الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ
مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العادي
لسنة 2025
فرنسيس
أسقف روما
خادم خدّام الله
إلى الّذين سيقرؤون هذه الرّسالة
ليملأ الرّجاء قلوبكم
1. «Spes non confundit»، “الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ” (رومة 5، 5). بعلامة الرّجاء، يفيض الرّسول بولس الشّجاعة في الجماعة المسيحيّة في روما. الرّجاء هو أيضًا الرّسالة المركزيّة لليوبيل القادم، الّذي يعلنه البابا، بحسب التّقليد القديم، كلّ خمس وعشرين سنة. أفكّر في جميع الحُجَّاج الممتلئين رجاءً الّذين سيأتون إلى روما ليتقدّسوا بالسّنة المقدّسة، وفي الّذين لا يستطيعون المجيء إلى مدينة الرَّسولَين بطرس وبولس، وسيحتفلون باليوبيل في الكنائس الخاصّة. ليكن اليوبيل للجميع لحظة لقاء شخصيّ وحيّ مع الرّبّ يسوع، “باب” الخلاص (راجع يوحنّا 10، 7. 9). معه، تحمل الكنيسة رسالتها وتنادي بها دائمًا، وفي كلّ مكان، وللجميع، أنّه هو “رجاؤنا” (1 طيموتاوس1، 1).
الجميع يرجو. في قلب كلّ إنسان رجاء هو رغبة وانتظار للخير، مع أنّه لا يعرف ما يحمله معه الغد. ومع ذلك، فإنّ عدم القدرة على التّنبّؤ بالمستقبل يؤدّي أحيانًا إلى ظهور مشاعر متضاربة: بين الثّقة والخوف، وبين الاطمئنان والإحباط، وبين اليقين والشّك. نلتقي مرارًا أشخاصًا محبطين ينظرون إلى المستقبل بشكّ وتشاؤم، وكأنّ لا شيء يمكن أن يقدِّم لهم السّعادة. ليكن اليوبيل فرصة للجميع لإحياء الرّجاء فيهم. وتساعدنا كلمة الله لنجد أسباب الرّجاء. لذلك، لِنسترشِدْ بما كتبه الرّسول بولس لمسيحيّي روما.
كلمة رجاء
2. “فلَمَّا بُرِّرْنا بِالإِيمان حَصَلْنا على السَّلامِ مع اللهِ بِرَبِّنا يسوعَ المَسيح، وبِه أَيضًا بَلَغْنا بِالإِيمانِ إِلى هٰذِه النِّعمَةِ الَّتي فيها نَحنُ قائِمون، ونَفتَخِرُ بِالرَّجاءِ لِمَجْدِ الله. […] الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ صاحِبَه، لأَنَّ مَحَبَّةَ الله أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحِ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا” (رومة 5، 1-2. 5). في هذه الآيات نقاط تأمّل عديدة يقدّمها لنا القدّيس بولس. نحن نعلَم أنّ الرّسالة إلى أهل رومة تبدأ مرحلة جديدة حاسمة في نشاطه وبشارته بالإنجيل. حتّى تلك اللحظة قام بنشاطه في المنطقة الشّرقيّة من الإمبراطوريّة، والآن روما تنتظره بما تمثّله في نظر العالم: إنّه تحَدٍّ كبير يجب أن يواجهه باسم البشارة بالإنجيل الّذي لا يعرف الحواجز ولا الحدود. كنيسة روما لم يؤسّسها بولس، ولكنّه يشعر برغبة شديدة في الوصول إليها قريبًا، ليحمل إلى الجميع إنجيل يسوع المسيح، الّذي مات وقام من بين الأموات، وهي البشارة بالرّجاء الّذي يتمّم الوعود، ويقود إلى المجد وهو مؤسَّس على المحبّة، ولا يُخَيِّب.
3. في الواقع، الرّجاء يولد من المحبّة ويقوم على المحبّة المتدفّقة من قلب يسوع المطعون على الصّليب: “إِن صالَحَنا اللهُ بِمَوتِ ابنِه ونَحنُ أَعداؤُه، فما أَحرانا أَن نَنجُوَ بِحَياتِه ونَحنُ مُصالَحون” (رومة 5، 10). وتظهر حياته في حياة الإيمان فينا، الّتي تبدأ بالمعموديّة، وتنمو في الانقياد لنعمة الله، ولهذا يحييها الرّجاء، الّذي يجدِّده عمل الرّوح القدس ويثبِّتُه دائمًا.
في الواقع، هو الرّوح القدس، بحضوره الدّائم في مسيرة الكنيسة، الّذي يشعّ نور الرّجاء في المؤمنين: يبقيه مضاءً مثل شعلة لا تنطفئ أبدًا، ليمنح حياتنا العَون والقوّة. في الواقع، الرّجاء المسيحيّ لا يخدع ولا يُخيِّب، لأنّه مؤسَّس على اليقين بأنّ لا شيء ولا أحد يستطيع أن يَفصِلَنا عن محبّة الله: “مَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟ […] ولٰكِنَّنا في ذٰلِكَ كُلِّه فُزْنا فَوزًا مُبينًا، بِالَّذي أَحَبَّنا. وإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّات، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا” (رومة 8، 35. 37–39). ولهذا السّبب فإنّ هذا الرّجاء لا يستسلِم في الصّعاب: إنّه يرتكز على الإيمان ويتغذّى من المحبّة، ويسمح لنا بأن نستمرّ في الحياة. يقول القدّيس أغسطينس في هذا الصّدد: “مهما كان نوع الحياة، لا يمكن أن نعيش بدون هذه الأمور الثلاثة: الإيمان، والرّجاء، والمحبّة” [1].
4. القدّيس بولس واقعيّ جدًّا. إنّه يعلَم أنّ الحياة فيها أفراح وأحزان، وأنّ المحبّة تتعرّض للاختبار عندما تزداد الصّعاب ويبدو أنّ الرّجاء ينهار أمام المعاناة والألم. ومع ذلك فهو يقول: “نَفتَخِرُ بِشَدائِدِنا نَفْسِها لِعِلمِنا أَنَّ الشِّدَّةَ تَلِدُ الثَّبات، والثَّباتَ يَلِدُ فَضيلةَ الاِختِبار وفَضيلةَ الاِختِبار تَلِدُ الرَّجاء” (رومة 5، 3-4). بالنّسبة للرّسول، الشّدائد والآلام هي الظّروف النّموذجيّة للذين يبشِّرون بالإنجيل في بيئة يسودها سوء الفهم والاضطهاد (راجع 2 قورنتس 6، 3-10). ولكن في مثل هذه الظّروف، يمكن رؤية النّور من خلال الظّلام: إذ نكتشف أنّ القوّة المتدفّقة من صليب المسيح وقيامته هي الّتي تسند البشارة بالإنجيل. وهذا يؤدّي إلى تنمية فضيلة وثيقة الصّلة بالرّجاء: وهي الصَّبر. لقد اعتدنا حتّى الآن على أن نريد كلّ شيء وفورًا، في عالم صارت السّرعة فيه ميزة ثابتة. لم يَعُدْ لدينا وقت لنلتقي بعضنا مع بعض، وأحيانًا، حتّى في العائلات، يصبح من الصّعب أن نلتقي معًا ونتكلّم بهدوء. إنّ السّرعة قضت على الصّبر والترَوِّي، وفي هذا ضرَرٌ كبير للناس. إذ يسيطر على حياتنا القلق والعصبيّة وأحيانًا العنف غير المبرّر، وكلّ هذا يولِّد فينا عدم الرّضى والانغلاق.
وفي عصر ”الإنترنت“، حيث تمّ استبدال المكان والزّمان بـ ”هنا والآن“، لا مجال للصّبر. لو كنّا قادرين على النّظر إلى الخليقة والإعجاب بها، لأدركنا أهمّيّة الصّبر في الحياة. إذ ننتظر تعاقب الفصول بثمارها، ونراقب حياة الحيوانات ومراحل نمُوِّها، وننظر بعينَيْ القدّيس فرنسيس وبساطته، الّذي رأى في الخليقة عائلة كبيرة ودعا الشّمس ”أختي“ والقمر ”أخي“ [2]، في نشيد المخلوقات، الّذي كتبه قبل 800 سنة. أن نكتشف الصّبر في الحياة مفيد جدًّا لنا وللآخرين. القدّيس بولس يشير مرارًا إلى الصّبر ليبيِّن أهمّيّة المثابرة والثّقة بما وعدنا به الله، ولكنّه يشهد خصوصًا أنّ الله يصبر علينا، هو “إِلهُ الثَّباتِ والعزاء” (رومة 15، 5). الصّبر، وهو أيضًا ثمرة الرّوح القدس، يحيي الرّجاء ويثبِّته كفضيلة وأسلوب حياة. لذلك، لنتعلَّم أن نطلب مرارًا نعمة الصّبر، الّذي هو ابن الرّجاء وهو في الوقت نفسه سنده.
مسيرة رجاء
5. من هذا التّشابك بين الرّجاء والصّبر، يبدو واضحًا أنّ الحياة المسيحيّة هي مسيرة، تحتاج أيضًا إلى لحظات قوّة تغذّي وتقوّي الرّجاء، وهو رفيق لا بديل له يُظهر الهدف من بعيد: وهو اللقاء مع الرّبّ يسوع. أحبّ أن أفكّر في أنّ طريق النّعمة، الّذي تحييه الرّوحانيّة الشّعبيّة، سبق الدّعوة إلى أوّل يوبيل سنة 1300. في الواقع، لا يمكننا أن ننسى الأشكال المختلفة الّتي من خلالها انسكبت نعمة المغفرة بغزارة على شعب الله المقدّس المؤمن: لنتذكّر، مثلًا، ”المغفرة“ الكبرى الّتي أراد القدّيس البابا سلستينوس الخامس أن يمنحها للذين يذهبون إلى بازيليكا القدّيسة مريم في كوليماجيو، في لاكويلا، يومَي 28 و29 آب/أغسطس 1294، ستّ سنوات قبل تأسيس البابا بونيفاشيوس الثّامن للسّنة المقدّسة. كانت الكنيسة تختبر من قبل نعمة الرّحمة في اليوبيل. وحتّى قبل ذلك، في سنة 1216، قَبِلَ البابا هونوريوس الثّالث ابتهال القدّيس فرنسيس الّذي طلب إليه منح الغفران للذين يزورون بورتسيونكولا ”Porziuncola“ (وهي كنيسة صغيرة تقع داخل بازيليكا القدّيسة مريم سيِّدة الملائكة البابويّة بالقرب من أسيزي) في أوّل يومَين من شهر آب/أغسطس. ويمكن قول الشّيء نفسه عن الحجّ إلى سانتياغو في كومبوستيلا (Santiago di Compostela): في الواقع، سمح البابا كاليستوس الثّاني، في سنة 1122، بالاحتفال باليوبيل في ذلك المزار في كلّ مرّة يصادف فيها عيد الرّسول يعقوب يوم الأحد. حسنٌ أن يستمرّ هذا الأسلوب ”المنتشر“ للاحتفال باليوبيل، لكي تسند قوّة مغفرة الله وترافق مسيرة الجماعات والشّعوب.
وليس من قبيل الصّدفة أن يكون الحجّ عنصرًا أساسيًّا في كلّ يوبيل. الانطلاق في مسيرة هو أمرٌ نموذجيّ للذين يبحثون عن معنى الحياة. فالحجّ سيرًا على الأقدام يشجّع بشكل كبير على أن نكتشف من جديد قيمة الصّمت والتّعب وما هو الأهمّ في الحياة. وفي السّنة المقبلة أيضًا، سيسير حجّاج الرّجاء على الطّرق القديمة والحديثة ليعيشوا خبرة اليوبيل بصورة حيّة. وكذلك، في مدينة روما نفسها، ستكون مسيرات إيمانيّة، بالإضافة إلى المسيرات التّقليديّة في سراديب الشّهداء وفي الكنائس السّبع. الانتقال من بلد إلى آخر، كما لو تمّ التّغلّب على الحدود، والعبور من مدينة إلى أخرى مع التّأمّل في الخليقة والأعمال الفنّيّة، يسمح للحاجّ بتقدير الخبرات والثّقافات المختلفة، ويحمل في داخله الجمال الّذي ينسجم مع الصّلاة، ويؤدّي إلى شكر الله على الأمور المدهشة الّتي صنعها. كنائس اليوبيل، على طول طريق الحجّ وفي مدينة روما، يمكن أن تكون واحات روحيّة حيث يمكن أن نقوّي وننعش مسيرة الإيمان فينا ونشرب من ينابيع الرّجاء، أوّلًا وقبل كلّ شيء، بالاقتراب من سرّ المصالحة، وهو نقطة الانطلاق الّتي لا غنَى عنها لمسيرة توبة حقيقيّة. في الكنائس الخاصّة، ينبغي إيلاء اهتمام خاصّ لتحضير الكهنة والمؤمنين لسرّ الاعتراف ولإمكانيّة وصول النّاس إلى السّرّ بشكل فردي.
في هذا الحجّ، أودّ أن أوجّه دعوة خاصّة إلى مؤمني الكنائس الشّرقيّة، ولا سيِّما إلى الّذين هم في شركة كاملة مع خليفة بطرس. هم الّذين تألّموا كثيرًا، ومرارًا حتّى الموت، بسبب أمانتهم للمسيح والكنيسة، يجب أن يشعروا بأنفسهم مرحَّبًا بهم بشكل خاصّ في روما الّتي هي أمّهم أيضًا والّتي تحافظ على ذكريات كثيرة لحضورهم. الكنيسة الكاثوليكيّة، استغنت بطقوسهم القديمة جدًّا، وبلاهوت وروحانيّة الآباء والرّهبان واللاهوتيّين، وتريد أن تُعرِب بصورة رمزيّة عن ترحيبها بهم وبإخوتهم وأخواتهم الأرثوذكس، في عصر يعيشون فيه أصلًا حجًّا هو درب صليب، أُجبِروا فيه مرارًا على ترك أراضيهم الأصليّة، وأراضيهم المقدّسة، الّتي طردهم منها نحو بلدان أكثر أمانًا العنف وعدم الاستقرار. بالنّسبة لهم، فإنّ خبرتهم بأنّ الكنيسة تحبّهم، ولن تتخلّى عنهم، بل ستتبعهم أينما ذهبوا، يزيد معنى اليوبيل وضوحًا.
6. السّنة المقدّسة 2025 هي استمراريّة لأحداث النّعمة السّابقة. في اليوبيل العادي الأخير، مررنا عتبة الذّكرى السّنويّة الألفيّة لميلاد يسوع المسيح. بعد ذلك، في 13 أذار/مارس 2015، أعلنتُ يوبيلًا استثنائيًّا بهدف إظهار ”وجه رحمة“ الله الّذي يسمح لنا بلقائه [3]، وهو إعلان رئيسيّ للإنجيل لكلّ شخص وفي كلّ عصر. لقد حان الآن وقت يوبيل جديد، فيه نفتح الباب المقدّس من جديد على مصراعَيه لنقدّم خبرة محبّة الله الحيّة، الّتي تفيض في القلب الرّجاء الأكيد بالخلاص في المسيح. وفي الوقت نفسه، ستوجِّه هذه السّنة المقدّسة المسيرة نحو ذكرى أساسيّة أخرى لجميع المسيحيّين: في سنة 2033، سيتمّ الاحتفال بألفي سنة بعد سنة الفداء الّذي تمّ بآلام وموت وقيامة الرّبّ يسوع. وهكذا، فإنّنا أمام مسار يتميّز بمراحل كبيرة، حيث نعمة الله تتقدّم الشّعب وترافقه وهو يسير بغَيرة في الإيمان، وباجتهاد في المحبّة، وبثبات في الرّجاء (راجع 1 تسالونيقي1، 3).
استنادًا على هذا التّقليد العريق، وباليقين بأنّ سنة اليوبيل هذه يمكن أن تكون خبرة مكثّفة للنّعمة والرّجاء للكنيسة جمعاء، أحدِّد بأنّ الباب المقدّس لبازيليكا القدّيس بطرس في الفاتيكان سيتمّ فتحه في 24 كانون الأوّل/ديسمبر 2024، وبذلك يبدأ اليوبيل العادي. وفي يوم الأحد التّالي، 29 كانون الأوّل/ ديسمبر 2024، سأفتح الباب المقدّس لكاتدرائيَّتي، كاتدرائيّة القدّيس يوحنّا في اللاتران، الّتي نحتفل في 9 تشرين الثّاني/نوفمبر من هذه السّنة بالذّكرى الـ 1700 لتكريسها. لاحقًا، في 1 كانون الثّاني/يناير 2025، في عيد القدّيسة مريم البتول والدة الله، سيتمّ فتح الباب المقدّس لبازيليكا كنيسة القدّيسة مريم الكبرى البابويّة. أخيرًا، في يوم الأحد 5 كانون الثّاني/يناير، سيتمّ فتح الباب المقدّس لبازيليكا القدّيس بولس البابويّة خارج الأسوار. سيتمّ إغلاق هذه الأبواب المقدّسة الثّلاثة الأخيرة بحلول يوم الأحد 28 كانون الأوّل/ديسمبر من السّنة نفسها.
وأُحدِّد أيضًا: في يوم الأحد 29 كانون الأوّل/ديسمبر 2024، في جميع الكاتدرائيّات والكونكاتدرائيّات، يَحتفل أساقفة الأبرشيات بالافخارستيّا المقدّسة وفيها يفتتحون رسميًّا سنة اليوبيل، وفقًا للطّقوس الّتي سيتمّ إعدادها لهذه المناسبة. بالنّسبة للاحتفال في الكنيسة الكونكاتدرائيّة، يجوز أن يحلّ محلّ الأسقف منتدَبٌ معيَّن لهذا الغرض. الحجّ من الكنيسة، الّتي يتمّ اختيارها للتجمّع، إلى الكاتدرائيّة، هو علامة مسيرة الرّجاء الّتي تنيرها كلمة الله، وتوحِّد المؤمنين. وفيها يتمّ قراءة بعض فقرات هذه الوثيقة ويُعلن للشّعب غفران اليوبيل، الّذي يمكن الحصول عليه حسب الإرشادات الواردة في الرّتبة نفسها للاحتفال باليوبيل في الكنائس الخاصّة. خلال السّنة المقدّسة، الّتي ستنتهي في الكنائس الخاصّة يوم الأحد 28 كانون الأوّل/ديسمبر 2025، يجب الاهتمام لكي يتمكّن شعب الله من المشاركة الكاملة واستقبال إعلان الرّجاء بنعمة الله والعلامات الّتي تشهد على فعّاليّته.
وسيُختَتَم اليوبيل العادي بإغلاق الباب المقدّس لبازيليكا القدّيس بطرس البابويّة في الفاتيكان في 6 كانون الثّاني/يناير 2026، في عيد ظهور الرّبّ يسوع. لِيَصِلْ نور الرّجاء المسيحيّ إلى كلّ إنسان، كرسالة محبّة الله الموجَّهة إلى الجميع! وَلْتَكُنِ الكنيسة شاهدة أمينة لهذا الإعلان في كلّ أنحاء العالم!
علامات الرّجاء
7. بالإضافة إلى استمداد الرّجاء من نعمة الله، نحن مدعوّون أيضًا إلى أن نكتشفه في علامات الأزمنة الّتي يقدّمها الله لنا. وكما يقول المجمع الفاتيكانيّ الثّاني: “إنَّ مِن واجبَ الكنيسة، كي تقومَ بهذه المهمّةِ أحَسَنَ قِيام، أن تتفحَّصَ في كلِّ آنٍ علاماتَ الأزمنةِ وتُفَسِّرَها على ضوءِ الإنجيل، فتستطيعَ أن تُجيبَ بصورةٍ مُلائمةٍ لكلِّ جيلٍ، على أسئلةِ النّاس الدّائمةِ حولَ مَعنى الحياةِ الحاضرةِ والمستقبلة، وحول العلاقاتِ القائمةِ بينهما” [4]. لذلك من الضّروريّ الانتباه إلى الصّلاح الكثير الموجود في العالم حتّى لا نقع في تجربة اعتبار أنفسنا غارقين في الشّرّ والعنف. وعلامات الأزمنة، الّتي تتضمّن أشواق قلب الإنسان، المحتاج إلى حضور الله الخلاصيّ، تقتضي أن تتحوّل إلى علامات رجاء.
8. أوّل علامة رجاء هي السّلام في العالم، الّذي يجد نفسه مرّة أخرى غارقًا في مأساة الحرب. نسيت البشريّة مآسي الماضي، وتتعرّض اليوم لمحنة جديدة وصعبة، فيها اضطهاد شعوب كثيرة وعنف وحشيّ. ماذا ينقص لهذه الشّعوب بعد، وماذا لم تتحمَّل من قبل؟ كيف يمكن ألّا تبلغ صرخاتهم اليائسة إلى قادة الأمم، فتدفعهم إلى وضع حدّ لصراعات إقليميّة كثيرة، وهم يدركون العواقب الّتي يمكن أن تنشأ عنها على المستوى العالميّ؟ هل من المبالغة أن نحلم بأن تصمت الأسلحة وتتوقّف عن جلب الدّمار والموت؟ اليوبيل يذكّر بأنّ “السَّاعينَ إِلى السَّلام” هم الّذين يُدعَون “أبناء الله” (متّى 5، 9). الحاجة إلى السّلام مسؤوليّة تهمّ الجميع وتقتضي القيام بمشاريع عمليّة. لذلك، لا تَغِبْ الجهود الدّبلوماسيّة لكي توفِّر بشجاعة وإبداع أماكن للتفاوض لتحقيق سلام دائم.
النّظر إلى المستقبل برجاء يعني أيضًا وجود رؤية للحياة مليئة بالحماس لنقل الحياة. للأسف، يجب أن نلاحظ بحزن أنّ هذه الرّؤية مفقودة في كثير من الحالات. والنّتيجة الأولى هي فقدان الرّغبة في نقل الحياة. بسبب وتيرة الحياة المتسرّعة حتّى الهَوَج، والمخاوف بشأن المستقبل، وانعدام ضمانات العمل والحماية الاجتماعيّة الكافية، والنّماذج الاجتماعيّة التي يتصدَّرها البحث عن الرّبح بدلًا من الاهتمام بالعلاقات بين النّاس، نشاهد في مختلف البلدان انخفاضًا مقلقًا في المواليد. عكس ذلك، في مجتمعات أخرى، “الشّكوى من الزّيادة السّكانيّة، وليس من النّزعة الاستهلاكيّة المبالغ فيها أو الانتقائيّة الّتي يمارسها البعض، هو نوع من الهروب من مواجهة المشاكل” [5].
9. الانفتاح على الحياة مع أمومة وأبوّة مسؤولة هو المشروع الّذي رسمه الخالق في قلوب وأجساد الرّجال والنّساء، وهو رسالة أوكلَها الله إلى الأزواج وإلى محبّتهم بعضهم لبعض. وبالإضافة إلى الالتزام التّشريعيّ للدّول، من المُلِحّ ألّا يغيب التأييد المقنع من الجماعات المؤمنة ومن المجتمع المدنيّ بأكمله بجميع مكوّناته، لأنّ رغبة الشّباب في ”إنجاب أبناء وبنات جدد“، ثمرة لخصوبة حبّهم، تضمن المستقبل في كلّ مجتمع، وهي مسألة رجاء: تعتمد على الرّجاء وتَلِد الرّجاء.
لذلك، لا يمكن للمجتمع المسيحيّ أن يكون في المرتبة الثّانية بعد أيٍّ كان، في دعم ضرورة حلف الرّجاء الاجتماعيّ، وليكن عمليًّا لا أيديولوجيًّا، يعمل من أجل مستقبل يتميّز بابتسامات الأطفال الكثيرين الّذين يملأون أسِرَّةِ المولودين الفارغة الكثيرة الآن في أنحاء كثيرة من العالم. والجميع، في الواقع، يحتاجون إلى أن يستعيدوا فرحة الحياة، لأنّ الإنسان، المخلوق على صورة الله ومثاله (راجع تكوين 1، 26)، لا يمكنه أن يكتفي بالبقاء وبالشّيخوخة في الحياة، وبالتّكيّف مع الحاضر وبالسّماح لنفسه بالاكتفاء بالأمور الماديّة فقط. هذا يحصرنا في الفرديّة ويفسد الرّجاء فينا، ويولِّد حزنًا يعشّش في القلب، وحِدَّة في المزاج وانعدام الصّبر.
10. في سنة اليوبيل، نحن مدعوّون إلى أن نكون علامات رجاء عمليّة للإخوة والأخوات الكثيرين الّذين يعيشون في ظروف صعبة. أفكّر في السّجناء الّذين حُرِموا الحرّيّة، والّذين يختبرون كلّ يوم، بالإضافة إلى قسوة السّجن، الفراغ العاطفيّ والقيود المفروضة، وفي بعض الحالات، عدم الاحترام. أقترح على الحكومات أن تقوم في سنة اليوبيل بمبادرات تعيد إليهم الرّجاء، مثل أشكال من العفو أو تخفيف الأحكام الّتي تهدف إلى مساعدة الأشخاص على استعادة الثّقة بأنفسهم وبالمجتمع، أو مسارات إدماج من جديد في المجتمع، والّتي تتّفق وتلتزم عمليًّا بمراعاة القوانين.
إنّها دعوة قديمة، تأتي من كلمة الله، وتحتفظ بكلّ قيمتها وحكمتها في القيام بأعمال رحمة وتحرير تسمح بأن يبدأوا حياتهم من جديد: “قَدِّسوا سَنةَ الخَمْسين ونادوا بإِعْتاقٍ في الأَرضِ لِجَميعِ أَهْلِها” (الأحبار 25، 10). وما ثبَّتته الشّريعة الموسويّة تبَنَّاه أشعيا النّبي. قال: “مَسَحَنى الرَّبّ وأَرسَلَني لِأُبشِّرَ الفُقَراء وأَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب وأُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنَ المَسبِيِّين وبتَخلِيَةٍ لِلمَأسورينلِأُعلِنَ سَنَةَ رِضًا عِندَ الرّبّ” (أشعيا 61، 1–2). وهذه كلمات قالها يسوع في بداية رسالته، فأعلن في نفسه تحقيق ”سنة نعمة الرّبّ“ (راجع لوقا 4، 18-19). في كلّ ركن من أركان الأرض، يجب على المؤمنين، وخاصّة الرّعاة، أن يعملوا بهذه التّوجيهات، فيكونوا صوتًا واحدًا يدعو بشجاعة إلى توفير أوضاع كريمة للمسجونين، واحترام حقوق الإنسان، وقبل كلّ شيء إلغاء عقوبة الإعدام، وهو حكم يتعارض مع الإيمان المسيحيّ ويقضي على أيّ رجاء في المغفرة والتّجدّد. [6]لكي أقدّم للسّجناء علامة قرب عمليّة، أودّ بنفسي أن أفتح بابًا مقدّسًا في السّجن، ليكون رمزًا لهم يدعوهم إلى أن ينظروا إلى المستقبل برجاء والتزام متجدّد بالحياة.
11. وينبغي تقديم علامات الرّجاء للمرضى سواء كانوا في البيت أو في المستشفى. فَلْتَجِدْ آلامهم راحة في قرب الأشخاص الّذين يزورونهم وفي المودّة الّتي يَلقَوْنها منهم. أعمال الرّحمة هي أيضًا أعمال رجاء، توقظ مشاعر الشّكر في القلوب. ولْيَبلُغْ الامتنان والشّكر إلى جميع العاملين في مجال الصّحّة الّذين يقومون بمهمّتهم برعاية واهتمام بالمرضى والأضعفين، في ظروف صعبة غالبًا.
ولا يَغِبْ الاهتمام الشّامل تجاه الّذين يجدون أنفسهم في ظروف معيشيّة صعبة بشكل خاصّ، ويعانون من ضعف أنفسهم، خاصّة إن كانوا يعانون من أمراض أو إعاقات تحُدُّ بشكل كبير من استقلاليّتهم الشّخصيّة. فالاهتمام بهم بالنّسبة لهم هو نشيد للكرامة الإنسانيّة، ونشيد رجاء يتطلّب انضمام المجتمع كلّه إليه.
12. علامات الرّجاء يحتاج إليها أيضًا هم أنفسهم الّذين يمثّلونها: أي الشّباب. للأسف، إنّهم يرَون مرارًا أحلامهم تنهار. ولا يمكننا أن نخيِّبهم ونحبطهم: فالمستقبل يعتمد على حماسهم واندفاعهم. حسنٌ أن نراهم يطلقون طاقاتهم، مثلًا عندما يشَمِّرون عن سواعدهم ويلتزمون العمل التّطوّعيّ في حالات الكوارث والمصاعب الاجتماعيّة. ومن المحزن أن نرى شبابًا بلا رجاء. ومن ناحية أخرى، عندما يكون المستقبل غير مؤكّد ولا مكان فيه للأحلام، وعندما لا تفضي الدّراسة إلى أيّة فرصة في الحياة، وعندما يكون نقص في العمل، وفي مِهَن مستقرّة، كلّ هذا يوشك أن يقضي على الرّغبات فيهم، ومِن المُحَتَّم إذّاك أن يعيشوا الحاضر في الكآبة والملل. فيهاجمهم وَهْمُ المخدّرات ومخالفة القوانين والبحث عن الزّائل، ويخلق البلبلة فيهم أكثر من غيرهم ويخفي جمال الحياة ومعناها، ما يجعلهم ينزلقون إلى هاوية مظلمة ويدفعهم إلى أن يقوموا بأعمال تدمير لذاتهم. لهذا السّبب، اليوبيل للكنيسة هو فرصة انطلاق تجاههم: بمحبّة متجدّدة، لنهتمّ بالشّباب، والطّلاب، والخُطَّاب، والأجيال الشّابّة! القرب من الشّباب، فرح ورجاء الكنيسة والعالم!
13. ولن تغيب علامات الرّجاء للمهاجرين الّذين يتركون أراضيهم بحثًا عن حياة أفضل لأنفسهم ولعائلتهم. فلا نقف عائقًا أمام توقّعاتهم بسبب أحكام مسبقة وإنغلاقات. بل لِنُرَحِّبْ بهم ونستقبلهم ونفتح أذرعنا لكلّ واحد منهم بحسب كرامته، ولْنَقُمْ بذلك بمسؤوليّة، حتّى لا يُحرَم أحد من حقِّه في بناء مستقبل أفضل. المنفيّون والنّازحون واللاجئون، الّذين أجبرتهم الأحداث والصّراعات الدّوليّة على الفرار لتجنّب الحروب والعنف والتّمييز، يجب أن يلقَوا الأمن والعمل والتّعليم، وهي وسائل ضروريّة لإدماجهم في السّياق الاجتماعيّ الجديد.
لتكن الجماعة المسيحيّة دائمًا مستعدّة للدفاع عن حقوق الأضعفين. افتحوا أبواب التّرحيب واسعة، حتّى لا يغيب الرّجاء عند أحد بوجود حياة أفضل. لتتردّد كلمة الرّبّ يسوع في قلوبنا، الّذي قال، في مثل الدّينونة العظمى: “كُنتُ غَريبًا فآويتُموني”، لأنّ “كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوَتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه” (متّى 25، 35. 40).
14. المسِنّون، الّذين يشعرون مرارًا بالعزلة والخذلان، يستحقّون أن يُعطَوا علامات رجاء. إنّهم كنز، ويجب تقديرهم، وتقدير خبرة حياتهم، والحكمة الّتي يقدّمونها والمساهمة الّتي يمكنهم تقديمها، كلّ هذا التّزام للجماعة المسيحيّة والمجتمع المدنيّ، المدعوّين إلى العمل معًا من أجل التّحالف بين الأجيال.
أتوجّه بفكرة خاصّة إلى الأجداد والجدّات، الّذين ينقلون الإيمان وحكمة الحياة إلى الأجيال الشّابّة. لِيَكُنْ شكر الأبناء ومحبّة الأحفاد سندًا لهم، ففيهم يجدون الجذور والفَهم والتّشجيع.
15. أطلب الرّجاء بكلّ قلبي لمليارات الفقراء، الّذين يفتقرون مرارًا إلى ضروريّات الحياة. أمام تتابع موجات الفقر الجديدة باستمرار، هناك خطر أن نعتاد ونستسلم للواقع. لا يمكننا أن نحوِّل نظرنا عن مثل هذه المواقف المأساويّة، الّتي نجدها الآن في كلّ مكان، وليس فقط في مناطق معيّنة من العالم. إنّنا نلتقي كلّ يوم بأشخاص فقراء أو يصيرون فقراء، وأحيانًا يمكن أن يكونوا جيراننا. أحيانًا ليس لديهم سكَنٌ ولا طعام كافٍ ليومهم. يتألّمون من الإقصاء واللامبالاة من قبل الكثيرين. إنّه شكّ وعثرة في عالم يتمتّع بموارد هائلة، تُخصَّص إلى حدّ كبير للتسلّح، بينما الفقراء هم “الغالبيّة” […]، مليارات البشر. واليوم يُذكَرُون في النّقاشات السّياسيّة والاقتصاديّة الدّوليّة، ولكن في أفضل الأحوال يبدو مرارًا أنّ مشاكلهم تُطرحُ كملحق، وكأنّها مسألة تُضاف تقريبًا كفرض أو تُطرَح بطريقةٍ هامشيّة، هذا إن لم تُعتبر مجرّد ”ضرّر جانبيّ“. في الواقع، عند التّنفيذ العمليّ، تحتلّ مرارًا مشاكلهم المكان الأخير” [7]. لا ننسَ: إنّ الفقراء هم في الغالب ضحايا، وليسوا مذنبين.
نداء من أجل الرّجاء
16. تكرارًا لكلمة الأنبياء القديمة، يذكّرنا اليوبيل أنّ خيرات الأرض ليست مخصّصة لعدد قليل من النّاس المميَّزين، بل للجميع. من الضّروري أن يكون الأغنياء أسخياء ويتعرّفون على وجوه إخوتهم المحتاجين. أفكّر بشكل خاصّ في الّذين ينقصهم الماء والطّعام: الجوع آفة وشكٌّ كبير في جسم إنسانيّتنا ويدعو الجميع إلى أن يقوموا بمراجعة للضّمير. أجدّد ندائي حتّى يُوَجَّهَ “المال الّذي يُستخدَم في السّلاح والنّفقات العسكريّة الأخرى، لإنشاء صندوق عالميّ، من أجل القضاء على الجوع نهائيًّا وتنمية الدّول الفقيرة، حتّى لا يلجأ سكّانها إلى حلول عنيفة أو مخادعة، ولا يحتاجوا إلى مغادرة بلادهم بحثًا عن حياة كريمة” [8].
أودّ أن أوجّه دعوة صادقة أخرى في ضوء سنة اليوبيل: إنّها موجّهة إلى الدّول الغنيّة، لكي تُدرك خطورة القرارات الكثيرة التي اتّخذتها وتقرّر أن تعفي من الدّيون البلدان التي لن تستطيع أبدًا أن تسدّدها. هذه المبادرة، قبل أن تكون مسألة سخاء، هي مسألة عدل، تفاقمت اليوم بسبب شكل جديد من أشكال الخطيئة الّذي صِرنا نراه: “هناك في الواقع ”دَينٌ إيكولوجيّ“ حقيقيّ، بالأخصّ بين الشّمال والجنوب، يرتبط باختلالات تجاريّة مقرونة بتداعيات إيكولوجيّة، وكذلك باستهلاكٍ غير متناسبٍ للمواردِ الطّبيعيةِ مُمَارس تاريخيًّا من قبل بعض الدّول” [9]. يعلّمنا الكتاب المقدّس، أنّ الأرض لله ونحن كلّنا نعيش عليها مثل “نُزَلاء وضُيوف” (الأحبار 25، 23). إن أردنا حقًّا أن نمهّد طريق السّلام في العالم، فلنلتزم بأن نعالج الأسباب البعيدة للظّلم، ولنعِد النّظر في الدّيون المتعسّفة والّتي لا يمكن تسديدها، ولنُشبع الجياع.
17. في أثناء اليوبيل القادم، سيكون هناك ذكرى مهمّة جدًّا للمسيحيّين كلّهم. في الواقع، سيكون مرور 1700 سنة على الاحتفال بالمجمع المسكونيّ الأوّل الكبير، وهو مجمع نيقيَة. من الجيّد أن نتذكّر أنّه منذ العصور الرّسوليّة، كان الرّعاة يجتمعون في مناسبات مختلفة في جمعيّات، ليناقشوا موضوعات عقائديّة ومسائل نظاميّة. كَثُرَت السّينودسات في القرون الأولى الّتي تميَّزت بالإيمان، سواء في الشّرق أم في الغرب المسيحيّ، وأظهرت كم هو مهمّ الحفاظ على وَحدة شعب الله وإعلان الإنجيل بأمانة. يمكن أن تكون سنة اليوبيل فرصة مهمّة لكي تعطي المعنى الحقيقيّ لهذه الطّريقة السّينوديّة، الّتي ترى الجماعة المسيحيّة اليوم أنّها طريقة ضروريّة لإعلان بشارة الإنجيل: المعمّدون كلّهم، وكلّ واحدٍ بموهبته وخدمته، كلّهم يحملون مسؤوليّة مُشتركة، حتّى يشهدوا لعلامات الرّجاء المتعدّدة لحضور الله في العالم.
كانت مهمّة مجمع نيقيَة الحفاظ على الوَحدة، الّتي كانت مهدّدة بشكل خطير بسبب إنكار ألوهيّة يسوع المسيح ومساواته مع الآب. حَضَرَ حوالي ثلاثمائة أسقف، اجتمعوا في القصر الإمبراطوريّ بدعوة من الإمبراطور قسطنطين في 20 أيّار/مايو 325. بعد مناقشات عديدة، اعترف الجميع، وبنعمة الرّوح القدس، بقانون الإيمان الّذي مازلنا نعترف به حتّى اليوم في الاحتفال الافخارستيّ يوم الأحد. أراد آباء المجمع أن يبدأوا هذا القانون باستخدام عبارة “نؤمن” [10] لأوّل مرّة، ليشهدوا على أنّ في تعبير ”نحن“ كلّ الكنائس كانت تجد نفسها في شركة، وكلّ المسيحيّين كانوا يعترفون بالإيمان نفسه.
مجمع نيقيَة هو مرحلة مهمّة في تاريخ الكنيسة. تذكاره يدعو المسيحيّين إلى أن يتّحدوا في التّسبيح والشّكر للثّالوث الأقدس، وخاصّة ليسوع المسيح، ابن الله، “مُساوٍ للآبِ في الجَّوهَرِ” [11]، الّذي كشف لنا سرّ المحبّة هذا. مجمع نيقيَة هو أيضًا دعوة لجميع الكنائس والجماعات الكنسيّة لكي تتقدّم في مسيرتها نحو الوَحدة المنظورة، ولا تتعب من البحث عن طرق مناسبة تتّفق اتّفاقًا تامًّا مع صلاة يسوع: “فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك، فَلْيكونوا هُم أَيضًا فينا، لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني” (يوحنّا 17، 21).
نُوقِشَ في مجمع نيقيَة أيضًا تاريخ عيد الفصح. وفي هذا الموضوع، لا تزال هناك اليوم أيضًا مواقف مختلفة، تمنع من الاحتفال بحدث الإيمان التّأسيسيّ في اليوم نفسه. ويصادف، صدفة من العناية الإلهيّة، أنّ الاحتفال بالعيد سيكون معًا في سنة 2025. لِيَكُنْ هذا الحدث دعوة للمسيحيّين جميعهم، في الشّرق وفي الغرب، ليقوموا بخطوة حاسمة نحو الوَحدة، حول تاريخ مشترك لعيد الفصح. حسنٌ أن نُذكِّرَ أنّ الكثيرين لم يَعُد لديهم عِلم بجدالات الماضي، ولا يفهمون كيف يمكن أن يكون هناك انقسامات في هذا الصّدد.
مؤسّسين على الرّجاء
18. الرّجاء، مع الإيمان والمحبّة، يشكّل ثلاثيّة ”الفضائل اللاهوتيّة“، الّتي تعبّر عن جوهر الحياة المسيحيّة (راجع 1 قورنتس 13، 13؛ 1 تسالونيكي 1، 3). في ديناميكيّتها الّتي لا تنفصل، الرّجاء هو الّذي يُوَجِّه، إن صحّ التّعبير، ويشير إلى الاتّجاه والهدف لحياة الإيمان. لذلك يدعونا بولس الرّسول إلى أن نكون “في الرَّجاءِ فَرِحين وفي الشِّدَّةِ صابِرين وعلى الصَّلاةِ مُواظِبين” (رومة 12، 12). نَعم، نحن بحاجة لأن ”تفيض نفوسنا رجاءً“ (راجع رومة 15، 13) لكي نشهد بطريقة صادقة وجذّابة للإيمان والمحبّة اللذَين نحملهما في قلوبنا، ولكي يكون الإيمان فَرِحًا، والمحبّة مندفعة، ولكي يستطيع كلّ واحدٍ أن يقدّم ولو ابتسامة فقط، أو علامة صداقة، أو نظرة أخويّة، أو إصغاء صادقًا، أو خدمة مجّانيّة، ونحن نعلَم أنّ ذلك يمكن أن يصير، في روح يسوع، بذرة رجاء مثمرة للذين يَرَوْنها منّا. وما هو أساس رجائنا؟ لنفهم ذلك لننظر ما هي أسباب الرّجاء. (راجع 1 بطرس 3، 15).
19. “أؤمن بالحياة الأبديّة” [12]: هكذا نعترف بإيماننا، والرّجاء المسيحيّ يجد في هذه الكلمات مفصلًا أساسيًّا. في الواقع، الرّجاء “هو الفضيلة الإلهيّة الّتي بها نرغب […] في الحياة الأبديّة، ونرى فيها سعادتنا” [13]. قال المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني: “عندما يغيب الأساس الدّينيّ والرّجاء في الحياة الأبديّة، تُجرح كرامة الإنسان جرحًا بليغًا كما نراه غالبًا في أيّامنا. ويبقى لغزَ الحياة والموت والخطيئة والألَم دون حلٍّ: وهكذا غالبًا ما يهوي البشر في هوّة اليأس” [14]. بينما نحن، وبفضل الرّجاء الّذي بِهِ خُلِّصنا، إن نظرنا إلى الوقت الّذي يمرّ، نحن متأكّدون بأنّ تاريخ البشريّة وتاريخ كلّ واحدٍ منّا لا يسير نحو نقطةٍ عمياء أو هاوية مُظلمة، بل هو موجّه نحو اللّقاء مع رَبِّ المَجد. لذلك، لِنَحْيَ في انتظار عودته وعلى رجاء أن نحيا فيه إلى الأبد: وبهذا الرّوح نجعل من صلاة المسيحيّين الأوائل المؤثّرة صلاتنا، وبها خُتِمَ الكتاب المقدّس: “تَعالَ، أَيُّها الرَّبُّ يَسوع” (رؤيا يوحنّا 22، 20).
20. يسوع الّذي مات وقام من بين الأموات هو قلب إيماننا. لمّا عَبَّرَ القدّيس بولس عن هذا المضمون بكلمات قليلة، واستخدم أربعة أفعال فقط، نَقَلَ إلينا ”جوهر“ رجائنا: “سَلَّمتُ إِلَيكم قبلَ كُلِّ شَيءٍ ما تَسَلَّمتُه أَنا أَيضًا، وهو أَنَّ المسيحَ ماتَ مِن أَجْلِ خَطايانا كما وَرَدَ في الكُتُب، وأَنَّه قُبِرَ وقامَ في اليَومِ الثَّالِثِ كما وَرَدَ في الكُتُب، وأَنَّه تَراءَى لِصَخْرٍ فالاِثْنَي عَشَر” (1 قورنتس 15، 3-5). المسيح مات، وقُبر، وقام، وتراءى. مَرَّ من أجلنا من خلال مأساة الموت. ومحبّة الآب أقامته من بين الأموات بقوّة الرّوح القدس، وجعلت من إنسانيّته باكورة الأبديّة لخلاصنا. الرّجاء المسيحيّ هو هذا: أمام الموت، وحيث يبدو أنّ كلّ شيء قد انتهى، نحن متأكّدون أنّ “الحياة لا تزول، بل تتبدّل” [15]، وذلك بفضل المسيح، وبنعمته الّتي أعطيت لنا في المعموديّة. في الواقع، نُدفن مع المسيح في المعموديّة، وننال فيه، هو الرّبّ القائم من بين الأموات، عطيّة الحياة الجديدة، الّتي تهدم جدار الموت، وتجعل منه ممرًّا نحو الأبديّة.
وإن كان الموت واقعًا لا يُناقَش، وهو انفصالٌ مؤلم يُجبرنا على أن نترك أعزَّ مشاعرنا، فإنّ اليوبيل يتيح لنا الفرصة لأن نكتشف من جديد، وبشكرٍ كبير، عطيّة الحياة الجديدة الّتي قبلناها في المعموديّة، والقادرة أن تبدّل المأساة. من المهمّ أن نعيد التّفكير، في سياق اليوبيل، كيف تمّ فَهمُ هذا السّرّ منذ القرون الأولى للإيمان. مثلًا، ولمدّة طويلة من الزّمن، بنى المسيحيّون جُرن المعموديّة على شكل مُثَمَّن، واليوم أيضًا، يمكننا أن نشاهد أجران معموديّة قديمة كثيرة تحتفظ بهذا الشّكل، مثل جرن معموديّة القدّيس يوحنّا فياللاتران في روما. يدلّ هذا الشّكل إلى أنّنا نحتفل في جرن المعموديّة باليوم الثّامن، أيّ يوم القيامة، واليوم الّذي ليس في الزّمن، يتجاوز نمط الزّمن المُعتاد، المحدّد بمدّة أسبوع، وبالتّالي، يفتح دورة الزّمن على البُعد الأبديّ، وعلى الحياة الّتي تدوم إلى الأبد: هذا هو الهدف الّذي إليه نسعى في حَجِّنَا الأرضيّ (راجع رومة 6، 22).
أكبر شهادة لهذا الرّجاء، يقدّمها لنا الشّهداء، الّذين استطاعوا أن يتخلّوا عن الحياة نفسها هنا حتّى لا يخونوا ربّهم، وذلك بثباتهم في إيمانهم بالمسيح القائم من بين الأموات. إنّهم حاضرون في كلّ العصور، وهم كثيرون في أيّامنا هذه، وربّما أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إنّهم يعترفون بالحياة الّتي لا نهاية لها. وإنّنا بحاجة إلى شهادتهم ونحافظ عليها حتّى يكون رجاؤنا مثمرًا.
هؤلاء الشّهداء، الّذين ينتمون إلى تقاليد مسيحيّة مختلفة، هم أيضًا بذور الوَحدة لأنّهم يعبِّرون عن مسكونيّة الدّم. لذلك، خلال اليوبيل، أرغب بشدّة في ألّا يغيب احتفال مسكونيّ ليعيد إظهار غنى شهادة هؤلاء الشّهداء.
21. إذًا، ماذا سيحلّ بنا بعد الموت؟ مع يسوع، وبعد هذه العتبة، توجد الحياة الأبديّة، الّتي تقوم بالشّركة والوَحدة الكاملة مع الله، والمشاهدة والمشاركة في محبّته اللامتناهية. بقَدرِ ما نعيش الرّجاء الآن، سيكون بعد ذلك حقيقة نحياها. كتب القدّيس أغسطينس في هذا الصّدد: “عندما أتّحد بك بكلّ كياني، لن يكون ألم وحزن فيَّ في أيّ مكان. ستكون حياتي حياةً حقيقيّة، كلّها مليئة بِكَ” [16]. إذًا، ما الّذي يميّز ملء الشّركة هذه؟ أن نكون سعداء. السّعادة هي دعوة الإنسان، وهي هدف يهمّ الجميع.
وما هي السّعادة؟ وأيّ سعادة ننتظر ونرغب فيها؟ لا ننتظر فرحًا عابرًا، ورضًا سريع الزّوال، الّذي متى وُجِد، طلب المزيد والمزيد دائمًا، في دوّامة من الجشع، لا تجد النّفس البشريّة فيها شِبَعَها أبدًا، بل تزداد فراغًا. نحن بحاجة إلى سعادة تتحقّق بشكل نهائيّ في ما يحقّقنا، أي في الحبّ، حتّى نستطيع أن نقول، والآن: أنا محبوب، إذن أنا موجود، وسأكون موجودًا إلى الأبد في الحبّ الّذي لا يخيِّب أملي والّذي لن يستطيع أيّ شيء أو أيّ أحد من أن يفصلني عنه. لنتذكّر من جديد كلمات الرّسول: “إِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّات، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا” (رومة 8، 38-39).
22. حقيقةٌ أخرى مرتبطة بالحياة الأبديّة هي دينونة الله، سواء في نهاية حياتنا أم في نهاية الأزمنة. حاول الفنّ كثيرًا أن يجسّدها – لنفكّر في تحفة مايكل أنجلو في كابيلا سيستينا – من خلال المفهوم اللاهوتيّ للزّمن ونقله إلى المشاهدين إحساسًا بالخوف. إن كان من الواجب أن نُعِدَّ أنفسنا بوعيٍ وجدّيّة كبيرَين في اللحظة التي تلخّص الحياة، من الضّروريّ في الوقت نفسه أن نقوم بذلك دائمًا تحت علامة الرّجاء، وهو الفضيلة الإلهيّة الّتي تسند الحياة وتسمح لنا بألّا نقع في الخوف. دينونة الله، الّذي هو المحبّة (راجع 1 يوحنّا 4، 8. 16)، لا يمكن أن تتأسّس إلّا على المحبّة، ولا سيّما بمقدار ما مارسناها أم لم نمارسها تجاه المحتاجين وأشدِّهِم حاجة، الّذين يكون المسيح، قاضينا نفسه، حاضرًا فيهم (راجع متّى 25، 31–46). لذلك، هي دينونة تختلف عن دينونة البشر وعن المحاكم الأرضيّة، وعلينا أن نفهمها على أنّها علاقة حقيقة مع الله الّذي هو محبّة ومع نفسنا، في سرّ الرّحمة الإلهيّة الّذي لا يُسبر غوره. قال الكتاب المقدّس في هذا الصّدد: “علَّمتَ شَعبَكَ أَنَّ البارَّ يَجِبُ علَيه أَن يَكونَ مُحِبًّا لِلنَّاس، وجَعَلتَ لأَبنائِكَ رَجاءً حَسَنًا، لأَنَّكَ تَمنَحُ التَّوبَةَ عنِ الخَطايا. […] ونَنتَظِرَ رَحمَتَكَ إِذا حُوكِمْنا” (الحكمة 12، 19. 22). وكما كتب البابا بندكتس السّادس عشر: “سوف نختبرُ ونقبلُ في لحظة الدّينونة انتصار محبّته على كلّ الشّرّ في العالم وفينا. فيغدو ألَم المحبّة خلاصنا وفرحنا” [17].
إذن الدّينونة مرتبطة بالخلاص الّذي نتمنّاه والّذي حقَّقه لنا يسوع بموته وقيامته من بين الأموات. لذلك، الدّينونة موجّهة إلى الانفتاح على اللقاء النّهائي مع الله. وبما أنّه لا يمكننا أن نفكّر، في هذا السّياق، أنّ الشّرّ الّذي صنعناه يمكنه أن يبقى مَخفِيًّا، فلا بدّ من تطهيره، لكي يسمح لنا بالعبور النّهائي إلى محبّة الله. نفهم، بهذا المعنى، ضرورة الصّلاة من أجل الّذين أكملوا مسيرتهم الأرضيّة، والتّضامن في صلاة الشّفاعة الّتي تجد فعّاليّتها في شركة القدّيسين، وهي الرّباط المشترك الّذي يوحّدنا في المسيح، بِكرِ الخليقة. وهكذا، فإنّ الغفران في اليوبيل، بقوّة الصّلاة، موجّه بشكل خاصّ للذين سبقونا، حتّى ينالوا الرّحمة الكاملة.
23. في الواقع، يسمح لنا الغفران بأن نكتشف رحمة الله غير المحدودة. ليس من قبيل الصّدفة أنّه في العصور القديمة كانت لفظة ”الرّحمة“ مرادفة للفظة ”غفران“، وذلك لأنّ هذه اللفظة تعبّر عن ملء مغفرة الله الّتي لا حدود لها.
يؤكّد لنا سرّ التّوبة أنّ الله يمحو خطايانا. وتعود إلينا كلمات المزمور محمّلة بالتّعزية: “هو الَّذي يَغفِرُ جَميعَ آثامِكِ، ويَشْفي جَميعَ أَمْراضِكِ. يَفتَدي مِنَ الهُوَّةِ حَياتَكِ، ويُكَلِّلُكِ بِالرَّحمَةِ والرَّأفة. […] الرَّبُّ رؤُوفٌ رَحيم، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الرَّحمَة. […] لا على حَسَبِ خَطايانا عامَلَنا، ولا على حَسَبِ آثامِنا كافَأَنا. بل كارتِفاعِ السَّماءِ عنِ الأَرضِ، عَظُمَت رَحمَتُه على الَّذينَ يَتَّقونَه كبُعْدِ المَشْرِقِ عنِ المَغرِب، أَبعَدَ عنَّا مَعاصِيَنا” (مزمور 103، 3–4. 8. 10–12). ليست المصالحة الأسراريّة مجرّد فرصة روحيّة جميلة، بل هي خطوة حاسمة وأساسيّة ولا غنَى عنها في مسيرة الإيمان لكلّ واحد. فيها نسمح لله بأن يدمّر خطايانا، ويشفي قلوبنا، ويرفعنا ويعانقنا، ويجعلنا نعرف وجهه الحنون والرّؤوف. في الواقع، لا يوجد طريقة أفضل لنعرف الله، من أن نسمح له بأن يتصالح معنا (راجع 2 قورنتس 5، 20)، ونتذوّق طعم مغفرته. لذلك، لا نتركْ سرّ الاعتراف، بل لنكتشف من جديد جمال سرّ الشّفاء والفرح فيه، وجمال مغفرة الخطايا!
مع ذلك، وكما نعلَم من تجربتنا الشّخصيّة، فإنّ الخطيئة ”تترك علامة“، وتحمل معها عواقب: ليس فقط خارجيّة، الّتي هي عواقب الشّرّ الّذي ارتكبناه، بل أيضًا داخليّة، والّتي هي أنَّ “كلّ خطيئة، حتّى الخطيئة العرضيّة، تجعلنا نتعلّق تعلّقًا مَرَضِيًّا بالخلائق، يحتاج إلى تنقية، سواء في هذا العالم أم بعد الموت، في الحالة المعروفة بالمطهر” [18]. لذلك، تبقى ”الآثار المتبقّية من الخطيئة“ في إنسانيّتنا الضّعيفة والمنجذبة إلى الشّرّ. هذه الآثار المتبقّية تُمحى بالغفران، ودائمًا بنعمة المسيح، الّذي، كما كتب القدّيس بولس السّادس، هو “مغفرتنا” [19]. ستُصدر دائرة التّوبة الرّسوليّة أحكامًا تمكِّن من الحصول على غفران اليوبيل، وجعله أمرًا عمليًّا.
هذه الخبرة المليئة بالمغفرة لا يمكنها إلّا أن تفتح قلبنا وعقلنا لكي نغفر. المغفرة لا تغيّر الماضي، ولا يمكنها أن تعدّل ما حدث من قبل، لكن يمكن للمغفرة أن تسمح لنا بأن نغيّر المستقبل ونعيش بشكل مختلف، دون استياء وكراهية وانتقام. المستقبل الّذي تنيره المغفرة، يسمح لنا بأن نقرأ الماضي بعيون مختلفة ومطمئنّة، ولو كانت تملأها الدّموع أيضًا.
في اليوبيل الاستثنائيّ الأخير قُمت بتأسيس مرسلِيْ الرّحمة، وهم مستمرّون بالقيام برسالة مهمّة. آمَل أن يقوموا بخدمتهم في اليوبيل القادم أيضًا، فيعيدوا الرّجاء ويمنحوا المغفرة في كلّ مرّة يلجأ إليهم الخاطئ بقلب منفتح ونفس تائبة. وليستمرّوا في أن يكونوا أدوات للمصالحة ويساعدوا للنّظر إلى المستقبل برجاء القلب الّذي يأتي من رحمة الآب. آمَل أن يتمكّن الأساقفة من الاستفادة من خدمتهم الثّمينة، لا سيّما بإرسالهم إلى حيث يكون الرّجاء في محنة، مثل السّجون والمستشفيات والأماكن الّتي تُداس فيها كرامة الإنسان، وفي أشدّ الحالات آلامًا، وفي سياقات شديدة الانحلال، حتّى لا يُحرم أحد من إمكانيّة الحصول على مغفرة الله وتعزيته.
24. يجد الرّجاء أسمى شهادة له في والدة الله. نرى فيها أنّ الرّجاء ليس تفاؤلًا سطحيًّا، بل عطيّة نعمة في واقع الحياة. مثل كلّ أُمّ، في كلّ مرّة كانت مريم تنظر فيها إلى ابنها، كانت تفكّر في مستقبله، وبالتّأكيد ظلّت الكلمات الّتي وجَّهها إليها سمعان الشّيخ في الهيكل منقوشًة في قلبها: “ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض. وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ” (لوقا 2، 34– 35). وعند أقدام الصّليب، كانت ترى يسوع البريء يتألّم ويموت، ورغم أنّها كانت تتألّم، جدَّدَتْ قولها لله ”نَعم“، دون أن تفقد الرّجاء والثّقة بالله. وبهذه الطّريقة تعاونت في تحقيق ما قاله ابنها، عندما أعلن أنّه يجب أن “يُعانيَ آلامًا شديدة، وأَن يرْذُلَه الشُّيوخُ وعُظماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَل، وأَن يقومَ بَعدَ ثَلاثَةِ أَيَّام” (مرقس 8، 31)، وفي عذاب هذا الألم الّذي قدّمته بمحبّة، صارت أمّنا، أمّ الرّجاء. ليس من قبيل الصّدفة أنّ التّقوى الشّعبيّة تستمرّ في أن تبتهل إلى مريم العذراء القدّيسة باسم ”نجمة البحر“، وهو لقب يعبِّر عن الرّجاء الأكيد بأنّ والدة الله تأتي لمساعدتنا، في أحداث الحياة العاصفة، وتسندنا وتدعونا إلى أن نتحلّى بالثّقة ونستمرّ في الرّجاء.
وفي هذا الصّدد، يَسُرُّني أن أذكر أنّ مزار سيّدتنا مريم العذراء سيّدة غوادالوبه في المكسيك يستعدّ للاحتفال، في سنة 2031، بالذّكرى الخمسمائة لأوّل ظهور للعذراء مريم هناك. من خلال الشّاب خوان دييغو، أرسلت والدة الله رسالة رجاء ثوريّة، وهي تكرّرها حتّى اليوم لجميع الحجّاج والمؤمنين: “ألست أنا هنا، أنا أمّك؟” [20]. وتنطبع رسالة مشابهة في قلوب المزارات المريميّة العديدة المنتشرة في العالم، وهي وجهة الحجّاج الكثيرين الّذين يوكلون همومهم وآلامهم وتوقّعاتهم إلى والدة الله. في سنة اليوبيل هذه، لِتَكُنِ المزارات أماكن مقدّسة للاستقبال والتّرحيب وأماكن مميّزة لولادة الرّجاء. أدعو الحجّاج القادمين إلى روما إلى أن يتوقّفوا للصّلاة في المزارات المريميّة في المدن لتكريم مريم العذراء القدّيسة ولطلب حمايتها. أنا واثق أنّ الجميع، ولا سيّما المتألّمين والمضطربين، سيتمكّنون من اختبار قرب أكثر الأمّهات حنانًا، وهي لا تتخلّى عن أبنائها أبدًا، وهي بالنّسبة لشعب الله المقدّس “علامة العزاءِ والرّجاء الأكيد” [21].
25. في مسيرتنا نحو اليوبيل، لِنَعُدْ إلى الكتاب المقدّس ولْنَسمَعْ هذه الكلمات موجَّهةً إلينا: “أَن نَتَشَدَّدَ تَشدُّدًا قَوِيًّا نَحنُ الَّذينَ التَجَأُوا إِلى التَّمَسُّكِ بِالرَّجاءِ المَعْروضِ عليهم. وهو لَنا مِثْلُ مِرساةٍ لِلنَّفْسِ أَمينَةٍ مَتينَةٍ تَختَرِقُ الحِجابَ إِلى حَيثُ دَخَلَ يسوعُ مِن أَجْلِنا سابِقًا لَنا” (العبرانيّين 6، 18-20). إنّها دعوة شديدة لكي لا نفقد أبدًا الرّجاء الّذي أُعطي لنا، بل نتمسَّك به ونجد به ملجأ في الله.
صورة المرساة مُلهِمَة وتفهمنا ما هو الاستقرار والأمان اللذان نجدهما في وسط مياه الحياة المضطربة، إن أوكلنا أنفسنا إلى الرّبّ يسوع: لا يمكن للعواصف أن تنتصر علينا أبدًا، لأنّنا راسخون في رجاء النّعمة، القادر أن يجعلنا نعيش في المسيح ونتغلّب على الخطيئة والخوف والموت. هذا الرّجاء، الّذي هو أكبر بكثير من كلّ الأمور الّتي نجد فيها رضانا وراحتنا في حياتنا اليوميّة، ومن كلّ تحسين في الظّروف المعيشيّة، يجعلنا نجتاز المحن ويدعونا إلى أن نسير دون أن تغيب عنّا عظمة الهدف الّذي نحن مدعوّون إليه، أيّ السّماء.
سيكون اليوبيل القادم إذًا سنة مقدّسة تتميّز بالرّجاء الّذي لا يغيب، أي الرّجاء في الله. ليساعدنا أيضًا لنجد من جديد، في الكنيسة كما في المجتمع، الثّقة الضّروريّة في العلاقات بين الأشخاص، وفي العلاقات الدّوليّة، وفي تعزيز كرامة كلّ شخص واحترام الخليقة. لِتَكُنْ شهادة المؤمنين خميرة رجاء حقيقيّ في العالم، وإعلانًا لسموات جديدة وأرض جديدة (راجع 2 بطرس 3، 13)، حيث نعيش في عدل ووئام بين الشّعوب، والجميع مندفعون لتحقيق وعود الله.
لِنَترُك أنفسنا منذ الآن ننجذب بالرّجاء، ولْنَجذِب غيرنا بمثالنا، كلّ الّذين يرغبون في ذلك. لِتَكُن حياتنا لهم هذه الكلمة: “أُرجُ الرَّبَّ وتَشَدَّدْ وليَتَشَجَّعْ قَلبُكَ وارجُ الرَّبّ” (مزمور 27، 14). ولتملأ قوّة الرّجاء حاضرنا، ونحن ننتظر بثقة عودة الرّبّ يسوع المسيح، له التّسبيح والمجد الآن وإلى الأبد.
صَدَرَ في روما، في بازيليكا القدّيس يوحنّا في اللاتران، في 9 أيار/مايو، في عيد صعود الرّبّ، سنة 2024، في السّنة الثّانية عشرة من حبريّتي.
فرنسيس
************
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
[1] خطابات، 198، 2.
[2]راجع مصادر فرنسيسكانيّة، رقم 263، 6. 10.
[3]راجع وجه الرّحمة، مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل الرّحمة الاستثنائي، الأرقام 1-3.
[4]دستور رعائي، فرح ورجاء، رقم 4.
[5]رسالة بابويّة عامّة، كُنْ مُسَبَّحًا، رقم 50.
[6]راجع التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، رقم 2267.
[7]رسالة بابويّة عامّة، كُنْ مُسَبَّحًا، رقم 49.
[8]رسالة بابويّة عامّة، كلّنا إخوة، رقم 262.
[9]رسالة بابويّة عامّة، كُنْ مُسَبَّحًا، رقم 51.
[10] Simbolo niceno (القانون النّيقاوي): H. Denzinger – A. Schönmetzer, Enchiridion Symbolorum definitionum et declarationum de rebus fidei et morum, n. 125.
[11] المرجع نفسه.
[12] Simbolo degli Apostoli (قانون إيمان الرّسل): H. Denzinger – A. Schönmetzer, Enchiridion Symbolorum definitionum et declarationum de rebus fidei et morum, n. 30.
[13] التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، رقم 1817.
[14]دستور رعائي، فرح ورجاء، رقم 21.
[15]كتاب القدّاس، مقدّمة الصّلاة الإفخارستيّة، مقدّمة الموتى 1.
[16] إعترافات، 10، 28.
[17]رسالة بابويّة عامّة، بالرّجاء مخلَّصون، رقم 47.
[18] التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، رقم 1472.
[19]رسالة بابويّة عامّة، Apostolorum limina، 23 أيار/مايو 1974، 2.
[20] Nican Mopohua, n. 119.
[21]المجمع الفاتيكاني الثّاني، دستور عقائدي، نور الأمم، رقم 68.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana