في الرابع عشر من شهر سبتمبر / ايلول ، وفي كل عام وبنفس التاريخ ، تحتفل الكنيسة الجامعة ، والكنيسة الأرمنية والبيزنطية والسريانية الارثوذكسية بعيد الصليب المقدّس ، ما عدا الكنيسة القبطية الارثوذكسية الشقيقة ، التي تعتمد التقويم القبطي .
الصليب طريق المجد
” أتت الساعة التي فيها يُمجَّد إبن الإنسان ” ( يوحنا ١٢ : ٢٣ ) ، ” فخرج حامِلاً صليبه ” ( يوحنا ١٩ : ١٧ )
طريق الصليب طريق المجد للمسيح ولنا نحن المسيحيين ، وهذا ما نريد أن نتوقَف عليه ونتأمل فيه ونحن نحتفل اليوم بعيد الصليب المقدس ، سائلين ألله أن يعطينا الإيمان والقوََة لنحمل معه ما تقدَمه لنا ظروف الحياة الشاقة من صلبان لنبلغ المجد الحقيقي الذي بلغه السيد المسيح بقيامته من بين الأموات وصعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين أبيه ، الله الآب .
١ – طريق الصليب طريق المجد للمسيح يسوع :
كان ذلك في مساء يوم الشعانين ، وهو اليوم الذي دخل فيه يسوع أورشليم دخول الظافرين ، وقد تهافت الناس لإستقباله بالبهجة والفرح ، ففرشوا على الطريق الثياب وأغصان الزيتون والنخيل ، وأطلقوا أصوات الترحيب ، وهتاف المديح كانت تشق عنان الفضاء قائلين : ” تبارك الآتي باسم الرب “( يوحنا١٢ : ١٣). وظنَُوا ذلك اليوم يوم مجد في نظر السيد المسيح . أما هو فكان على خلاف ذلك . لأنه كان يعرف أن مجده الحقيقي لن يتمَ إلا بعد أن يقاسي الآلم الصلب ، ويجعل من صليبه عرشه ، ومن إكليل الشوك تاجه ، ومن القصبة عكازه وصولجانه ( متى ٢٧ :٣١).
وأما مملكته فلن تنهض بسطوة وسيطرة الجيوش وقوَة السيوف وشن الحروب ، ولكنها ستقوم على خلاص النفوس بقوَة الإيمان والتضحيات . وما بلغ عشيَة ذلك اليوم حتى كشف لتلاميذه الحقيقة قائلاً : ” أتت الساعة التي فيها يتمجَد بن الإنسان .ولكنهم لم يفهموا . وكان يسوع كلما لوَح لهم بالصليب ةالآلام صدَُوا عنه وأعرضوا .
نكتفي بسرد ثلاث حوادث أنبأهم فيها بآلامه : في قيصرية فيليبُس في المرَة الأولى ، وذلك بعد أن اعترف به بطرس رباً وإلهاً ؛ ولما سمع منه بطرس ما يقول ، أخذه على حدة وانفرد به وجعل يعاتبه فيقول : ” حاش لك يا رب ! لن يُصيبك هذا ! . أما يسوع فالتفت وقال لبطرس : ” سر خلفي يا شيطان ، فأنت لي حجر عثرة ، لأن أفكارك ليست أفكار الله ، بل أفكار البشر ” ( متى ١٦ : ٢٢ – ٢٣ ) .
في المرَة الثانية ، عندما كانوا في الطريق إلى الجليل ، أوصاهم يسوع قال : ” لا تُخبروا أحد إلى أن يقوم ابن الإنسان من بين الأموات ” ( متى ١٧ : ٩ ) ، و يؤكد متى الإنجيلي أنهم لم يفهموا ما يقول لهم .
وفي المرَة الثالثة ، وهم في الطريق إلى أورشليم ، أنبأهم بما سيعاني من آلآم وإهانات ؛ فإذا بولدي زبدى يأتيانه على الفور ويطلبان منه أن يجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ، أما هو شرح لهم وأفهمهم أن مجده لن يتمَ إلا بعد صلبه ( متى ٢٠ : ١٧ – ٢٣ ) . ولهذا قال لهم : ” فإذا رفعت من هذه الأرض ، جذبت إليَ الناس أجمعين ” ( يوحنا ١٢ : ٣٢ ) . وإن ما يجذب الناس إليه ، إنما هو الصليب الذي أراده طريقاً للمجد له وللمسيحيين الذين يتأثرون خطاه .
٢ – الصليب طريق المجد للمسيحيين :
أوضح القديس بولس الرسول قيمة الصليب في المفهوم المسيحي فقال : ” ان الكلام على الصليب حماقة عند الذين يسلكون سبيل الهلاك ، وأما عند الذين يسلكون سبيل الخلاص ، اي عندنا ، فهو قدرة الله ” ( قورنتس الاولى ١ : ١٨ – ١٩ ) .
قدرة الله التي كسرت شوكة الخطيئة ، وحطَمت قوات الجحيم ، وفتحت أبواب السماء الموصدة في وجه الإنسان ، وحوَلت ما يلقاه في دنياه من دموع وآلآم إلى راحة وطمأنينة وغبطة وسعادة ، إذا عرف الإنسان كيف يتقبَلها بالإتحاد مع ألآم السيد المسيح القائل : ” من أراد أن يتبعني ، فليزهد في نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني ” (لوقا ٩ : ٢٣ ) .
وهكذا بدَل الصليب مفهوم الحياة ، عندما شعَ نوره في آفاقها المظلمة .
وهكذا أخذ المسيحيون يضعون الصليب نصب أعينهم في سفرتهم إلى الأبدية . فهم يأخذون منه القوَة والتصميم على السير ، مهما تكاثرت المصاعب والمشاكل والاضطهادات ، وأياً كانت التضحيات وإجهاد النفس . والصليب يرافقهم من المهد إلى اللحد .
فهم يبدأون أعمالهم برسم شارته على وجوههم ، ويضعونه في بيوتهم مكان الصدارة ، ويركَزونه على هياكل كنائسهم ومعابدهم . ويرمقه المريض منهم فيستشعر الصحة والعافية والقوَة الباطنية ، وتنظر إليه ربَة البيت فتدَب الشجاعة في جوارحها ، لتنهض بما يثقل عاتقها من أعباء عائلية ، ويخفيه العامل طيَ ثوبه فيملأه بالنشاط ليغلب مصاعب الحياة ، وجلَ ما يطمع به المحتضر وهو يشعر ببرودة الموت تسري في أعضائه أن يطبع على المصلوب قبلة حارة ، قبل أن تجمد شفتاه عن الحركة ، وتفيض منه الروح ويطبق العينين على الصليب ليفتحهما على أنوار الحياة الأبدية , ولا تلبث أن ترتاح عظامه راحتها الكبرى في ظلَ صليب يرتفع فوق المقرَ الأخير الذي ضمَ من قبله رفات آبائه وأجداده الأتقياء الراقدين على رجاء القيامة السعيدة ، ” ذلك في الصليب الخلاص ، على حد ما يقول كتاب الاقتداء بالمسيح ، وفي الصليب الحياة ، في الصليب الحصانة ضدَ الأعداء ، في الصليب فيض العذوبات السماوية ، في الصليب قوَة النفس ، في الصليب فرح الروح ، في الصليب أسمى درجات الفضيلة ، في الصليب كمال القداسة . لا خلاص للنفس ولا رجاء بالحياة الابدية إلا بالصليب . خذ صليبك واتبع يسوع ، تدخل الحياة الأبدية ” ( الاقتداء بالمسيح ، الكتاب الثاني ، الفصل الثاني عدد ٢٢ ) .
وهكذا يكون الصليب طريقاً للمجد :
يا أيها المصلوب ، يا من جعلت الصليب طريقك إلى المجد ، يوم حملته وصعدت به على جبل الجلجلة ، حيث عُلقت عليه بين السماء والأرض ، جد علينا بأنوارك الإلهية لنفهم ما يخفي هذا الصليب من قوَة ، وما ينبعث منه من نور ، وما ينطوي عليه من تعزية للمسافرين في صحراء العالم . وأعطنا الشجاعة لنجعله كل يوم ، كما أمرت ، لننهل من أسراره ما نحتاج إليه من قوَة لنصعد به إلى جبل الحياة ، حتى نتابع مسيرتنا الشاقة فنصل إليك حيث أنت جالس عن يمين أبيك القدوس .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك