يأتي مَن هو أقوى منّي ( لوقا : ٣ : ١٦ )
“قَدْ ظَهَرَتْ نِعمَةُ الله، ينبوعُ الخلاصِ لِجَمِيعِ النَّاس، وهِيَ تُعَلِّمونا أن ننبذَ الْكُفْر وشهواتِ الُّنيا في هذا الدَّهْرِ بِرَزَانَةٍ وعَدْلٍ وتقوى، مُنتَظرين السَّعادةَ المَرجُوّة وتَجَلّيَ مجدِ إلهِنا الْعَظِيم ومُخَلّصنا يسوعَ المسيح الذي جادَ بنفسِهِ من أجلِنا ليَفتَدينا من كُلِّ إثمٍ ويُطَهِّرَ شعباً خاصاً بِهِ حريصاً على الأعمالِ الصَّالِحَة. هكذا تكَلَّم وعِظْ ووَبّخْ بما لكَ من سُلطانٍ تام ولا يَستَخِفَّنَّ بِكَ أَحَد” (طيطس الثانية ٢: ١١-١٥).
“فلمّا ظَهَرَ لُطْفُ اللهً مُخَلِّصنا ومَحَبَّتُهُ لِلبَشَر، لم يَنظُرْ إلى أعمالِ بِرٍّ عمِلناها نَحنُ، بل على قَدْرِ رَحمَتِهِ خلَّصنا بغُسْلِ الميلادِ الثاني والتّجديدِ مِنَ الرُّوحِ القُدُس الذي أفاضَهُ علينا وافِراً بيَسوعَ المسيحِ مُخَلِّصِنا، حتّى نُبّرَّرَ بنعْمَتِهِ فَنَصيرَ، بحَسَبِ الرّجاء، وَرَثَةَ الحياةِ الأبَديّة” (طيطس الثانية ٣: ٤-٧).
“وفيمَا كانَ الشَّعْبُ يَنتَظِر، والجَمِيعُ يَتَسَاءَلُونَ في قُلُوبِهِم عَنْ يُوحَنَّا لَعَلَّهُ هُوَ المَسِيح، أَجَابَ يُوحَنَّا قَائِلاً لَهُم أَجْمَعِين: أَنَا أُعَمِّدُكُم بِالمَاء، ويَأْتي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، مَنْ لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ رِبَاطَ حِذَائِهِ. هُوَ يُعَمِّدُكُم بِالرُّوحِ القُدُسِ والنَّار. في يَدِهِ المِذْرَى يُنَقِّي بِهَا بَيْدَرَهُ، فيَجْمَعُ القَمْحَ في أَهْرَائِهِ، وأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لا تُطْفَأ. وبِأَقْوَالٍ أُخْرَى كَثيرَةٍ كانَ يُوحَنَّا يَعِظُ الشَّعْبَ ويُبَشِّرُهُم. لكِنَّ هِيرُودُسَ رئِيسَ الرُّبْع، وقَد كانَ يُوحَنَّا يُوَبِّخُهُ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا ٱمْرَأَةِ أَخِيه، ومِنْ أَجْلِ كُلِّ الشُّرُورِ الَّتي صَنَعَها، زَادَ على تِلْكَ الشُّرُورِ كُلِّهَا أَنَّهُ أَلقَى يُوحَنَّا في السِّجْن. ولمَّا ٱعْتَمَدَ الشَّعْبُ كُلُّهُ، وٱعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا، وكانَ يُصَلِّي، ٱنفَتَحَتِ السَّمَاء، ونَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ القُدُسُ في صُورَةٍ جَسَديَّةٍ مِثْلِ حَمَامَة،وجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ يَقُول: أَنْتَ هُوَ ٱبْنِي الحَبِيب، عنكَ رَضِيت” (لوقا ٣: ١٥-٢٢).
عندما كان يوحنّا يتكلّم ويعدّ الطريق ليسوع، لم يكن يتوجّه بكلامه الى الفرّيسيّين فقط بقوله: “أعدّوا طريق الربّ واجعلوا سُبُله قويمة” (متى ٣: ٣). فهو لا يزال اليوم يصرخ فينا، يهزّ دويّ صوته صحراء خطايانا. حتّى وفيما هو تلفّه غفوة الإستشهاد ما زال صوته مدوّيًا اليوم فينا قائلا: “أعدّوا طريق الربّ واجعلوا سُبُله قويمة”. بذلك أوصى يوحنّا المعمدان بإعداد طريق الربّ.
فما هي، يا ترى، الطريق التي أعدّها للمخلّص؟
من أوّلها إلى آخرها، رسمها ونظّمها بأفضل الوسائل من أجل مجيء المسيح، لأنّه كان في كلّ لحظة، بسيطاً، ومتواضعاً، ومتقشّفًا ونقيًّا. قال الإنجيلي متى واصفًا فضائله كلّها: “وكان على يوحنّا هذا لباسٌ من وَبَرِ الإبل، وحولَ وسَطِهِ زُنّارٌ من جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البريّ” (متى ٣: ٤).
أي علامة للتواضع لدى نبيّ أكبر من احتقار الملابس الناعمة لإرتداء الوبر الخشن؟ أي علامة للإيمان أعمق من أن يكون المرء دائم الجهوزيّة للخدمة، وزنّاره حول وسطه؟ هل هناك علامة عن العفّة أكثر إشعاعًا من التخلّي عن ملذّات الحياة ليكون الطعام جرادًا وعسلاً بريًّا؟
كلّ تصرّفات النبيّ تلك كانت نبويّة بحدّ ذاتها. عندما يرتدي رسول المسيح ملابس خشنة من وبر الإبل، ألا يعني هذا ببساطة أنّ المسيح بمجيئه، سيلبس جسدنا البشري، بنسيجه القاسي والخشن من جرّاء خطايا هذا الجسد بالذات؟ إنّ حزام الجلد يعني أنّ جسدنا الضعيف، المائل قبل مجيء المسيح نحو الرذيلة، سوف يقوده هو نحو الفضيلة والتقوى والأعمال الصالحة.
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك