تحتفل الكنيسة الأرمنية اليوم بعيد إكتشاف ذخائر القديس كريكور لوسافوريتش ” غريغوريوس المنوّر ” ، بينما تحتفل الكنيسة القبطية الشقيقة بعيده يوم ١٥ كيهك – ٢٤ ديسمبر / كانون الأول من كل عام ، والمعروف بعيد “القديس غريغوريوس الأرمني “ شفيع أرمينيا ، وشفيع المصابين بالأمراض الخبيثة والمستعصية . وهذا يبيّن الترابط الروحي بين الكنيستين والإحتفال المشترك في إحياء تذكار القديسين الأرمن والأقباط منذ العصور المسيحية الأولى ، جانباً إلى سائر الكنائس المسيحيّة الشرقيّة والغربيّة .
سيرة حياة القديس كريكور المنوّر المعروف باسم “غريغوريوس الأرمني”
الحالة الدينيّة على عهد الملك دْرطاد ( سنة ٢٨٨ ) :
قبل أن يكون الدين المسيحيّ ديناً رسمياً لأرمينيا كان دين الأرمن مزيجاً من الزرادشتيّة والوثنية الغربية التي كانت بدورها خليطاً من العناصر المحليّة والعناصرالمقتبسة من البابليّة القديمة .
وعلى عهد الملك ديكران الكبير كان الدين اليونانيّ قد أحرز المرتبة الكبرى ، وفي عهد دريت وواغارش وخسروف كان الدين البرتويّ قد انتشر انتشاراً هائلاً ، كما حدث في عصر دْرطاد ، حيث إنّ الدين المسيحيّ احتل مكان الأديان القديمة جمعاء .
قبل دخول الإسكندر الكبير أرمينيا كان الدين الفارسيّ شائعاً فيها ولكنّه كان في وضع متأرجح ، أمّا الدين اليونانيّ الذي ذاع صيته في عهد الفاتح العظيم فقد أحرز مكانة ثابتة وطّدها له كهنته الخصوصيّون ، مع العلم أن كهنة المجوس كانوا موجودين في أرمينيا منذ زمن قديم يذيعون عبادة الآلهة أناهيد وواهاكن .
تنصُّر الملك دْرطاد ( سنة ٣٠١ ) :
إنّ دْرطاد الذي رُبّي في روما كان ذا فكر نيّر ، وكان ميالاً إلي الحضارة الشرقيّة ، شديد التعصّب للدين الوثنيّ . وقد قاوم المسيحيّة وآثار زوبعة اضطهاد على المتنصّرين المؤمنين بالمسيح يسوع ، وسعى إلى توطيد دعائم الوثنيّة بين جميع الطبقات .
وكان كريكور ( غريغوريوس ) - ابن آناك الذي قتل خوسروف الملك ، فقضى أتباعه عليه وعلى جميع أولاده سوى طفل واحد وهو كريكور ( غريغوريوس ) نجّته مرّبيته من القتل – .
رُبّي كريكور في قيصريّة وتعلّم فيها اليونانية واعتنق المسيحيّة . وحدث أن دْرطاد حين عاد من روما ليتولّى زمام الملك اصطحبه معه إلى بلاطه ، فلمّا وصلا إلى معبد أناهيد في هريزا أمره أن يأخذ باقة من الورود ويقدّمها بخضوع إلى الآلهة أناهيد ، فرفض كريكور ( غريغوريوس ) عبادة الصنم وجاهر بمسيحيّته . غضب الملك من جسارة الشاب المسيحي ، ولمّا تحقّق أن ّآناك أباه كان قاتل أبيه خوسروف أمر بحبسه وتعذيبه بقسوة . وظلّ كريكور ( غريغوريوس ) زهاء ثلاثة عشر عاماً في سجنه بئر عميق في سراديب قصر أراشاد ، يُكفّر عن خطيئة أبيه ويطلب النور السماوي للشعب الأرمنيّ حتى كانت تلك المعجزة الرباّنيّة التي أضحت سبب إرتداد شعب بأجمعه وإيمانه بالمسيح .
مرض الملك دْرطاد :
أصاب الملك دْرطاد مرض عضال غريب يئس في معالجته حتى أمهر الأطبّاء وأحذ الملك يبتعد عن البلاط الملكي ويعيش ما بين الحيوانات في البراري ، إلي يوم حلمت أخته حلماً رأت فيه ملاكاً يحثّها علي الإفراج عن كريكور ( غريغوريوس ) لأنه هو الوحيد الذي كان في إمكانه أن يشفي أخاها . وكانت المعجزة وشُفي دْرطاد واعتنق المسيحيّة . واقتفاء لطريق سلكه الملك فقد تنصّر الأمراء والأعيان .
سافر كريكور ( غريوريوس ) إلى روما لمواجهة البابا القدّيس سلفسترُس الأول وإطلاعه على ما جرى في أرمينيا . وقفل عائداً إلى بلاده ليعيش بين شعبه يقاوم بقايا الوثنيّة ويكرز ويبشر بتعاليم السيد المسيح والإيمان به فلقبّه شعبه بالمنوِّر ( لوسافوريتش ) لأنه ردّ بخطبه وتعاليمهِ ظلمات الوثنيّة ونشر نور المسيح في أنحاء أرمينيا كلّها .
توطيد الدين المسيحي في إرمينيا :
دمّر دْرطاد بدافع من كريكور ( غريغوريوس ) المعابد الوثنية وحطم الأصنام ومقاماتها وأحرق جميع الآثار الوثنية وكل آثارها الأدبية والدينية ، ولكن ، لم يهدأ بال قديسنا إلاّ يوم أعلن دْرطاد المسيحيّة ديناً رسمياً للدولة ، لأنّ هذا الدين كان قد انتشر انتشاراً هائلاً ، حتى إنّ ديراً كان قد تأسس قرب البلاط الملكيّ .
ولكن نظراً إلى عدم وجود الحروف الهجائية الأرمنيّة آنذاك كان أغلبيّة الناس لا يفهمون كلّمات عقائد الدين الجديد ، بل كانوا يسيرون على المناهج القديمة . فأوصى كريكور ( غريغوريوس ) أبناءه وأحفاده بالعمل على إيجاد أبجديّة خاصة للغة الارمنيّة وترجمة الأسفار السماويّة وهذا ما فعله القديس ساهاك والقديس مسروب ماشدوتس في وقت لاحق .
إن دْرطاد بإعلانه الدين المسيحيّ ديناً رسمياً للدولة الأرمنية قد حاز شرف الاسبقية بين الأمم التي قبلته بعد ذلك ديناً رسمياً لها . فقد كان إعلانه ديناً رسمياً لارمينيا في العام ٣٠١ م ، في حين أصدر ثيودوسيوس الأول الكبير قيصر الرومان إرادته بإلغاء الوثنيّة وإحلال المسيحيّة سنة ٣٩٢ م أي بعد إعلان دْرطاد بواحد وتسعين عاماًً . أما الحكومات التي انسلخت عن الإمبراطورية الرومانيّة فقد تأخرت طويلاً في اعتناق المسيحّية .
فأعلنت فرنسا مسيحيّتها بصورة رسميّة العام ٤٩٦ م أي بعد أرمينيا بمائة وخمسة وتسعين عاماً ، وإنكلترا العام ٦٠٥ م أي بعد الأرمن بنحو ثلاثمائة سنة ، وألمانيا العام ٨٠٥ م أي بعد نحو خمسمائة سنة .
رقد القديس كريكور ( غريغوريوس ) المنوِّر سنة ٣٣٠ م مُحاطاً بملكه وشعبه ، ولكنّ تلك الروح وذلك الإيمان اللذين بثّهما في شعبه مازالا إلى اليوم الميراث الأعظم الذي حافظ عليه الشعب الأرمنيّ وضحىّ من أجله بوطنه وأمواله وراحته .
صلاة لإلتماس شفاعة القديس كريكور ( غريغوريوس ) المنوِّر:
أيها الحبر الأعظم ، القديس كريكور ( غريغوريوس ) المنوِّر ، انت الذي حاربت الشر والظلمة والأصنام ، ونشرت نور الإيمان بين الشعب الأرمني وعلّمته سر الثالوث الأقدس ، ونلت ملكوت الله ، تشفّع من أجلنا لدى أبينا السماوي ، أمين .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك