Session conclusive des Rencontres Méditerranéennes @ Vatican Media

البابا: الأسلحة تصنع الحرب، لا السّلام، وجشَعُ السُّلطة يعيدنا إلى الماضي، ولا يبني المستقبل

النصّ الكامل لكلمة قداسة البابا فرنسيس
في الجلسة الختامية للقاءات البحر الأبيض المتوسط
قصر ”المنارة“، 23 أيلول 2023

Share this Entry

السّيّد رئيس الجمهوريّة،

الإخوة الأساقفة،

رؤساء البلديّات والسُّلُطات التي تمثّل المدن والمناطق على شاطئ البحر الأبيض المتوسط،

أيّها الأصدقاء،

أحيّيكم تحيّة قلبيّة، وأشكر كلّ واحد منكم لقبولكم دعوة الكاردينال أفلين (Aveline) للمشاركة في هذه اللقاءات. شكرًا لأتعابكم ولأفكاركم الثّمينة التي أدليتم بها. بعد باري وفيرينسي (Bari e Firenze)، مسيرة خدمة شعوب البحر الأبيض المتوسط تتقدّم: هنا أيضًا، القادة الكنسيّون والمدنيّون معًا يلتقون لا للنظر في المصالح المشتركة، إنّما يريدون فقط خدمة الإنسان. شكرًا لأنّكم تعملون مع الشّباب أيضًا، الذين هم حاضر ومستقبل الكنيسة والمجتمع.

مدينة مرسيليا قديمة جدًّا. أسَّسها ملاحون يونانيّون أتوا من آسيا الصّغرى، وتقول الأسطورة إنّ تأسيسها يعود إلى قصة حبّ بين بحَّار مهاجر وأميرة محليّة. ولها منذ نشأتها طابع متعدِّد وعالمي: ترحِّب بثروات البحر وتقدِّم وطنًا للذين لا وطن لهم. مرسيليا تقول لنا إنّ العيش معًا أمر ممكن وهو مصدر فرح، على الرّغم من الصّعاب. على الخريطة، بين نيس ومونبلييه (Nizza e Montpellier)، يبدو وكأنّها ترسم ابتسامة. ويَسُرُّني أن أتخيَّلها كذلك، أنّها ”ابتسامة البحر الأبيض المتوسط“. والآن أريد أن أقدِّم لكم بعض الأفكار حول ثلاثة أمور تميِّز مرسيليا: البحر والميناء والمنارة.

1. البحر. بحر من الشّعوب جعل من هذه المدينة فسيفساء من الأمل، بتقاليدها العريقة المتعدّدة الأعراق والثّقافات، تمثِّلها أكثر من 60 قنصلية متواجدة فيها. مرسيليا هي مدينة متعدّدة وفريدة في الوقت نفسه، وتعدديتها، التي هي نتيجة اللقاء مع العالم، جعلت تاريخها فريدًا. كثيرًا ما نسمع اليوم من يكرِّرون أنّ تاريخ البحر الأبيض المتوسط ​​هو مزيج من الصّراعات بين الحضارات والأديان والرّؤى المختلفة. طبعًا لا نتجاهَلْ المشاكل، ولكن أيضًا لا ننخدِعْ: فالتبادلات بين الشّعوب جعلت من البحر الأبيض المتوسط ​​مهدًا للحضارة، وبحرًا يفيض بالكنوز، إلى درجة أنّ مؤرّخًا فرنسيًّا كبيرًا كتب: “البحر ليس مشهدًا، بل مشاهد تتوالى ولا تُحصَى. ليس بحرًا، بل سلسلة من البحار”، “منذ آلاف السّنين، يتدفَّق كلّ شيء إليه، ويؤدي إلى تعدُّد الأوجه في تاريخه وإلى إثرائه” (ف. بروديل – F. Braudel، البحر الأبيض المتوسط، باريس 1985، 16). ”بحرنا“ هو مساحة لقاء، بين الدّيانات الإبراهيميّة، وبين الفكر اليونانيّ واللاتينيّ والعربيّ، وبين العِلم والفلسفة والقانون، وحقائق أخرى عديدة. نقل للعالم قيمة الإنسان السّامية، وحريته، وانفتاحه على الحقيقة، وحاجته إلى الخلاص، وهو يرى العالم أعجوبة عليه أن يكتشفها وحديقة يسكنها، تحت علامة إله يقطع العهود مع الإنسان.

كان رئيس بلدية كبير يرى في البحر الأبيض المتوسط، لا قضية صراع، بل استجابة سلام، بل “بداية وأساسًا للسّلام بين جميع دول العالم” (ج. لا بيرا، كلمات في ختام الندوة الأولى للبحر الأبيض المتوسط، 6 تشرين الأوّل/أكتوبر 1958). قال: “الإجابة […] ممكنة، إن أخذنا بعين الاعتبار الدّعوة التّاريخيّة المشتركة، بل هي دعوة دائمة خصَّتْه بها العناية الإلهيّة في الماضي، وتوجِّهها في الحاضر، وبمعنى ما، ستوجِّهها في المستقبل، إلى الشّعوب والأمم التي تعيش على ضفاف ”بحيرة طبرية“ الموسعة في سرِّها، والتي هي البحر الأبيض المتوسط” (الخطاب الافتتاحي في الندوة الأولى، 3 تشرين الأوّل/أكتوبر 1958). بحيرة طبريا، أو بحر الجليل: المكان الذي تركّزت فيه، في زمن المسيح، مجموعة كبيرة متنوعة من السّكان والعبادات والتّقاليد. هناك، في “جليل الأمم” (راجع متّى 4، 15) الذي كان يجتازه ”طريق البحر“، كانت معظم أحداث حياة يسوع العامة. مكان إعلان التّطويبات للعالم، باسم الله أبي الجميع، الذي “يُطلِعُ شَمسَهُ عَلَى الأَشرَارِ وَالأَخيَارِ، وَيُنزِلُ المـَطَرَ عَلَى الأَبرَارِ وَالفُجَّارِ” (متّى 5، 45)، كان بيئة متعدِّدة، وغير مستقرَّة في كثير من النّواحي. وكان ذلك الإعلان أيضًا دعوة لتوسيع حدود القلب، والتّغلّب على الحواجز العرقيّة والثّقافيّة. هذا هو الجواب من البحر الأبيض المتوسط: إنّ بحر الجليل الأبدي يدعونا إلى مقاومة الصّراعات المختلفة بإمكانية “العيش معًا مع كلّ الاختلافات” (ت. بيلو – T. Bello، القلق المبارك، ميلان، 2001، 73). البحر الأبيض المتوسط، على مفترق طرق بين الشّمال والجنوب، بين الشّرق والغرب، ويستقبل تحديات العالم بأسره، كما تشهد بذلك ”شواطئه الخمسة“، التي تأملتم فيها: شمال أفريقيا، والشّرق الأدنى، وبحر إيجيا اليونان، والبلقان وأوروبا اللاتينيّة. إنّها تحديات متراكمة تؤثّر على الجميع: لنفكِّر مثلًا في قضية المناخ، حيث البحر الأبيض المتوسط ​هو ​نقطة ساخنة تظهر فيه التّغيّرات بسرعة أكبر. كَم هو مُهمّ أن نحرس رُقعة البحر الأبيض المتوسّط، هذا الصّندوق الفريد من التّنوّع البيولوجيّ! باختصار، هذا البحر، وهو بيئة فريدة للتعدّد والتّعقيد، هو ”مرآة للعالم“، ويحمل في مساحته دعوة عالميّة للأخُوّة، دعوة فريدة وطريقة فريدة لتدارك الصّراعات والتّغلُّب عليها.

أيّها الإخوة والأخوات، في خضَمِّ صراعات اليوم، نحن هنا لنؤكّد قيمة مساهمة البحر الأبيض المتوسط، حتّى يعود ليكون مختبرًا للسلام. لأنّ دعوته هذه هي، أن يكون مكانًا تلتقي فيه بلدان ووقائع مختلفة على أساس الإنسانيّة الواحدة والمشتركة بيننا جميعًا، وليس على أساس الأيديولوجيّات التي تتعارض. نعم، البحر الأبيض المتوسط يعبّر عن فكر غير موحَّدٍ، وليس أيديولوجيّة، بل هو متعدد الأوجه ولاصق بالواقع، فِكرٌ حيُّ ومنفتح يدعو إلى المصالحة: فكر جماعيّ، هذه هي الكلمة. كم نحن بحاجة إليه في الوضع الحالي المتكسِّر، حيث القوميات القديمة والمتحاربة تريد تدمير حلم هيئة الأمم! لكن – لنتذكّر – أنّ الأسلحة تصنع الحرب، لا السّلام، وجشَعُ السُّلطة يعيدنا إلى الماضي، ولا يبني المستقبل.

فمن أين يجب أن نبدأ إذًا لنضع أسس السّلام؟ على ضفاف بحيرة الجليل، بدأ يسوع بمنح الرّجاء للفقراء، وقال لهم: طوبى لكم. أصغى إلى احتياجاتهم، وشفى جراحاتهم، وأوَّلًا بشَّرهم بملكوت الله. من هنا، ننطلق، من صراخ الضّعفاء الصّامت الذي لا يسمعه أحد في كثير من الأحيان. لا يمكن البدء بالاستماع إلى ”أوائل الصّف“، الذين مع كونهم في وضع جيّد، يرفعون صوتهم عاليًا. لنبدأ من جديد، الكنيسة والمجتمع المدني، بالاستماع إلى الفقراء، “لنعانقهم، لا لنعرف عددهم” (ب. مازولاري، الكلمة للفقراء، بولونيا، 2016، 39)، لأنّهم ليسوا أرقامًا بل هم وجوه. التّغيير في مجتمعاتنا يقوم بمعاملتهم كإخوة نعرف قصصهم، وليس لنرى فيها قضايا مزعجة، ويقوم بالتّرحيب بهم، لا بإخفائهم، وبدمجهم، لا بإبعادهم، وبمنحهم كرامتهم. واليوم، بحر العيش معًا صار ملوَّثًا بعدم الاستقرار، وهو يجرح مرسيليا الجميلة أيضًا. فحيثما يوجد عدم الاستقرار توجد الجريمة: وحيثما يوجد الفقر في المادة وفي التّعلِيم وفي العمل وفي الثّقافة وفي الدّين، تُسهَّل الأرض أمام المافيا والاتِّجار بالبشر غير المشروع. إنّ التّزام المؤسّسات وحده لا يكفي، نحن بحاجة إلى انتفاضة في الضّمير لنقول ”لا“ لعدم الشّرعية و”نعم“ للتضامن، ولا يكُنْ كلامنا قطرة في المحيط، بل عنصرًا لا بدَّ منه لتنقية المياه.

في الواقع، الشّرّ الاجتماعيّ الحقيقيّ ليس في تزايد المشاكل، بل هو في قلّة الاهتمام بها. من هو اليوم القريب للشّباب المتروكين لأنفسهم، فريسة سهلة للجريمة والدّعارة؟ من هو القريب للأشخاص المستعبدين في عملهم، الذي كان يجب أن يجعلهم أحرارًا؟ من يعتني بالعائلات الخائفة والمرتعبة من المستقبل، والتي تخشى أن تنجب مخلوقات جديدة في العالم؟ من يستمع إلى أنين كبار السّن الوحيدين الذين، بدلًا من أن يتمّ تقديرهم، يقفون في انتظار الكرامة الزائفة بموت رحيم، في واقع أشدَّ ملوحة من مياه البحر؟ من يفكِّر في الأطفال الذين لم يولدوا، المرفوضين باسم الحق الزائف في التّقدّم، والذي هو، عكس ذلك، تراجع في احتياجات الفرد؟ اليوم لدينا مأساة الخلط بين الأطفال والكلاب. قال لي سكرتيرتي إنّه أثناء مروره في ساحة القدّيس بطرس، رأى بعض النّساء يحملن أطفالًا في عربات الأطفال… لكنّهم لم يكونوا أطفالًا، بل كانوا كلابًا! هذه الفوضى تقول لنا بشيء سيء. ومن ينظر بشفقة إلى ما هو أبعد من شاطئه ليسمع صرخات الألم المتصاعدة من شمال أفريقيا والشّرق الأوسط؟ كم من الناس يعيشون غارقين في العنف ويعانون من الظّلم والاضطهاد! وأفكّر في المسيحيّين الكثيرين، الذين غالبًا ما يُجبرون على ترك أراضيهم أو العيش فيها دون الاعتراف بحقوقهم، ودون التّمتع بالمواطنة الكاملة. من فضلكم، دعونا نلتزم حتّى يتمكّن الذين هم جزء من المجتمع من أن يكونوا مواطنين كاملين. ثمّ هناك صرخة ألَم مُدَوِّية أكثر من أيّ شيء آخر، والتي تحوِّل ”بحرنا“ إلى ”بحر الأموات“، وتحوِّل البحر الأبيض المتوسط ​​من مهد الحضارة إلى قبر الكرامة. إنّها الصّرخة المختنقة للإخوة والأخوات المهاجرين، والتي أودّ أن ألفِتَ النّظر إليها بالتّفكير في الصّورة الثّانية التي تقدِّمُها لنا مرسيليا، وهي صورة الميناء.

2. كان ميناء مرسيليا، منذ قرون، بمثابة باب مفتوح على البحر، على فرنسا وأوروبا. ومن هنا غادر الكثيرون بحثًا عن عمل ومستقبل في الخارج، ومن هنا عبر الكثيرون باب القارّة يحملون معهم الأمل. في مرسيليا ميناء كبير وهو باب كبير لا يمكن إغلاقه. موانئ كثيرة على البحر الأبيض المتوسط ​​أُغلقت. وترددت كلمتان تغذِّيان المخاوف في قلوب الناس: ”الغزو“ و”الطّوارئ“. لكن الذين يخاطرون بحياتهم في البحر ليسوا غزاة، بل هم طالبو ضيافة. أمّا بالنّسبة للطوارئ، فإنّ ظاهرة الهجرة ليست حالة طوارئ عابرة، تصلح لنشر إشاعات الذعر والقلق، بل هي واقع ثابت في زمننا، وهي ظاهرة تشمل ثلاث قارات حول البحر الأبيض المتوسط، ويجب التّعامل معها بحكمة وبُعد نظر: بمسؤوليّة أوروبيّة تقدر أن تواجه الصّعوبات الواقعية. إنّني أنظر هنا إلى هذه الخريطة، إلى الموانئ المميّزة للمهاجرين: موانئ قبرص واليونان ومالطا وإيطاليا وإسبانيا… وهي تطلّ على البحر الأبيض المتوسط ​​وتستقبل المهاجرين. البحر الأبيض المتوسط ​​يصرخ يطلب عدلًا. على شواطئه، من جهة، ثراء وبذخ واستهلاك وتبذير، ومن جهة أخرى، فقر وعدم استقرار. هنا أيضًا يعكس البحر الأبيض المتوسط صورة العالم، حيث يتجه الجنوب نحو الشّمال، وبلدان كثيرة على طريق النّمُوّ، تعاني من أنظمة غير مستقرة ومن الحروب والتّصحُّر، وهي تتطلَّع إلى البلدان الغنية، في عالم معولَم، كلّنا فيه مترابطون، لكن الفجوات بيننا عميقة، لم تبلغ مثل هذا العمق فيما مضى. ومع ذلك، فإنّ هذا الوضع ليس جديدًا في السّنوات الأخيرة، وهذا البابا القادم من الجانب الآخر من العالم ليس أوّل من يشعر به ويتكلّم عنه بإلحاح واهتمام. لقد تكلَّمَتْ الكنيسة عن هذا الموضوع بقلق واهتمام منذ أكثر من خمسين سنة.

  كان المجمع الفاتيكاني الثّاني قد انتهى قبل قليل، لمّا كتب القدّيس بولس السّادس رسالته العامّة ”تقدُّم الشّعوب“، وقال فيها: “إنّ شعوب الجوع اليوم تخاطب بصورة مأسوية الشّعوب الغنية. إنّ الكنيسة ترتجف أمام صرخة الألم هذه والقلق، وتدعو كلّ واحد إلى أن يستجيب بمحبة لأخيه” (رقم 3). وقد عدَّد البابا مونتيني ”ثلاثة واجبات“ على الدّول المتقدّمة، “كلُّها متجذرة في الأخُوّة البشريّة والفائقة الطبيعة”: “واجب التّضامن، أي المساعدة التي يجب على الدّول الغنية تقديمها للدول النّامية. وواجب العدالة الاجتماعية، أي إعادة بناء وتصحيح العلاقات التجارية المعتلَّة بين الشّعوب القوّية والضّعيفة. وواجب المحبة العالمية الشّاملة، أي ضرورة إيجاد عالم أكثر إنسانيّة للجميع، عالم يكون فيه كلّ فرد قادرًا على العطاء والأخذ، من غير أن يكون تقدُّم البعض عائقًا دون تنمية الآخرين” (رقم 44). في ضوء الإنجيل وفي ضوء هذه الاعتبارات، أكّد بولس السّادس، عام 1967، على “واجب الاستقبال”، وقال فيه: “لن نتكلّم بما فيه الكفاية على هذا الواجب” (رقم 67). وشجَّعَ البابا بيوس الثّاني عشر على ذلك، قبل خمسة عشر سنة، وكَتَبَ ما يلي: “عائلة النّاصرة في المنفى، يسوع ومريم ويوسف المهاجرين إلى مصر […] هُم نموذج ومِثَال وسنَد لجميع المهاجرين والحجَّاج، من جميع الأعمار ومن كلّ بلد، ولجميع اللاجئين مهما كانت حالتهم، الذين يجدون أنفسهم مُجبرين على أن يتركوا وطنهم وأقاربهم الأعزّاء، تحت ضغط الاضطهاد أو الحاجة، […] وأن يذهبوا إلى أرض غريبة” (الدّستور الرّسوليّ، Exsul Familia de spirituali emigrantium cura، 1 آب/أغسطس 1952).

وبطبيعة الحال، كلّنا نرى الصّعوبات في التّرحيب. يجب أن نرحّب بالمهاجرين وحمايتهم ومرافقتهم ودعمهم ودمجهم. وإذا لم نصل إلى النّهاية، فسينتهي الأمر بالمهاجر في دائرة المجتمع. التّرحيب والمرافقة والدّعم والدّمج في مجتمعنا: هذا هو الأسلوب. صحيح أنّه ليس سهلًا أن يكون لدينا هذا الأسلوب أو دمج أشخاص لا ننتظر قدومهم، ومع ذلك، لا يجوز أن يكون المعيار الرّئيسيّ في ذلك الحفاظ على الرّفاهية الخاصّة لكلّ شعب، بل الحفاظ على الكرامة الإنسانيّة. لا يجوز أن نعتبر الذين لجأوا إلينا عبئًا علينا: إذا اعتبرناهم إخوة، سنرى فيهم عطيةً من الله. غدًا سنحتفل باليوم العالميّ للمهاجرين واللاجئين. دعونا نسمح لأنفسنا بأن نتأثّر بقصة العديد من إخوتنا وأخواتنا الذين يعانون من صعوبات، والذين لهم الحق في أن يهاجروا أو لا، ودعونا لا ننغلق في اللامبالاة. إنّ التّاريخ يدعونا إلى انتفاضة في الضّمير حتّى نمنع ”غرق الحضارة“. المستقبل، في الواقع، لن يكون في الانغلاق، فهو عودة إلى الماضي، وعكس لمسيرة التّاريخ. في مواجهة آفة استغلال البشر الرّهيبة والمتاجرة بهم، الرّفض ليس الحلّ، بل الحلّ في أن نضمن دخول عدد كبير بصورة قانونية ونظامية، حسب إمكانيات كلّ بلد، ويمكن أن يتمّ ذلك بفضل استقبال متساوٍ من جانب القارّة الأوروبية، في إطار التّعاون مع بلدان المنشأ. أمَّا أن نقول ”كفى“، فهذا يعني أن نغلق أعيننا حتّى لا نرى. ومحاولة ”خلاص نفسنا“ اليوم، سوف تتحوّل إلى مأساة غدًا. ستشكرنا أجيال المستقبل إذا تمكَّنَّا من خلق الظّروف اللازمة للاندماج الأساسي، وستلومنا إذا سرنا مع عمليات استيعاب سطحية وعقيمة. الدّمج الصّحيح أمر متعب، ولكنّه بعيد النّظر: فهو يهيِّئُ المستقبل الذي سيكون معًا أو لا يكون، شئنا أم أبَيْنا. إن الاستيعاب الذي لا يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات ويبقى جامدًا في نماذجه الخاصّة، يجعل الفكرة تسود على الواقع ويفسد المستقبل، ويزيد المسافات ويسبِّب تقوقع الجماعات، ما يؤدي إلى اشتعال العداوات والتّعصب. نحن بحاجة إلى الأخوة مثلَ حاجتِنا إلى الخبز. نفس كلمة ”أخ“، في اشتقاقها الهندي الأوروبي، فيه معنى الغذاء والسّند. سنكون سندًا لأنفسنا إن غذَّيْنا الرّجاء في الضّعفاء، وإن رحَّبنا بهم كإخوة. ويذكِّرنا الكتاب المقدس بذلك حين يقول: “لا تنسوا الضّيافة” (عبرانيين 13، 2).

وفي هذا الصّدد، ميناء مرسيليا هو أيضًا ”باب للإيمان“. وبحسب التّقليد، أرسى هنا القدّيسون مرتا ومريم ولعازر ونشروا الإنجيل في هذه الأراضي. الإيمان يأتي من البحر، كما يذكِّرُنا تقليد مرسيليا في عيد تطواف الشّموع في البحر. لعازر، في الإنجيل، هو صديق يسوع، وهو أيضًا اسم شخصيّة في أحد أمثاله له معناه حتّى اليوم، ويفتح أعيننا على عدم المساواة الذي يفسد الأخُوّة، ويكلِّمُنا على محبة الله للفقراء. نحن المسيحيّين، نؤمن بالله الذي صار إنسانًا، في شخص الإنسان الوحيد الذي لا مثيل له، والذي قال على ضفاف البحر الأبيض المتوسط: ”أنا الطّريق والحق والحياة“ (راجع يوحنا 14، 6)، فلا يمكننا أن نقبل أن تكون طرق اللقاء مغلقة، وأن تنتصر حقيقة إله المال على كرامة الإنسان، وأن تتحوّل الحياة إلى موت! الكنيسة التي تعترف بأنّ الله في يسوع المسيح “اتّحد بطريقةٍ ما بكل إنسان” (فرح ورجاء، 22)، تؤمن، مع القدّيس يوحنا بولس الثّاني، أنّ الإنسان هو الطّريق إلى الله (راجع الرّسالة العامة، فادي الإنسان، 14). أن نعبد الله ونخدم الضّعفاء الذين هم كنوز الله. أن نعبد الله ونخدم القريب، هذا هو الأهمّ: لا المكانة الاجتماعيّة ولا كثرة العدد، بل الأمانة لله وللإنسان!

  هذه هي الشّهادة المسيحيّة، وفي كثير من الأحيان إنّها شهادة بطولية. أفكّر على سبيل المثال في القدّيس شارل دو فوكو، ”الأخ العالمي“، وفي شهداء الجزائر، ولكن أيضًا في أهل المحبّة وصانعي الخير الكثيرين اليوم. في أسلوب الحياة الإنجيليّ هذا، والذي يبدو شكًّا ومعثرة، تجد الكنيسة المرفأ الآمن الذي ترسو فيه وتنطلق منه من جديد لتنسج الرّوابط مع الإنسان في كلّ شعب، باحثة في كلّ مكان عن آثار الرّوح ومقدِّمة ما منحها الله بنعمته. هذه حقيقة الكنيسة النقية. كتب برنانوس: هذه “كنيسة القدّيسين”، وأضاف أنّ “كلّ هذا الجهاز العظيم من الحكمة، والقوّة، والنّظام المرن، والعظمة والجلال، ليس شيئًا في حد ذاته، إن لم تكن فيه المحبّة” (Jeanne relapse et sainte, Paris 1994). أودّ أن أشيد بحدة النّظر الفرنسيّة، وبعبقريتها المؤمنة والمبدعة التي أكّدت على هذه الحقائق، بأعمال وكتابات كثيرة. قال القديس سيزار من أرل: “إن كنت تُحِبّ، فأنت مع الله، وإن كان الله معك فماذا ينقصك؟” (العظة 22، 2). وكان باسكال يقول إنّ “الموضوع الوحيد في الكتاب المقدس هو المحبّة” (أفكار، رقم 301) وإنّ “الحقيقة من دون المحبّة ليست الله، بل هي صورته وصنم له يجب ألّا نُحِبَّه ولا نعبده” (أفكار، 767). وقد كتب القدّيس يوحنا كاسيان، الراقد هنا، أن “كلّ شيء، حتّى ما يُعتَبَر نافعًا وضروريًا، إنّما هو أقل قيمة من الخير الذي هو السّلام والمحبّة” (المؤتمرات الروحية 16، 6).

من الجميل إذًا ألّا يكون المسيحيّون متأخرين عن أحد في المحبّة، وأن يكون إنجيل المحبّة هو ميثاق العمل الرّعوي. نحن لسنا مدعُوِّين للبكاء على الماضي أو لإعادة إظهار أمجاد الكنيسة. نحن مدعوّون إلى الشّهادة: لا أن نزيِّن الإنجيل بالكلمات، بل لإعطائه جسدًا وحياة، لا لنهتم بأن يرانا الناس، بل لنبذل أنفسنا مجَّانًا، مؤمنين أنّ “القياس مع يسوع هو المحبّة بلا قياس” (عظة، 23 شباط/فبراير 2020). علَّم القدّيس بولس، رسول الأمم، الذي قضى جزءًا كبيرًا من حياته على طرق البحر الأبيض المتوسط، متنقِّلًا من ميناء إلى آخر، أنّه من الضّروريّ أن نحمل بعضنا أثقال بعض، لكي نعمل بشريعة المسيح (راجع غلاطية 6، 2). الإخوة الأساقفة الأعزاء، لا نُثقِلْ الأحمال على كاهل النّاس، بل لنخفِّفْ أتعابهم باسم إنجيل الرّحمة، لنوزِّعْ بفرح الرّاحة التي يقدِّمُها يسوع للبشريّة المتعبّة والجريحة. لتكن الكنيسة ميناء رجاء للذين فقدوا الرّجاء. لتكن ميناءً للراحة وتجديد القوى، حيث يشعر النّاس بالتّشجيع للانطلاق إلى الحياة بقوّة فرح المسيح التي لا تضاهى.

3. يقودني هذا إلى الصّورة الأخيرة، صورة المنارة. المنارة تضيء البحر وتُظهِر الميناء. ما هي الأشعة المضيئة التي يمكن أن ترشد طريق الكنائس حول المتوسط؟ إن فكَّرنا في البحر، الذي يوحِّد بين العديد من الجماعات المؤمنة المتنوعة، يمكن التّفكير في مسارات فيها المزيد من التّنسيق، وقد يكون من المناسب النّظر في إمكانية إقامة مجلس كنسيّ حول البحر الأبيض المتوسط، كما قال الكاردينال أفلين (Aveline)، الذي يتيح المزيد من إمكانيّات التّبادل ويُوجِدُ في المنطقة حضورًا كنسيًا أوثق. وأيضًا إذا فكَّرْنا في الميناء وفي قضية الهجرة، قد يكون من المفيد العمل من أجل عمل رعوي مميَّز وأكثر ترابطًا، حتّى تتمكّن الأبرشيّات المقصودة أكثر من غيرها من تقديم مساعدة روحيّة وإنسانيّة أفضل للأخوات والإخوة الذين يأتون محتاجين.

  وأخيرًا، المنارة، في هذا القصر العامر الذي يحمل اسم المنارة، تجعلني أفكِّر قبل كلّ شيء في الشّباب: هم النّور الذي يشير إلى طريق المستقبل. مرسيليا مدينة جامعية كبيرة، موطن لأربع جامعات، ومن بين 35000 طالب يدرسون فيها، هناك 5000 طالب أجنبي. من أين نبدأ لنسج العلاقات بين الثّقافات إن لم يكن من الجامعة؟ هناك الشّباب ليس مفتونًا بإغراءات السّلطة، بل بحلم بناء المستقبل. لتكن جامعات البحر الأبيض المتوسط ​​ مختبرات للأحلام، ومواقع بناء للمستقبل، حيث ينضج الشّباب بلقاء بعضهم البعض وبالتّعرف بعضهم على بعض، وباكتشاف الثّقافات والسّياقات المتقاربة والمختلفة في نفس الوقت. وبهذه الطّريقة، يتمّ تحطيم الأحكام المسبقة، وتُشفَى الجراح، وتتوقَّف الخطابات الأصوليّة. الشّباب المدرَّبون جيّدًا والموجَّهون نحو التّآخي يمكنهم فتح أبواب حوار غير متوقعة. إذا أردنا أن يكرّسوا أنفسهم للإنجيل ولخدمة السّياسة الرّفيعة، فنحن أنفسنا بحاجة إلى أن نكون ذوي مصداقية: أن ننسى أنفسنا، ونتحرَّرَ من مرجعيتنا الذّاتية، ونبذل أنفسنا بلا كلل من أجل الآخرين. والتّحدي الأساسيّ للتربية يشمل كلّ مراحل التّنشئة: منذ مرحلة الطّفولة، ”الاختلاط“ مع الآخرين، يساعد للتّغلّب على الحواجز الكثيرة والأحكام المسبقة، ويمكِّن من تطوير الهوية الشّخصيّة في بيئة من الإثراء المتبادل. ويمكن للكنيسة أن تساهم في هذا، وتوظِّف لهذا الغرض شبكاتها التّربوية، وتعمل على تحفيز ”إبداع الأخوّة“.

أيّها الإخوة والأخوات، التّحدي هو أيضًا في إيجاد لاهوت البحر الأبيض المتوسط، الذي يطوِّر فكرًا ملتصقًا بالواقع، الذي هو ”بيت“ للإنسان، وليس فقط للوقائع التّقنية، والذي يوحِّد الأجيال ويربط بين الذاكرة والمستقبل، ويعزِّز بصورة مبتكرة المسار المسكونيّ بين المسيحيّين، والحوار بين المؤمنين من مختلف الدّيانات. من الجميل المغامرة في بحث فلسفي ولاهوتي يستمِدُّ من المصادر الثّقافية المتوسطية، ليعيد الأمل للإنسان، وسرّ الحرّيّة التي تحتاج إلى الله وإلى القريب، لتعطي معنى للوجود نفسه. ومن الضّروريّ أيضًا أن نتأمّل في سرّ الله، الذي لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنّه يمتلكه أو يسيطر عليه، والذي يجب إبعاده عن أيّ استخدام للعنف أو تسخير لمآربنا، ونحن مدركون أنّ الاعتراف بعظمة الله يعني تواضعنا في البحث عنه.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أنا سعيد لوجودي هنا في مرسيليا! ذات مرّة دعاني السّيّد الرّئيس لزيارة فرنسا وقال لي ما يلي: ”من المهمّ أن تأتي إلى مرسيليا!“. وقد حققت ذلك. أشكركم على استماعكم الصّبور والتّزامكم. تقدّموا، تشجّعوا! كونوا بحرًا من الخير، لمواجهة فقر اليوم بتضامن يُنسِّق جهود الجميع. كونوا ميناءً مضيافًا يستقبل الباحثين عن مستقبل أفضل، كونوا منارة للسلام، لتخترقوا، بثقافة اللقاء، مهاوي الظّلام والعنف والحرب. شكرًا جزيلًا.

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2023


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير