انطلق المجوس بحثًا عن الملك الذي وُلِدَ. هُم صورة للشّعوب التي تسير بحثًا عن الله، وللغرباء الذين يقودهم الله الآن إلى جبله (راجع أشعيا 56، 6-7)، وللبعيدين الذين يمكنهم الآن أن يسمعوا بُشرى الخلاص (راجع أشعيا 33، 13)، ولكلّ الضّائعين الذين يسمعون نداء صوت صديق. لأنّ مجد الله ظهر الآن في جسد طفل بيت لحم، لجميع النّاس (راجع أشعيا 40، 5) ولأنّ “كُلّ بَشَرٍ يَرى خَلاصَ الله” (لوقا 3، 6).
المجوس عيونهم موجّهة نحو السّماء، لكنّ أقدامهم تسير على الأرض، وقلوبهم جاثية ساجدة. أكرّر: عيونهم موجّهة نحو السّماء، وأقدامهم تسير على الأرض، وقلوبهم جاثية ساجدة.
أوّلًا، المجوس عيونهم موجّهة نحو السّماء. كان يسكنهم الحنين إلى اللانهائي، نظرهم تجذبه النّجوم السّماويّة. لم يكونوا يعيشون وهم ينظرون إلى أصابع أقدامهم، منطوين على أنفسهم، وأسرى لأفقٍ أرضيّ، يجرّون خطاهم مستسلمين شاكين. بل رفعوا رؤوسهم وانتظروا نورًا ينير لهم معنى حياتهم، وخلاصًا يأتي من العُلى. رأوا نجمًا يُشرق، ساطعًا أكثر من كلّ النّجوم، فجذبهم وجعلهم يسيرون. هذا هو المفتاح الذي يفتح المعنى الحقيقي لحياتنا: إن عشنا ونحن منغلقون على أنفسنا في إطار ضيّق من الأمور الأرضيّة، وإن سِرنا ورؤوسنا منحنية رهائنَ لإخفاقاتنا وندمنا، وإن جُعنا إلى الخيرات والتّعزيات الدّنيويّة، بدل أن نبحث عن النّور والحبّ، ستنطفئ حياتنا. على الرّغم من أنّ المجوس كانوا غرباء ولم يلتقوا بيسوع بعد، علّمونا أن نرفع نظرنا، وأن نوجّه نظرنا نحو السّماء، وأن نرفع عيوننا نحو الجبال، من حيث يأتينا العَون، لأنّ معونتنا تأتي من عند الله (راجع المزامير 121، 1–2).
أيّها الإخوة والأخوات، لتكن عيوننا موجّهة نحو السّماء! نحن بحاجة لأن نوجّه نظرنا إلى العُلى لكي نتعلّم أيضًا أن نرى الواقع من العُلى. نحن بحاجة إلى ذلك في مسيرة الحياة، لكي نجعل رفيقَنا صداقةَ الرّبّ يسوع، ومحبّته سندًا لنا، ونور كلمته يقودنا مثل النّجم في الليل. نحن بحاجة إلى ذلك في مسيرة الإيمان، حتّى لا تقتصر على مجموعة من الممارسات الدّينيّة أو عادات خارجيّة، بل يصير إيماننا نارًا تحرقنا في داخلنا، وتجعلنا نصير باحثين شغوفين عن وجه الرّبّ يسوع وشهودًا لإنجيله. نحن بحاجة إلى ذلك في الكنيسة، حيث نحن مدعوّون إلى أن نضع الله من جديد في المقام الأوّل، بدل انقساماتنا بحسب أفكارنا. نضعه هو في المقام الأوّل وليس أفكارنا أو مشاريعنا. لنبدأ من جديد من عند الله، ولنبحث فيه عن الشّجاعة في ألّا نتوقّف أمام الصّعاب، وعن القوّة لنتجاوز العقبات، وعن الفرح لنعيش في الشّركة والتّوافق.
والمجوس لا ينظرون فقط إلى النّجم، إلى الأمور العاليّة، بل أقدامهم تسير على الأرض. انطلَقُوا نحو أورشليم وسألوا: “أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟ فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه” (متّى 2، 2). أعادهم النّجم الذي سطع في السّماء إلى السّير على طرق الأرض، ولمّا رفعوا رؤوسهم إلى العُلى اضطرّوا أن ينزلوا إلى الأسفل، ولمّا بحثوا عن الله، دُعُوا إلى أن يجدوه في الإنسان، وفي طفل مضطجع في مذود، لأنّ الله اللامتناهي في الكِبَر، ظَهَرَ في هذا الطّفل الصّغير اللامتناهي في الصِّغَر. يتطلّب الأمر حكمة ومساعدة الرّوح القدس لفهم كِبَر وصِغَر ظهور الله.
أيّها الإخوة والأخوات، لنقف على أقدامنا في مسيرتنا على الأرض! عطيّة الإيمان لم تُعطَ لنا لكي نُبقي نظرنا ثابتًا في السّماء (راجع أعمال الرّسل 1، 11)، بل لكي نسير في طرق العالم شهودًا للإنجيل، والرّبّ يسوع، النّور الذي يُضيء حياتنا، لم يُعطَ لنا فقط ليعزّينا في ليالينا، بل لنشُقَّ الظّلمات التي تحيط بنا في مواقف كثيرة في مجتمعنا، ونضع فيها نورًا، والله الذي أتى لزيارتنا لن نجده إن بقينا متمسكّين ببعض النّظريّات الدّينيّة الجميلة، بل فقط إن انطلقنا في مسيرة، وبحثنا عن علامات حضوره في الواقع اليوميّ، وقبل كلّ شيء، إن التقينا بإخوتنا ولمسنا واقعهم. بحث المجوس عن الله ووجدوا طفلًا. هذا أمرٌ مهمّ: أن نلتقي مع الله الحقيقيّ، في الوجوه التي تمرّ بجانبنا كلّ يوم، وخاصّة وجوه الفقراء. في الواقع، علَّمنا المجوس أنّ اللقاء مع الله يفتح لنا دائمًا رجاءً أكبر، يجعلنا نغيّر أسلوب حياتنا ويجعلنا نغيّر العالم، كما أكّد البابا بندكتس السّادس عشر: “إن غاب الرّجاء الحقيقيّ، فإنّنا نبحث عن السّعادة في السّكر، وفي ما هو غير مفيد، وفي الإفراط، فندمّر أنفسنا والعالم. […] لهذا السّبب، نحن بحاجة إلى أناسٍ لهم رجاء كبير، ولهم شجاعة كبيرة. شجاعة المجوس، الذين قاموا برحلة طويلة وهم يسيرون مع النّجم، وعرفوا كيف يركعون أمام طفلٍ ويقدّمون له هداياهم الثّمينة” (عظة، 6 كانون الثاني/يناير 2008).
أخيرًا، لنفكّر أيضًا في أنّ المجوس قلوبهم جاثية ساجدة. نظروا إلى النّجم في السّماء، ولكنّهم لم يلجؤوا إلى عبادة منفصلة عن الأرض، وانطلقوا في رحلة، ولكنّهم لم يتجوّلوا مثل السّائحين بلا هدف. وصلوا إلى بيت لحم، وعندما رأوا الطّفل “جَثَوا له ساجدين” (متّى 2، 11). ثمّ فتحوا حقائبهم وقدّموا له ذهبًا ولبانًا ومرًّا. “بهذه العطايا الرّمزيّة عرفوا من هو الذي سجدوا له: بالذّهب أعلنوا أنّه ملك، وباللبان أنّه الله، وبالمرّ تنبأوا بموته” (القدّيس غريغوريوس الكبير، العظة العاشرة في يوم عيد ظهور الرّبّ يسوع، 6). الملك الذي جاء ليخدمنا، والإله الذي صار إنسانًا. أمام هذا السِّرّ، نحن مدعوّون إلى أن نَحني قلوبنا وركبنا لنسجد له: نسجد لله الذي جاء صغيرًا، والذي سكن في بيوتنا الاعتياديّة، والذي مات محبّةً لنا. الله الذي “لمّا ظهر في السّماء الواسعة بعلامات النّجوم، جعلنا نجده […] في ملجأ ضيّق، ضعيفًا في جسد طفل، وملفوفًا بلفائف الوليد الجديد: سجد له المجوس وهابه الأشرار” (القدّيس أغسطينس، أحاديث، 200). أيّها الإخوة والأخوات، لقد فقدنا عادة السّجود، لقد فقدنا هذه القدرة التي يمنحنا إياها السّجود. لنكتشف من جديد طعم صلاة السّجود. لنعترف من جديد بيسوع إلهًا وربًّا لنا ولنسجد له.
أيّها الإخوة والأخوات، لنرفع عيوننا إلى السّماء، مثل المجوس، ولننطلق سائرين نبحث عن الرّبّ يسوع، ولنَحْنِ قلوبنا ونسجد له. ولنطلب النّعمة لكي لا نفقد الشّجاعة أبدًا، شجاعة البحث عن الله، وأن نكون أصحاب رجاء، وأصحاب أحلام جريئة نحدّق في السّماء، وشجاعة المثابرة في السّير على طرقات العالم، مع تعب المسيرة الحقيقيّة، وشجاعة السّجود، وشجاعة النّظر إلى الله الذي ينير كلّ إنسان. ليمنحنا الله هذه النّعمة، وقبل كلّ شيء، نعمة أن نعرف كيف نسجد.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana