عندما سقط الإنسان في الخطيئة ، وإبتعد عن الله بمعصيته ، وعده الله الغني بالمراحم والرأفة بالخلاص .
الله الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله بفيض من حبه ليشركه في مجده الالهي ، ورسم مخططه الخلاصي في أعقاب الخطيئة الاصلية ، تلك الخطيئة الملعونة ، التي ألقت بثقلها على التاريخ البشري .
قال الله للحية ، رمز الشيطان ، على مسمع الإنسان الأول : ” أجعل عداوة بينك وبين المرأة، بين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وأنت تُصيبينَ عَقِبَه ” (تكوين ٣ : ١٥). تحقق الوعد بالبشارة لمريم العذراء ، فأتى ” نسل المرأة ”، ابن الله المتجسد يسوع المسيح ، ليقتلع شرّ الخطيئة من جذوره ، ” ساحقاً رأس الحية ”. إنه صراع عنيف يتواصل ويرافق تاريخ البشر, بين النعمة والخطيئة، بين الظلام والنور ، بين الخير والشر، فينكشف لنا في الكتاب المُقدّس ، وفِي أول صفحة من تاريخ الخلاص بقتل قايين اخاه هابيل ( تكوين : الفصل ٤ ) ، وفي آخر صفحة منه بالصراع القائم بين قوى الشر، المتمثلة بالتنين ، والمرأة المتمثّلة بالكنيسة ” ثم ظهرت آيةٌ عظيمةٌ في السماء ، إمرأة ملتحفةٌ بالشمس ، والقمر تحت قدميها ، وعلى رأسها إكليلٌ من اثني عشر كوكباً ….. ، راجع سفر رؤيا القديس يوحنا ( الفصل ١٢ ) الذي ينشر الصفحات الأخيرة من تاريخ الكنيسة والعالم … ( البابا القديس يوحنا بولس الثاني ، في رسالته ام الفادي رقم ١١).
ليست البشارة حدثاً ينتهي في الماضي، بل هي في بشرى مستمرة للبشرية لأن الكلمة النهائية ليست لقوى الشر، مهما عظمت ، بل لله الذي خلق الكون، وافتداه بدم ابنه الوحيد ، وتواصل لوساطة مريم العذراء، أم الفادي ، التي ” تشفع بأخوة ابنها الذين لم تنتهِ بعد مسيرتهم ، أو الذين يتخبطون في مخاطر هذا العالم ومحنه وصعوباته ومشاكله ، حتى يبلغوا إلى الوطن السعيد ” بفضل هذه الوساطة ، تسمي وتدعو الكنيسة مريم العذراء : “ المحامية والمعينة والمغيثة والشفيعة ” (الدستور العقائدي ” في الكنيسة ” رقم ٦٢).
إن وسيط الخلاص الأوحد هو يسوع المسيح ، على ما تعلّم الكنيسة مع القديس بولس الرسول ، ليس لنا إلاّ وسيط واحد” لأن الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد، الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فداء عن الجميع” ( طيموتاوس الاولى ٢ : ٥ – ٦ ). أما وساطة مريم فهي وساطة في المسيح ، اعني اشتراكاً في وساطة المسيح ، بحيث أن مريم الأم هي السند الذي يربط المؤمنين بشكل اوثق بإبنها الوسيط والمخلّص، وتتم اتحادهم به . هذا الدور ينطلق من امومتها الالهية التي أشركتها إشراكاً واسع المدى بعمل الفداء ، وأصبحت لنا أُماً على صعيد النعمة ، مما جعلها حاضرة حضوراً فريداًَ في سرّ الخلاص ، سرّ المسيح والكنيسة . إن فاعليتها في مجال خلاص البشر تنبع من استحقاقات المسيح إبنها الذي هو المصدر الأوحد للاستشفاع بنا ، ومن استعداد الله الآب لكل عطاء مجاني . ولهذا نقول هي “ الوسيطة لدى الوسيط ”، ووساطتها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأمومتها، وهذا ما يتميز عن وساطة الخلائق الاخرى التابعة لوساطة المسيح ( ام الفادي رقم ٣٨ وفي الدستور العقائدي ” في الكنيسة ” رقم ٦٠ – ٦٢).
عندما يدعوها الملاك جبرائيل في تحيته ” الممتلئة نعمة ” ( لوقا ١ : ٢٨ ) ، يعني أن امتلأها من النعمة ومن الحياة الفائقة الطبيعة جعلها أول من يختبر ثمار وساطة المسيح الوحيدة بين الله والناس، وأعدّها بشكل خاص للمشاركة مع المسيح في وساطته .
وعندما تسمي العذراء مريم نفسها ” أنا أمة الرب” ( لوقا ١ : ٣٨ ) ، فقد عبّرت عن إستعدادها الكامل لخدمة المسيح إبنها بحيث تقود إليه ، وبواسطتها، جميع البشر، في التواضع وتحمّل الألآم والصبر. بسبب هذه الخدمة ، النابعة من كونها ممتلئة نعمةً .
رُفعت، بانتقالها إلى السماء بنفسها وجسدها، إلى مجد الملوكية ، فأصبحت “ ملكة الكون ” دون أن يتوقف دورها الخلاصي كأُم وسيطة ” حتى يتم بشكل نهائي عقد المختارين” ( في الدستور العقائدي ” في الكنيسة ” رقم ٦٢ ). هذه التي كانت أمينة لإتحادها بإبنها حتى الصليب ، وتواصل إتحادها به في السماء ، وتتوسط لديه ” حتى يتجدّد كل شيء في المسيح ” ( افسس ١ : ١٠ )، سرّ الإنتقال إلى السماء حقق نهائياً في مريم ، أمة الرب ، ثمار وساطة المسيح ، فادي العالم والقائم من الموت والوسيط الوحيد، وجعلها مرتبطة بالمسيح برباط وثيق لا ينفصم ، وصاحبة دور وسيطة الرحمة لكي يحيا الجميع ، تحقيقاً لكلمة بولس الرسول : ” وكما يموت جميع الناس في آدم ، فكذلك سيحيون جَميعاً في المسيح ” ( قورنتس الاولى ١٥ : ٢٢ ) . وهكذا جعل المسيح ” أمة الرب ”، مريـم ، وهي أمه، أُمّاً للكنيسة : ” هذه أُمُّكَ ”
( يوحنا ١٩ : ٢٧ ) ( ام الفادي رقم ٤٠ ) . إنها الأُم بالنعمة للذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها متممين مشيئته ” إنَّ أُمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون به ” ( لوقا ٨ : ٢١ ومرقس ٣ : ٣٥ ) ، وهي توجههم بقولها : ” مهما قال لكم فافعلوه ” ( يوحنا ٢ : ٥ ).
هذا هو مخطط الله الخلاصي الذي تحقق بالبشارة لمريم “ المباركة في النساء “
( لوقا ١ : ٤٢ ) . إنها البركة التي غمر بها الله الآب في المسيح البشر أجمعين ، ومريم بشكل خاص واستثنائي . إن مخطط الله لخلاص الإنسان في المسيح مخطط عام يشمل البشر أجمعين . كما انهم منذ البدء داخلون جميعاً في عمل الخلق ، فهم منذ الازل ايضاً موضوع مخطط الخلاص الذي سيعلن بالمسيح : ” تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح ، فقد باركنا كُلّ بركةٍ رُوحيّة في السَّمَوات في المسيح . ذلك بأنه اختارنا فيه قبل إنشاء العالم ، لنكون في نظره قديسين بلا عيبٍ في المحبّة ، وقدَّر لنا منذ القدم أن يتبٌٓنانا بيسوع المسيح ، على ما ارتضته مَشيئتُه ، للتسبيح بمجدِ نعمتهِ التي أنعمَ بها علينا في الحبيب ، فكان لنا فيه الفِداءُ بدمهِ ، أي الصفح عن الزّلات ، على مقدار نعمته الوافرة التي أفاضها علينا ” (افسس ١ : ١ – ٨ ) .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك