِّدونَ اللهَ في أَمْري.
كلامُ الرَّبّ
*******
Speaker:
تكلَّمَ قَداسَةُ البابا اليَومَ على شهودِ الإيمان، وبدأَ بالقدِّيسِ بولس. وقال: ظهرتْ غَيرَةُ بولسَ للإنجيلِ بعدَ اهتدائِهِ. كان غيّورًا مِن قَبل، لكنَّ المسيحَ بدَّلَ غَيرَتَهُ مِن الشَّريعةِ إلى الإنجيل. كان يريدُ في البدايّةِ أنْ يُدَمِّرَ الكنيسة، لكن بعدَ ذلك قامَ بِبِنائِها. يمكنُنا أنْ نسألَ أنفسَنا: ماذا تغيَّرَ في بولسَ ولماذا؟ تغيَّرَ بولسُ ليس بسببِ فكرةٍ أو قناعة، بل بسببِ لقائِهِ بالرَّبِّ يسوعَ القائمِ مِن بينِ الأمواتِ الَّذي غيَّرَ كيانَه كامِلًا، ذلك على طريقِ دِمَشق. غَيرَتُهُ لم تتوقَّفْ، بل تَبَدَّلَت، بدَّلَها الرُّوح القدس. لذلك حبُّ البشارةِ بالإنجيلِ ليس مسألةَ فَهمٍ أو دراسات، بل هو خِبرةٌ مثلَ خِبرةِ بولسَ الَّذي كان مُضطَهِدًا للمسيحِ، ثمَّ صارَ رسولًا له. هذه الخِبرةُ هي الَّتي غيَّرَت حياتَهُ وأَظهَرَت اندفاعَهُ الرَّسوليّ. لذلك، أصلُ الاندفاعِ للبشارةِ بالإنجيلِ هو حبُّ اللهِ نفسِه. وقالَ قداستُهُ: كان في حياةِ بولسَ نوعٌ مِن التَّناقُض. لمَّا كان يَعتَبِرُ نفسَه بارًّا أمام الله، كان يَشعُرُ بأنَّهُ مُخَوَّلٌ بأنْ يَضطَهِدَ، وأنْ يَسجِنَ، وحتَّى أن يَقتُلَ. ولكن عندما أنارَهُ الرَّبُّ يسوع، اكتشفَ أنَّهُ كان مُجَدِّفًا مُضطَهِدًا عنيفًا، إذّاكَ صارَ حقًا قادرًا على أنْ يُحِبَّ الحُبَّ الصَّحيح. هناك معَ الأسف، حتَّى اليوم، غَيرَةٌ سيِّئَةٌ تُبَرِّرُ العنفَ والقتل، حتَّى باسمِ الله. لكن الغَيرَةَ لإنجيلِ المسيحِ تنشأُ فينا عندما نَعرِفُ أنَّنا نحن أيضًا خطأةٌ وغَفَرَ الله لنا. بهذِهِ المعرفةِ يَقوَى حبُّ الإنجيلِ فينا.
*******
Speaker:
أُحَيِّي المؤمِنينَ الناطِقينَ باللغَةِ العربِيَّة. يجبُ ألَّا ننسَى أبدًا الوقتَ والطَّريقَةَ الَّتي يدخلُ بِها اللهُ حياتَنا: علينا أنْ نحفظَ في القلبِ وفي الذِهنِ لقاءَنا الأوَّلِ معَ النِّعمَة،الَّتي يُغَيِّرُ اللهُ بِها حياتَنا، ويَضرِمُ الإيمانَ في قلوبِنا، ويَبعَثُ فينا الغَيرَةَ للإنجيل. باركَكُم الرّبُّ جَميعًا وحَماكُم دائِمًا مِن كُلِّ شَرّ!
*******
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2023
[1]راجع سؤال ”في الحقيقة“ 24، 7. – Cfr Quaestio “De veritate” 24, 7.
[2] الرّياضة الرّوحيّة، ملاحظات، 2، 4. – Esercizi spirituali, Annotazioni, 2, 4.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana