عند نصف ليل السبت عطش وطلب ماء ليشرب على شبه سيده الذي عطش على خشبة الصليب. ثم حلَّ المربوطين والمحرومين وبارك بني رعيته الحاضرين والغائبين قم من تلقاء ذاته ضم يديه الى صدره على شكل صليب وبعد هنيهة اعتل لسانه ولم يمض القليل حتى اطبق عينيه عن هذا العالم واسلم الروح الطاهرة بيد الله وانتقل من دار الشقاء الى دار الراحة الخالدة ليقبل جزاء الرعاة الصالحين مع اثاناسيوس وباسيليوس والذهبي الفم ومع سلفائه البطاركة المغبوطين وكل الذين ضاهوهم في خدمة الله وتدبير بيعته. وكان في سحر يوم السبت في الثالث من أيار بعد أن جلس على الكرسي الإنطاكي أربعا وثلاثين سنة وكان له من العمر ثلاث وسبعون سنة وتسعة أشهر وبقي إلى آخر حياته كامل القوى والحواس وصحيح السمع والبصر[1].
مع اقتراب الثالث من أيار، ذكرى انتقال البطريرك الدويهي إلى السماء ومع اقتراب حفل تطويبه. سبق لنا، تحت عنوان “قديسون وطوباويون حافظ الذاكرة المارونية، البطريرك اسطفان الدويهي، من هو؟”، على موقع زنيت العربي، أن عرضنا بشكل مقتضب عن حياة البطريرك إسطفان الدويهي. هذا البطريرك الذي يقول عنه البروفيسور مطانيوس نجيم التالي: “البطريرك إسطفان الدويهي معين”علم وضمير” غزير. اعتبرته الكنيسة المارونية من رجالاتها العظام، بطريركا مثاليا، استثمر ما وهبه الله من وزنات وفيرة على أكمل وجه؛ فغدا تاريخ الكنيسة المارونية يعرف”بما قبل الدويهي وما بعده”؛ إنه ثروة تراثية عظيمة الشأن يقتضي كشفها والإفادة منها؛ قوامها غلال تاريخية وليتورجية ولاهوتية متنوعة”[2]. في هذا المقال سنعالج بشكل مقتضب بعض خصائص أسلوب الدويهي.
تميز أسلوب الدويهي الأدبي بكثرة إسناده إلى المراجع الكتابية والآبائية والمجمعية هذه هي المراجع الأساسية التي سطرت وخطت مسيرة البطريرك الفكرية. في كتابته للتاريخ، نراه يكتب بنمط قصصي، سهل وبتواريخ وحجج مدموغة، وفي الليتورجيا، كتب مسهب لشرح كل مقطع، رابطا إياه بالمحيط وبالمعنى الروحي وللبيبلي له. لقد تعلم الدويهي اللاهوت عامة واللاهوت لأسراري خاصة في الغرب، كما طوره المدرسيون في القرون الوسطى في “خلاصاتهما اللاهوتية”[3]، وكما كرسه ونسقه المجمع التريدنتيني (١٥٦٢) في دفاعه عن مفهوم الأسرار ضد المصلحين البروتستانت. مما لا شك فيه أن الدويهي قد تأثر بهذا الفكر اللاهوتي، ولكنه حاول أن يفهمه من خلال تراثه الحي الذي هو “خدمة القداس الأنطاكي الماروني”. لقد استوعب التراثين واختزلهما في فكره وثقافته، بحيث لم يعد التمييز بينهما سهلا إلا عند أصحاب الاختصاص بتاريخ علم اللاهوت وتطوره في الشرق وفي الغرب… ينطلق الدويهي، على عكس اللاهوت الغربي، من “خدمة القداس الإلهي”، أي الليتورجيّا، ومن الأسرار تحديدًا، لا سيما سرّ الإفخارستيا، كما تحتفل به الجماعة المؤمنة، عملاً بأمر الربّ في عشائه الأخير مع تلاميذه، حيث أعطاهم جسده ودمه تحت شكلي الخبز والخمر. لا ينطلق الدويهي إذًا في لاهوته حول الإفخارستيا من العقيدة النظرية كما فعل الغرب في القرون الوسطى، بل ينطلق من “خدمة القداس الطاهر” التي ترجع، كما آمن الدويهي، بواسطة الرسل إلى الربّ يسوع ذاته[4].
يعتقد البعض بأن الدويهي ينقل ويقلّد، إلاّ أن الأمر ليس كذلك، بل يفكّر بطريقة شخصيّة إن كان في خصوص خدمة القداس الماروني، وفي شرحها على ضوء الكتاب المقدّس في عهديه، إذ أنّ الكتاب المقدّس وتعاليم الآباء والكنيسة هم عمود فكر وخطّ الدويهي في كلّ ما يفكر. على ضوء كتابات الآباء السريان واليونان واللاتين، لا سيّما الميستاغوجيّة (سرّ المسيح) منها. دلالة على مدى إستفادته من الإقامة في روما. لذلك نراه إستخدم كلّ المصادر المتاحة أمامه في الإستشهادات والشروحات والتفاسير.
بإمكاننا القول، بعد قراءة متأنيّة لنصوص الدويهي، بأن الكتاب المقدّس هو العامود الفقري والأساسيّ لفكره اللاهوتيّ والكنسيّ. نراه مفسّرًا بارعًا له في كتابه “منارة الأقداس”، على أساس قاعدة أن العهد القديم هو ظلّ ورسم العهد الجديد. لذلك يتنقَّل الدويهي بين العهدين في كلّ شروحاته من – إلى. وأخيرًا، يتميّز لاهوته بالإحترام البالغ لسرّ الله غير المدرك الذي كشف لنا عن ذاته في شخص يسوع المسيح، وما موقفه الرافض لكلّ فحص يتجاسر على فهم سرّ الله خارجًا عن هذا الكشف[5]، إلاّ خير دليل على تجذّره في تعلّقه بالسرّ المسيحانيّ.
[1] بطرس شبلي، اسطفانوس الدويهي بطريرك انطاكية 1630 – 1704، منشورات الحكمة، بيروت، لبنان، ص 234 – 235.
[2] مطانيوس نجيم، البطريرك إسطفان الدويهي والتراث الشرقي من الانطاكية إلى اللبنانية، منشورات الرابطة المارونية، بيروت، لبنان، ص 20.
[3] راجع توما الأكويني.
[4] إلياس خليفة، سرّ الإفخارستيا والقدّاس، منشورات معهد الليتورجيا في الكسليك، الكسليك، لبنان، 2005، ص 198 – 199.
[5] إلياس خليفة، سرّ الإفخارستيا والقدّاس، …، ص 207 – 208.