السّيّد رئيس الجمهوريّة،
السّيّد رئيس البرلمان،
السّيّد رئيس الوزراء،
السّادة أعضاء الحكومة والسّلك الدّبلوماسيّ،
السُّلُطات المدنيّة والدّينيّة المحترمين،
ممثّلي عالم الثّقافة الكرام،
سيّداتي، سادتي،
أشكر السّيّد الرّئيس على ترحيبه بي، وعلى الكلمات التي وجّهها إليّ، وأقدِّم لكلّ واحد منكم تحياتي القلبيّة. يشرفني أن أكون هنا، وأنا سعيد بسفري إلى هذه الأرض الرّائعة والواسعة، وإلى هذا الشّعب الذي يعرف جيّدًا معنى وقيمة الحركة والسّير. يدلّ على ذلك منازلكم التّقليديّة، منازل متنقلّة جميلة جدًّا، والمعروفة باسم ”“ger. أتخيّل الدّخول لأوّل مرّة، بمهابة وانفعال، إلى إحدى هذه الخيام الدائريّة المنتشرة في الأرض المنغوليّة العريقة، للتلاقي ولمزيد من التّعارف. وها أنا هنا عند المدخل، حاجًّا صديقًا، جئت على رؤوس الأصابع وبقلب مليء بالفرح، أريد أن أغتني إنسانيًّا بحضوركم.
عندما تدخل بيت شخص صديق، من الجميل تبادل الهدايا، تصحبها كلمات تُذكِّر بمناسبات اللقاء السّابقة. العلاقات الدّبلوماسيّة الحديثة بين منغوليا والكرسيّ الرّسوليّ حديثة. يصادف هذا العام الذكرى السّنويّة الثّلاثين لتوقيع رسالة لتوثيق العلاقات الثّنائية. لكن قبل ذلك، في زمن قديم، قبل 777 عامًا بالضّبط، بين أواخر آب/ أغسطس وبداية أيلول/سبتمبر 1246، جاء الأخ جوفاني دي بيان ديل كاربين (Fra Giovanni di Pian del Carpine)، المبعوث البابوي، ليزور جويوج (Guyug)، الإمبراطور المغولي الثّالث، وقدّم إلى الخان الأكبر الرّسالة الرّسميّة من البابا إينوشنسيوس الرّابع. بعد ذلك بقليل، كُتبت وتُرجمت إلى عدّة لغات الرّسالة الجوابية بالأحرف المنغولية التّقليديّة، ممهورة بختم الخان الأكبر. وهي محفوظة في مكتبة الفاتيكان. واليوم يشرفني أن أقدّم لكم نسخة عنها مصادقة، وقد تمّ صنعها بأحدث التّقنيات لضمان أفضل جودة ممكنة. أرجو أن تكون علامة صداقة قديمة تنمو وتتجدّد.
علِمت أنّ أطفالكم في الرّيف، من باب الخيمة (الجير)، في الصّباح الباكر، ينظرون إلى الأفق البعيد ويَعُدّون رؤوس الماشية وإبلاغ والديهم بالرّقم. من الجيّد أن ننظر نحن أيضًا إلى الأفق الواسع الذي يحيط بنا، ونتجاوز وجهات نظرنا الضّيقة، ونفتح أنفسنا لنغذّي عقليّة واسعة سعة العالم، كما تدعو إلى ذلك الخيام (الجير)، التي ولدت من خبرة التّرحال في السّهوب الواسعة، وانتشرت على مساحة شاسعة، لتصبح عنصرًا مكَوِّنًا في هوية الثّقافات المختلفة المتجاورة. المساحات الشّاسعة في بلادكم، من صحراء جوبي (Gobi) إلى السّهوب، ومن المروج الرّحبة إلى غابات الصّنوبر، حتّى سلاسل جبال الألتاي وخانجاي (Altai e Khangai)، وتعرجات مجاري المياه التي لا تحصّى، والتي تُرى من الأعلى مثل زخارف دقيقة على الأقمشة القديمة الثّمينة: كلّ هذا مرآة لعظمة وجمال الكوكب بأسره، المدعو إلى أن يكون حديقة مضيافة. حكمتكم، حكمة شعبكم، التي تكوّنت عبر أجيال من مربي الماشية والمزارعين الحصيفين، والحريصين دائمًا على عدم المساس بالتّوازن الدّقيق في نظام البيئة، إنّها تعلِّم الكثير للذين لا يريدون اليوم الانغلاق على أنفسهم في البحث عن مصلحة خاصّة قصيرة النّظر، ويريدون أن يسلِّموا الأجيال القادّمة أرضًا لا تزال خصبة ومرحِّبة. الخليقة لنا، نحن المسيحيّين، هي ثمرة خطّة الله وإحسانه، وأنتم تساعدونا على الاعتراف بها بلطف وانتباه، لمواجهة آثار الدّمار البشري الناجم عن ثقافة الرّعاية والتّبصر، تظهر في سياسات بيئية مسؤولة. الخيام (الجير) هي مساحات معيشة يمكن تعريفها اليوم بأنّها لطيفة وخضراء، ومتعدّدة الاستخدامات والوظائف، وليس لها أيّ تأثير على البيئة. علاوة على ذلك، فإنّ الرّؤية الشّاملة للتقاليد الشامانيّة المنغوليّة واحترام كلّ كائن حيّ، المستمَدّ من الفلسفة البوذيّة، إنّما هي مساهمة صالحة في الالتزام المــُلِحّ والذي لا يتحمَّل التّأجيل بعد، لحماية كوكب الأرض.
الخيام (الجير) الموجودة في المناطق الرّيفية، وكذلك في المراكز الحضريّة، تشهد على التّزاوج الثّمين بين التّقاليد والحداثة. في الواقع، هم يوحّدون بين حياة كبار السّنّ والشّباب، وتروي استمرارية وتكامل الشّعب المنغولي، الذي عرف أن يحافظ على جذوره، منذ العصور القديمة وحتّى الوقت الحاضر، وعرف أن ينفتح، وخاصة في العقود الأخيرة، على التّحديّات العالميّة الكبرى في التّنمية والدّيمقراطيّة. في الواقع، منغوليا اليوم، بشبكتها الواسعة من العلاقات الدّبلوماسيّة، وعضويتها النّشطة في الأمّم المتحدة، والتزامها بحقوق الإنسان والسّلام، تلعب دورًا مهمًّا في قلب القارّة الآسيويّة الكبرى وعلى السّاحة الدّولية. كما أودّ أن أذكر تصميمكم على وقف انتشار الأسلحة النّووية، وإنّكم تقدِّمون أنفسكم للعالم دولة خالية من الأسلحة النّووية: منغوليا ليست فقط دولة ديمقراطيّة تنتهج سياسة خارجيّة سلمية، ولكنّها تنوي أن تلعب دورًا مهمًّا من أجل السّلام العالمي. علاوة على ذلك – عنصر آخر يجب الإشارة إليه – لم تعد عقوبة الإعدام تظهر في نظامكم القضائي.
والخيام (الجير) بفضل قدرتها على التّكيّف مع تقلبات الظّروف المناخيّة القاسيّة، تسمح بالعيش في مناطق متنوعة للغاية، كما حدث خلال الملحمة المعروفة للإمبراطوريّة المغوليّة، وهي من أوسع الإمبراطوريّات على الإطلاق. وفي المناسبة، أصِل إلى منغوليا في ذكرى سنويّة مهمّة بالنسبة لكم، الذّكرى الـ 860 لميلاد جنكيز خان. على مر القرون، حكم أجدادكم أراضي بعيدة ومختلفة للغاية، وأظهروا قدرتهم الفريدة للتعرّف على امتيازات الشّعوب التي سكنت أراضي الإمبراطوريّة الشّاسعة، ووضعوها في خدمة التّنمية المشتركة. هذا مثال يجب تقديره واقتراحه من جديد في يومنا هذا. أرجو من الله أن يمنحنا على هذه الأرض، التي دمّرتها الصّراعات العديدة، أن تنشأ فيها الظّروف الملائمة، ووفقًا للقوانين الدّولية، لكي ينشأ فيها يومًا السّلام المنغولي، أيّ غياب الصّراعات. يقول أحد أمثالكم، “تمضي الغيوم، وتبقى السّماء”: فلتمرّ غيوم الحرب المظلمة، لتبدِّدْها الإرادة الرّاسخة للأخُوّة العالميّة، التي يتمّ فيها حلّ النّزاعات على أساس اللقاء والحوار، وضمان جميع الحقوق الأساسيّة للجميع. هنا، في بلدكم الغنيّ بالتّاريخ وبالسّماء، لنطلُبْ هذه العطيّة من العُلَى، وَلْنجتهِدْ معًا لبناء مستقبل سلام.
إذا دخلنا خيمة (جير)، يرتفع النّظر نحو أعلى نقطة مركزيّة، حيث توجد نافذة نحو السّماء. أودّ أن أؤكّد على هذا الموقف الأساسيّ الذي يساعدنا تقليدكم على إعادة اكتشافه: أن نعرف كيف نبقي أعيننا ناظرة إلى الأعلى. إنّ رفع أعيننا إلى السّماء – السّماء الزّرقاء الأبديّة التي بجلتموها دائمًا – يعني البقاء في موقف من الانفتاح المطيع للتعاليم الدّينيّة. في الواقع، هناك دلالة روحيّة عميقة في أنسجة هويتكم الثّقافية، ومن الجميل أن تكون منغوليا رمزًا للحريّة الدّينيّة. بالتأمّل في آفاق لا نهاية لها وقليلة السّكان، تكوَّن في شعبكم ميل إلى الواقع الرّوحي، الذي يصل إليه الإنسان بتثمين الصّمت والحياة الدّاخليّة. وإنّ جلال الأرض التي أنتم فيها، بظواهرها الطّبيعيّة المتعدّدة، يبعث في النّفس مشاعر من الدّهشة، توحي بالتّواضع والاكتفاء بالقليل، واختيار ما هو ضروري والقدرة على التّجرّد عن كلّ الزوائد. أفكّر في الخطر الذي تمثّله الرّوح الاستهلاكيّة اليوم، فإنّها، بالإضافة إلى خلق الكثير من المظالم، تؤدي إلى الفرديّة وتنسى الآخرين والتّقاليد الجيّدة التي تسلمناها. أمّا الأديان، عندما تكون مرتبطة بتراثها الرّوحي الأصيل ولا تفسدها الانحرافات الطّائفية، فهي دعائم موثوقة من كلّ الوجوه في بناء مجتمعات صحيّة ومزدهرة، ويبذل المؤمنون أنفسهم للعيش المدني معًا ولتكون المشاريع السّياسيّة دائمًا في خدمة الصّالح العام، والأديان هي أيضًا حاجز أمام سوسة الفساد الخطيرة. والفساد تهديد خطير من كلّ الوجوه لنمُوّ أيّة جماعة بشريّة، تغذِّيها عقلية نفعية وعديمة الضّمير تؤدّي إلى إفقار بلدان بأكملها. وهذا دليل على نظرة تبتعد عن السّماء وتهرب من آفاق الأخوّة الواسعة، وتنغلق على نفسها وتقدِّم مصالحها على كلّ شيء.
بينما كان قادتكم القدّماء ينظرون إلى العُلَى، وإلى الآفاق الفسيحة، وكان لهم قدرة نادرة لاستقبال الأصوات والخبرات المختلفة، حتّى الخبرات الدّينيّة. كان لهم موقف واحترام وتسامح تجاه التّقاليد المقدّسة المتعدّدة، كما يشهد لذلك أماكن العبادة المختلفة – وبينها مكان مسيحيّ واحد – وكلّ ذلك في العاصمة القديمة قراقورم. فكان من الطّبيعي أن تصلوا إلى حريّة الفكر والدّين، التي يقرّها دستوركم الحالي. وقد تجاوزتم من دون إراقة دماء الأيديولوجيّة الإلحاديّة، التي أرادت فترة أن تقضيّ على الحس الدّيني فيكم، إذ اعتبرته عائقًا أمام التّنمية. وأنتم تعترفون اليوم بالقيمة الأساسيّة التي هي الانسجام والتّناغم بين المؤمنين من مختلف الأديان، وكلّ واحد يساهم من وجهة نظره في التّقدّم الأخلاقي والرّوحي.
بهذا المعنى، يسرّ الجماعة المنغوليّة الكاثوليكيّة أن تواصل تقديم مساهمتها. بدأت، منذ أكثر من ثلاثين سنة، بالاحتفال بشعائرها الدّينيّة داخل خيمة (ger)، والكاتدرائيّة الحاليّة، التي تقع في هذه المدينة الكبيرة، تحتفظ بشكل الخيمة. إنّها علامات على رغبتها في ممارسة إيمانها بروح الخدمة المسؤولة والأخويّة مع الشّعب المنغولي، الذي هو شعبها. ويسعدني أنّ الجماعة الكاثوليكيّة، مع كونها صغيرة ومتواضعة، تشارك بحماس والتزام في مسيرة نمو البلاد، فتنشر ثقافة التّضامن، وثقافة احترام الجميع، وثقافة الحوار بين الأديان، وتسعى لتحقيق العدل والسّلام والوئام الاجتماعي. آمل أن يتمكّن الكاثوليك المحلّيون، بفضل التّشريعات التي تتسمّ ببعد النّظر والاهتمام بالاحتياجات الملموسة، وبمساعدة رجال ونساء مكرّسين يأتونهم بالضّرورة من بلدان أخرى، من تقديم مساهمتهم الإنسانيّة والرّوحيّة إلى منغوليا دون صعوبة، ولصالح الشّعب كلّه. وفي هذا الصّدد، تمثّل المفاوضات الجارية لإبرام اتفاق ثنائي بين منغوليا والكرسيّ الرّسوليّ قناة مهمّة لتحقيق الشّروط الأساسيّة للقيام بالأنشطة العادية التي تشارك فيها الكنيسة الكاثوليكيّة. من بين تلك النشاطات، بالإضافة إلى المجال الدّيني نفسه، هناك مبادرات عديدة في مجال التّنمية البشريّة المتكاملة، في قطاعات التّعليم والصّحّة وأعمال الخير، والبحث وتعزيز الثّقافة: فهي تشهد على روح الأخُوّة والتّواضع والتّضامن، في إنجيل يسوع، وهو الطّريق الوحيد الذي يُدعى الكاثوليك إلى اتباعه، في مسيرتهم العامّة مع كلّ الشّعوب.
الشّعار الذي تمّ اختياره لهذه الزّيارة، هو ”الأمل معًا“، يعبّر بدقة عن الإمكانات الكامنة في السّير معًا، في الاحترام المتبادل وتكامل القوى من أجل الصّالح العام. الكنيسة الكاثوليكيّة، مؤسّسة قديمة ومنتشرة في جميع البلدان تقريبًا، تشهد على تقليد روحي نبيل وخصب، وقد ساهم في تطوير أمّم بأكملها في مجالات عديدة في الحياة البشريّة، في العلوم والآداب، والفن والسّياسة. وأنا متأكّد من أنّ المنغوليّين الكاثوليك مستعدّون وسيكونون على استعداد لتقديم مساهمتهم الخاصّة في بناء مجتمع مزدهر وآمن، بالحوار والتّعاون مع جميع المكوِّنات التي تسكن هذه الأرض الكبيرة، والتي تقبِّلُها السّماء.
“كن مثل السّماء”. بهذه الكلمات، دعانا شاعر معروف إلى تجاوز زوال التّقلبات الأرضيّة، والنّظر إلى العظمة التي توحي بها السّماء الزّرقاء النّقية التي تُشاهَد في منغوليا. واليوم نحن أيضًا الحجّاج والضّيوف في هذا البلد الذي يمكنه أن يقدِّم الكثير للعالم، نريد أن نقبل هذه الدّعوة، ونحوِّلها إلى علامات ملموسة، بالرّأفة والحوار والمشاريع المشتركة. أرجو أن تستمرّ المكوِّنات المختلفة في المجتمع المنغولي، الممثّلة هنا، في تقديم جمال ونبل هذا الشّعب الفريد للعالم. مثل بقاء كتابتكم، أرجو أن تبقوا كذلك ثابتين في تخفيف الكثير من عذابات الإنسانيّة من حولكم، وذكِّروا الجميع بكرامة كلّ إنسان، المدعوّ إلى أن يسكن هذه الأرض ويعانق السّماء. Bayarlalaa! [شكرًا!].
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2023
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana