vatican media

دور الآداب في التّنشئة

في 4 آب 2024

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

1. كتبت في البداية عنوانًا كان يشير إلى التّنشئة الكهنوتيّة، لكن بعد ذلك فكّرت أنّ هذه الأمور يمكن أن تقال أيضًا في تنشئة العاملين الرّعويّين كلّهم، وكلّ مسيحيّ أيضًا. أشير هنا إلى قيمة قراءة الرّوايات والقصائد في مسيرة نضجنا الشّخصيّ.

2. في ملل أيام العطلة، وحرارة الطّقس، وفي الوِحدة في بعض الأحياء المهجورة، يصبح غالبًا عثورنا على كتاب جيّد للقراءة واحة تُبعدنا عن الاختيارات الأخرى التي لا تناسبنا. ثمّ هناك لحظات التّعب الكثيرة، والغضب، والإحباط، والفشل، وأوقات لا نستطيع أن نجد فيها راحة النّفس، حتّى في الصّلاة، في هذه الحال يساعدنا كتابٌ جيّد لأن نجتاز العاصفة، حتّى نستطيع أن نحصل على شيء من الهدوء. وربّما تفتح لنا هذه القراءة مساحات داخليّة جديدة تساعدنا لأن نتجنّب انغلاقنا على أنفسنا مع بعض الأفكار المهووسة التي تحاصرنا بلا هوادة. كانت خبرة القراءة هذه تُمارس باستمرار، قبل انتشار وسائل الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعيّ والهواتف المحمولة وغيرها من الأجهزة، ومن اختبرها يعرف جيّدًا عمّا أتكلّم. وهي ليست شيئًا عفا عليه الزّمن.

3. على عكس الوسائل السّمعيّة والبصريّة، حيث المنتَج يكون أكثر اكتمالًا والمساحة والوقت اللازمَان ”لإغناء“ الرّواية أو تفسيرها يكونان عادة مختصرين، هناك مجال أكبر للتّفاعل بين القارئ والكتاب. إنّه يُعيد بطريقة ما كتابة الرّواية، ويوسِّعُها بخياله، ويخلق عالمًا، ويستخدم قدراته، وذاكرته، وأحلامه، وقصّته نفسها المليئة بالمآسي والرّموز، فيصير الكتاب نتيجة لذلك رواية مختلفة تمامًا عمّا أراد المؤلّف أن يكتب. وهكذا، فإنّ العمل الأدبيّ هو نصّ حيّ وخصب دائمًا، وقادر أن يتكلّم من جديد بطرق عديدة، ويؤدّي إلى نتيجة فريدة مع كلّ قارئ يلتقيه. في القراءة، القارئ يغتني بما يتلقّاه من المؤلّف، وفي الوقت نفسه يسمح له المؤلّف بأن يطوِّر ويُنَمِّي غنى شخصيته. ومن ثمَّ فإن كلّ كتاب جديد يقرأه، يجدّد ويوسّع عالمه الشّخصيّ.

4. هذا يقودني إلى أن أقيّم بصورة إيجابيّة جدًّا موقف بعض الإكليريكيّات على الأقلّ، التي يتمّ فيها التّغلّب على هوس الشّاشات – والأخبار المزيّفة السّامّة والسّطحيّة والعنيفة – بتخصيص وقت للآداب، ولأوقات للقراءة الهادئة والخالية من الدّوافع المختلفة، وللكلام على هذه الكتب، الجديدة أو القديمة، التي ما زالت تعلِّمُنا أمورًا كثيرة. لكن يجب أن نلاحظ، للأسف، أنّه في مسيرة التّنشئة للذين هُم مُتّجهون نحو الخدمة الكهنوتيّة، لا يوجد اهتمام كافٍ حاليًّا للآداب. في الواقع، يُنظر غالبًا إلى الآداب على أنّها طريقة للتّرفيه، أو تعبير بسيط عن ثقافة ليست جزءًا من مسيرة الاستعداد، ولا الخبرة الرّعويّة العمليّة لكهنة المستقبل. الاهتمام بالآداب يُعتبر شيئًا غير ضروريّ، ما عدا بعض الاستثناءات. في هذا الصّدد، أودّ أن أُوكّد أنّ هذا النّهج خطأ، وهو أساس صورة من الفقر الفكريّ والرّوحيّ الخطير لكهنة المستقبل، الذين يُحرمون بهذه الطّريقة نعمة الوصول إلى قلب الثّقافة الإنسانيّة، عن طريق الآداب، وبصورة أدقّ، إلى قلب الإنسان.

5. بهذه الرّسالة، أودّ أن أقترح تغييرًا جذريًّا في النّهج، في ما يختصّ بالاهتمام الكبير الذي يجب أن نوليه للآداب، في سياق تنشئة المتقدّمين للكهنوت. في هذا الصّدد، أجد مؤثّرًا جدًّا ما قاله أحد اللاهوتيّين:

“الآداب […] تتدفّق من الشّخص ممَّا لا يمكن إلغاؤه فيه، في سرّه […]. إنّها الحياة التي تدرك نفسها عندما تصل إلى مِلءِ التّعبير عن ذاتها، فتلجأ إلى موارد اللغة كلّها”[1].

6. وهكذا، تتَّصل الآداب، بطريقة أو بأخرى، مع ما يريده كلّ واحد منّا من الحياة، لأنّها تدخل في علاقة حميمة مع حياتنا العمليّة، ونزاعاتها الجوهريّة، ومع رغباتها ومفاهيمها.

7. تعلّمت ذلك عندما كنت شابًّا مع طلّابي. بين سنتَي 1964 و1965، كان عمري 28 سنة، وكنت أستاذًا للآداب في ”سانتا في“ (Santa Fe) في مدرسة لليسوعيّين. كنت أعلّم طلّاب السّنتَين الأخيرتَين في الثّانويّة، وكان عليَّ أن أجعل طلّابي يدرسون (El Cid) ”السِّيد“. لكنّ هذا الدّرس لم يعجبهم. طلبوا أن يدرسوا غارسيّا لوركا (García Lorca). فقرّرت أن يدرسوا (El Cid) في البيت، وأنا سأناقش في الصّف المؤلّفين المفضَّلين لدى الشّباب. كانوا يريدون أن يقرؤوا الأعمال الأدبيّة المعاصرة. وبقراءتهم للأمور التي كانت تجذبهم أوّلًا، ‏ كانوا ينفتحون على الآداب عمومًا والشّعر، ثمّ كانوا ينتقلون بعد ذلك إلى مؤلّفين آخرين. في النّهاية، القلب يسعى إلى المزيد، وكلّ واحد يجد طريقه في الآداب. [2] أنا، مثلًا، أحبّ كُتَّاب المآسي، لأنّه يمكننا كلّنا أن نشعر بأنّ أعمالهم كأنّها أعمالنا، وهي تعبير عن مآسينا. عندما نبكي على مصير الشّخصيّات، نحن في النّهاية نبكي على أنفسنا وعلى فراغنا وعيوبنا ووِحدتنا. بالطّبع، أنا لا أطلب منكم أن تقرأوا القراءات نفسها التي قرأتها. كلّ واحد منّا يجد الكتب التي تعبِّر عن حياته والتي ستصير رفيق سفره الحقيقيّ. أن نقرأ شيئا ونحن مُكرَهون، يؤدّي إلى نتيجة عكسيّة، وسنبذل جهدًا كبيرًا فقط لأنّ الآخرين قالوا إنّه ضروريّ. لا، علينا أن نختار قراءاتنا بانفتاح ومفاجأة ومرونة، وأن ندع الآخرين ينصحونا، ونكون صادقين أيضًا، فنحاول أن نجد ما نحن بحاجة إليه في كلّ لحظة من حياتنا.

إيمان وثقافة

8. علاوة على ذلك، للمؤمّن الذي يريد حقًّا أن يدخل في حوار مع ثقافة عصره، أو ببساطة مع حياة النّاس العاديّين، الآداب أمرٌ لا غنى عنه. أكّد المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ، لسبب وجيه، أنّ “الآداب والفنون […] تحاول أن تعبّر عن طبيعة الإنسان” و “تلقي الضّوء على أفراحه وويلاته، وعلى احتياجات البشر وقواهم”[3]. في الحقيقة، الآداب تستند على حياتنا اليوميّة، وعلى عواطفها وأحداثها الواقعيّة مثل “العمل والوظيفة والحبّ والموت وكلّ الأمور الصّغيرة التي تملأ الحياة”[4].

9. كيف يمكننا أن نصل إلى قلب الثّقافات القديمة والجديدة إذا تجاهلنا وأقصينا و/أو أسكتنا رموزها ورسائلها وإبداعاتها ورواياتها التي بها استحوذت وأرادت أن تكشف وتتذكّر أعمالها ومُثُلُهَا العُليا الأجمل، وكذلك عنفها ومخاوفها وأعمق عواطفها؟ كيف يمكننا أن نتكلّم إلى قلوب البشر إذا تجاهلنا أو أهملنا أو لم نقدّر ”ذلك الكلام“ الذي به أرادوا أن يُعلنوا، ولِمَ لا، ويكشفوا عن مأساة حياتهم ومشاعرهم من خلال الرّوايات والأشعار؟

10. استطاعت رسالة الكنيسة أن تبيّن كلَّ جمالها، ونضارتها وكلّ ما هو جديد فيها في لقائها مع الثّقافات المختلفة – غالبًا بفضل الآداب – وقد تجذّرت فيها ولم تخَفْ أن تجازف وأن تأخذ منها أفضل ما وجدته. هذا الموقف حرّرها من تجربة الأنانيّة الأصوليّة التي تصمّ الآذان، وتَظهَر في الاعتقاد بأنّ قواعد تاريخيّة ثقافيّة معيّنة لديها القدرة على أن تعبّر عن غِنى وعمق الإنجيل كلّه.[5] وهذا خطأ. نبوءات شؤم كثيرة تحاول اليوم أن تزرع اليأس، وهي متجذّرة في هذا الموقف. الاتصال بأساليب أدبيّة ونحويّة مختلفة، يسمح دائمًا بأن نتعمّق في أوجه الوحيّ المختلفة، ودون أن نحصرها أو نُفقرها في حدود الاحتياجات التّاريخيّة أو البُنى العقليّة.

11. ليس من قبيل الصّدفة أنّ المسيحيّة الأولى، على سبيل المثال، أدركت جيّدًا الحاجة إلى مقارنة وثيقة مع الثّقافة الكلاسيكيّة في ذلك الوقت. أحد آباء الكنيسة الشّرقيّة، مثل باسيليوس من قيصريّة، مثلًا، في خطابه للشّباب، الذي ألّفه بين السّنوات 370 و 375، والذي ربّما كان موجّهًا إلى أبناء إخوته، أشاد بقيمة الأدب الكلاسيكيّ – ”أدب الذين من الخارج“ (éxothen)، كما كان يُسمّي المؤلّفين الوثنيّين – سواء من حيث العبارات، (lógoi) التي كانت تُستخدم في اللاهوت وفي تفسير الكتاب المقدّس، وسواء من حيث شهادة الحياة نفسها، أي من حيث العمل (práxeis) (الأفعال، والسّلوكيّات) التي كان يجب أن يؤخذ بها بعين الاعتبار في الزّهد والأخلاق. واختتم خطابه وهو يَحُثُّ الشّباب المسيحيّين على اعتبار الآداب الكلاسيكيّة بمثابة ”زوادة“ (ephódion) يحملونها معهم لتعليمهم وتنشئتهم، فيستمدون منها ”منفعة لنفسهم“ (الفصل الرّابع، 8-9). ومن هذا اللقاء بالتّحديد للحدث المسيحيّ مع ثقافة العصر، ظهرت صياغة جديدة مبتكرة لإعلان الإنجيل.

12. بفضل التّمييز الإنجيليّ في الثّقافة، يمكننا أن نكتشف حضور الرّوح القدس في الواقع الإنسانيّ المتنوّع، أي يمكننا أن نرى الزّرع الذي زرعه الرّوح من قبل، وحضوره في الأحداث، والمشاعر، والرّغبات، والميول العميقة في القلوب والسّياقات الاجتماعيّة والثّقافيّة والرّوحيّة. يمكننا، مثلًا، أن نرى مقاربة مماثلة في سفر أعمال الرّسل، في الكلام على بولس في الأَرْيوباغُس (راجع أعمال الرّسل 17، 16-34). أكّد بولس وهو يتكلّم على الله: “ففيهِ حَياتُنا وحَرَكَتُنا وكِيانُنا، كما قالَ شُعَراءُ مِنكم: فنَحنُ أَيضًا مِن سُلالَتِه” (أعمال الرّسل 17، 28). في هذه الآية اقتباسان: الأوّل غير مباشر في القسم الأوّل، حيث يستشهد بالشّاعر إبيمينيدس (القرن السّادس قبل المسيح)، والثّاني مباشر، فيه يستشهد ”بالظواهر“ (Fenomeni) للشّاعر أراتوس دي سيلو (Arato di Silo) (القرن الثّالث قبل المسيح)، الذي تغَنَّى بالكواكب وحالات الطّقس الجيّد والسّيّئ. “بيَّن بولس [هنا] أنّه ”قارئ“ للشّعر وسمح لنا بأن نرى طريقته في استخدام النّصّ الأدبيّ، الذي لا يمكنه إلّا أن ينعكس في التّمييز الإنجيليّ للثّقافة. قال أهل أثينا فيه إنّه ”ثرثار“، (حرفيًّا ”جامع البذور“ – spermologos). كانت تلك بالتّأكيد إهانة، لكنّها في الوقت نفسه حقيقة عميقة. جمع بولس بذور الشّعر الوثنيّ، وخرج من موقف سابق من الازدراء العميق (راجع أعمال الرّسل 17، 16)، وتوصَّل إلى الاعتراف بأهل أثينا أنّهم ”متديّنون جدًا“ ورأى في صفحات أدبهم الكلاسيكيّ تحضيرًا حقيقيًّا للإنجيل” [6].

13. ماذا فعل بولس؟ فهِم أنّ ”الآداب تكشف الأعماق التي يسكنها الإنسان، بينما الوحي، ثمّ اللاهوت، يتبنّانهما ليبيِّنا كيف يقدر المسيح أن يجتازها وينيرها“ [7]. في اتّجاه هذه الأعماق، الآداب هي إذن ”طريق للدخول“ [8] تساعد الرّاعي على أن يدخل في حوار مثمر مع ثقافة عصره.

المسيح ليس بلا جسد، أبدًا

14. قبل التّعمّق في الأسباب المحدّدة التي تدعو إلى تعزيز الاهتمام بالآداب في مسيرة تنشئة كهنة المستقبل، اسمحوا لي أن أذكر هنا فكرة عن السّياق الدّيني الحالي: “العودة إلى المقدّسات والبحث الرّوحيّ اللذان يميِّزان عصرنا هما ظاهرتان فيهما بعض الالتباس. فنحن نواجه اليوم، أكثر من الإلحاد، التّحديّ في أن نروي عطش الكثيرين إلى الله، بما هو مناسب، كي لا يسعوا لإروائه بأجوبة غريبة أو بيسوع المسيح بلا جسد” [9]. المهمّة الملّحة في إعلان الإنجيل في عصرنا تطلب من المؤمنين والكهنة بشكل خاصّ الالتزام حتّى يتمكّن الجميع من لقاء يسوع المسيح الذي صار جسدًا، وإنسانًا، ودخل في التّاريخ. يجب علينا جميعًا أن نكون متنبِّهين لكي لا يغيب عن بالنا أبدًا ”جسد“ يسوع المسيح: الجسد المجبول من العواطف والمشاعر والأحاسيس والقصص الملموسة، واليدان اللتان تلمسان وتشفيان، والنّظرات التي تحرّر وتشجِّع، والضّيافة، والمغفرة، والتّسامح، والشّجاعة، والجرأة: في كلمة واحدة، المحبّة.

15. وعلى هذا المستوى بالتّحديد، يمكن لقراءة الآداب المستمرّة أن تجعل كهنة المستقبل وجميع العاملين الرّعويّين أكثر حساسيّة بإنسانيّة الرّبّ يسوع الكاملة، التي يُفيض فيها ألوهيته كاملة، فيعلنوا الإنجيل بطريقة تسمح للجميع، أقول للجميع، أن يختبروا صحّة ما يقوله المجمع الفاتيكانيّ الثّاني: “في الواقع، فقط في سرّ الكلمة المتجسِّد يجد سرّ الإنسان النّور الحقيقي” [10]. وهذا لا يعني سرّ الإنسانيّة التجريديّة، بل سرّ ذلك الإنسان المحسوس بكلّ جراحه ورغباته وذكرياته وآمال حياته.

الخير الكبير

16. من وجهة نظر عمليّة، يرى العلماء العديدون أنّ عادة القراءة تؤدّي إلى نتائج إيجابيّة عديدة في حياة الشّخص: فهي تساعده ليكتسب ويغتني بمزيد من المفردات، وتطوِّر جوانب مختلفة من ذكائه. كما أنّها تحفِّز الخيال والإبداع. وفي الوقت نفسه، تسمح له بأن يتعلّم التّعبير عن قصصه بطريقة أبلغ. كما أنّها تحسِّن القدرة على التّركيز، وتقلّل من مستويات الضّعف الإدراكي، وتهدّئ التّوتر والقلق.

17. وأكثر من ذلك: إنّها تهيّئنا لنفهم ولنواجه أيضًا المواقف المختلفة التي قد تنشأ في الحياة. في القراءة نندمج في الشّخصيّات، والهموم، والدراما، والمخاطر، ومخاوف الأشخاص الذين تغلّبوا أخيرًا على تحدّيات الحياة، أو ربما نقدّم، في أثناء القراءة، النّصائح للشّخصيّات، وقد تكون مفيدة لنا فيما بعد.

18. لمحاولة تشجيع المزيد من القراءة، أقتبس بكلّ سرور بعض النّصوص لمؤلّفين معروفين، وهم يعلِّموننا أمورًا كثيرة في كلام قليل:

تطلق الرّوايات العنان “فينا في غضون ساعة واحدة لكلّ الأفراح والمصائب المحتمّلة التي قد تستغرق في الحياة سنوات كاملة لنعرف شيئًا قليلًا منها، ولن تنكشف لنا أبدًا قِمَّتها، لأنّ البطء الذي تسير به يمنعنا من إدراكها” [11].

“بقراءة الأعمال الأدبيّة الكبيرة، أصير آلاف البشر، وفي الوقت نفسه، أبقى أنا. مثل سماء الليل في الشّعر اليونانيّ، أرى بعدد لا يُحصى من العيون، لكنّني دائمًا أنا هو الذي يرى. هنا، كما هو الحال في الدّين والحبّ والعمل الأخلاقيّ والمعرفة، أتجاوز نفسي، ومع ذلك، عندما أفعل ذلك، أكون أنا أكثر من أيّ وقت مضى” [12].

19. ومع ذلك، لا أقصد التّركيز فقط على هذا المستوى من الفائدة الشّخصيّة، بل التّفكير في أكثر الأسباب حسمًا لإيقاظ حبّ القراءة من جديد.

الإصغاء إلى صوت أحد

20. عندما يتجّه فكري إلى الآداب، تتبادر إلى ذهني ما قاله الكاتب الأرجنتينيّ الكبير خورخي لويس بورخيس [13] (Jorge Luis Borges) لطلابه: أهمّ شيء هو القراءة، وأن تكون على اتّصال مباشر بالآداب، وأن تندمج في النّص الحيّ الذي تقرأه، أكثر من أن تركّز على الأفكار والتّعليقات النّقديّة. وقد شرح بورخيس هذه الفكرة لطلابه وقال لهم إنّهم ربما لن يفهموا في البداية سوى القليل مما كانوا يقرؤونه، لكنّهم على أيّ حال سيُصغون إلى ”صوت أحد“. هذا هو تعريف الآداب التي أُحبّها كثيرًا: الإصغاء إلى صوت أحد. ولا ننسَ مدى خطورة أن نتوقّف عن الإصغاء إلى صوت الآخر الذي يخاطبنا! إذ نقع على الفور في العزلة الذّاتية، وندخل في نوع من أنواع الصّممّ ”الرّوحي“، الذي يؤثّر أيضًا سلبًا على علاقتنا بأنفسنا وعلاقتنا بالله، بغض النّظر عن مدى قدرتنا على دراسة اللاهوت أو عِلم النّفس.

21. باتّباع هذا الطّريق الذي يجعلنا حساسين لسِرّ الآخرين، تساعدنا الآداب لنتعلَّم كيف نصل إلى قلوبهم. كيف لا يمكننا أن نتذكّر في هذه المرحلة الكلام الشّجاع الذي وجّهه القدّيس بولس السّادس إلى الفنّانين، وكذلك إلى الكتّاب الكبار في 7 أيّار/مايو 1964؟ قال: “نحن بحاجة إليكم. خدمتنا بحاجة لتعاونكم. لأنّ خدمتنا، كما تعلَمون، هي التّبشير وجعل عالم الرّوح، غير المرئيّ، الذي لا يمكن وصفه، عالم الله، سهلَ الوصول إليه ومفهومًا، بل مؤثِّرًا. وفي هذه العمليّة، التي تضع العالم غير المرئيّ في صيغ يمكن الوصول إليها وفهمها، أنتم أسياد.” [14] هنا بيت القصيد: مهمّة المؤمنين، والكهنة على وجه الخصّوص، هي تحديدًا ”لمس“ قلب الإنسان المعاصر حتّى يتحرّك وينفتح أمام إعلان الرّبّ يسوع، وفي التزامهم هذا فإنّ الإسهام الذي يمكن أن تقدّمه الآداب والشّعر له قيمة لا تُثمَّن.

22. توماس ستيرنز إليوت (Thomas Stearns Eliot)، الشّاعر الذي تَدينُ له الرّوح المسيحيّة بمؤلّفات أدبيّة ميَّزت الزّمن المعاصر، وصف الأزمة الدّينيّة الحديثة بأنّها أزمة ”عجز عاطفي“ منتشرة. [15] في ضوء هذه القراءة للواقع، فإنّ مشكلة الإيمان اليوم ليست أوّلًا مشكلة إيمان أكثر أو أقل بالقضايا العقائديّة، بل المشكلة مرتبطة بعدم قدرة الكثيرين على الاندهاش أمام الله، أو خليقته، أو الكائنات البشريّة الأخرى. فتقوم مهمّتنا إذن بشفاء وإغناء حساسيَّتنا. ولهذا السّبب، عند عودتي من الزّيارة الرّسوليّة إلى اليابان، وعندما سألوني ماذا يجب أن يتعلّمه الغرب من الشرّق، أجبت: “أعتقد أنّ الغرب يحتاج إلى شيء من الشّعر” [16].

نوع من قاعدة قفز للتّمييز

23. ماذا يستفيد الكاهن إذن من هذه الصّلة بالآداب؟ لماذا من الضّروريّ أن ننظر إلى قراءة الرّوايات الكبيرة ونشرها على أنها عنصرٌ مهمّ في جملة المعارف الكهنوتيّة؟ لماذا من المهمّ أن نستعيد وننشّط في مسار تنشئة المرشّحين للكهنوت، ما أوضحه اللاهوتي كارل راهنر، وهو الشّعور بالتّقارب الرّوحي العميق بين الكاهن والشّاعر؟ [17]

24. لنحاول أن نجيب على هذه الأسئلة بإصغائنا إلى اعتبارات اللاهوتيّ الألمانيّ. [18] كتبَ راهنر: كلام الشّاعر ”مليء بالحنين“، وهو “أبواب مفتوحة على اللامتناهيّ، أبواب تبقى مفتوحة على مصاريعها على مساحات غير محدودة. إنّها تذكّرنا بما لا يمكن وصفه، وتتجّه نحو ما لا يمكن وصفه”. هذا الكلام الشّعريّ “يطلّ على اللامتناهي، لكنّه لا يستطيع أن يعطينا هذا اللامتناهي، ولا يستطيع أن يحمل أو أن يخفي في داخله ذلك اللامتناهي”. وهذا هو في الواقع نموذج لكلمة الله. ويتابع راهنر: “ومن ثَمَّ، فإنّ الكلام الشّعريّ يستدعي كلمة الله” [19]. بالنّسبة للمسيحيّين، الكلمة هي الله، وكلّ الكلام البشريّ يحمل آثار حنين جوهريّ إلى الله، ويميل نحو كلمة الله. يمكن القول إنّ الكلام الشّعريّ الحقيقيّ يشارك بشكل مشابه في كلمة الله، كما تقدّم لنا ذلك الرّسالة إلى العبرانيين بطريقة مدوّيّة (راجع العبرانيين 4، 12-13).

25. وهذه هي الطّريقة التي تمكَّن بها كارل راهنر من إقامة تشابه جميل بين الكاهن والشّاعر: “الكلام وحده هو الذي يقدر أن يحرّر كلّ الواقع المقيَّد وغير المعلَن: والذي نسميه الصَّمَمُ أمام نزعة الإنسان إلى الله” [20].

26. وفي الآداب هناك مسائل تتعلّق بالشّكل وبالمعنى، ويجب التّمييز بينها. ولذلك فهي تمثّل نوعًا ما قاعدة للتّمييز، التي تَصقل مهارات الحكمة في التّدقيق في ما هو داخليّ وما هو خارجيّ في كاهن المستقبل. المكان الذي ينفتح فيه طريق الوصول إلى الحقيقة هو ما في داخل القارئ، المندمج مباشرة في عمليّة القراءة. وهنا ينكشف سيناريو التّمييز الرّوحيّ الشّخصيّ، حيث يوجد القلق والأزمات أيضًا. في الواقع، هناك صفحات أدبيّة عديدة يمكن أن تستجيب لمفهوم الكآبة كما عرفها القدّيس أغناطيوس.

27. “نعني بالكآبة […] ظلمة في النّفس، والاضطراب الدّاخليّ، والاندفاع إلى الأمور الوضيعة والأرضيّة، والقلق النّاجم عن مختلف الاضطرابات والتّجارب: هكذا تميل النّفس إلى عدم الثّقة، فتصير بلا رجاء وبلا محبّة، وتجد نفسها كسولة، وفاترة، وحزينة، وكأنّها منفصلة عن خالقها وربّها” [21].

28. الألم أو الملل الذي تشعر به عندما تقرأ بعض النّصوص ليست بالضّرورة مشاعر سيّئة أو لا فائدة منها. لاحظ أغناطيوس دي لويولا نفسه أنّ الرّوح الصّالح يعمل في الذين يسيرون من سيئ إلى أسوأ”، فيثير فيهم القلق والاضطراب وعدم الرضى. [22] هذا هو التّطبيق الحرفي لأوّل بند في قانون القدّيس أغناطيوس، للتّمييز بين الأرواح، في الذين “يسيرون من خطيئة مميتة إلى خطيئة مميتة”. فالرّوح الصّالح يدفع هؤلاء الأشخاص “بالقلق ووخز الضّمير انطلاقا من العقل” [23] ليقودهم إلى الخير والجمال.

29. نفهم من هذا أنّ القارئ ليس متلقيًّا لرسالة حسنة، بل هو شخص يُدفَعُ بصورة قوية إلى الانتقال إلى منطقة غير مستقرّة حيث الحدود بين الخلاص والهلاك ليست مبدئيًّا محدّدة ولا منفصلة. فالقراءة، هو مثل فِعلِ ”التّمييز“، حيث يصير القارئ هو ”الفاعل“ في ما يقرأ،  وفي الوقت نفسه، هو ”موضوع“ ما يقرأه. عندما يقرأ القارئ رواية أو مجموعة أشعار، يعيش فعليًّا خبرة وهي أنّه هو ”المقروء“ بالكلمات التي يقرأها. [24] وهكذا فإنّ القارئ يشبه اللاعب في الملعب: فهو يلعب اللعبة، ولكن في الوقت نفسه اللعبة تَتِمُّ به، بمعنى أنّه مندمج تمامًا في ما يعمله. [25]

الاهتمام والهضم

30. أمّا فيما يختصّ بالمحتويّات، فيجب الاعتراف بأنّ الآداب هي مثل ”التّلسكوب“ – بحسب الصّورة المعروفة التي صاغها بروست [26] (Proust) – الموجَّه على الأشخاص والأشياء، لتقريب ”المسافة الكبرى“ التي تصنعها الحياة اليوميّة بين ما نشعر به، وبين الخبرة الإنسانيّة برمتها. “الآداب تشبه مختبرًا للصّوّر الفوتوغرافيّة، حيث يمكن معالجة الصّور حتّى تظهر دقائقها وتفاصيلها. هذا هو، إذن، ما ”تصنعه“ الآداب: ”تطوِّر“ صور الحياة” [27]، وتسألنا عن معناها. باختصار، إنّها تفيدنا لنختبر الحياة بمزيد من الفعّاليّة.

31. وفي الواقع، فإنّ نظرتنا العادية إلى العالم ”مقلّصة“ ومحدودة بسبب الضّغط الذي تمارسه علينا الأغراض التّشغيليّة والمباشرة لأعمالنا. وحتّى الخدمة – في العبادة والعمل الرّعويّ وأعمال المحبّة – يمكن أن تصير أوامر توجّه قوانا واهتمامنا فقط نحو الأهداف التي يجب تحقيقها. ولكن، يذكِّرنا يسوع في مثل الزّارع، بأنّه يجب أن تسقط البِذار في تربة عميقة لتنضج وتثمر مع مرور الوقت، دون أن تختنق في الأمور السّطحيّة أو بين الأشواك (متّى 13، 18-23). وهكذا يصير الخطر هو الوقوع في ”الإنتاجيّة العالية“ التي تستهين بالتّمييز، وتفتقر إلى الحساسيّة، وتقلّل من التّعقيد. لذلك من الضّروري والملِّح معارضة هذا التّسارع والتّبسيط لحياتنا اليوميّة، وذلك بأن نتعلّم بأن نقيم المسافات بيننا وبين ما هو فوري، والإبطاء في العمل، والتّأمّل والإصغاء. يمكن أن يحدث هذا عندما يتوقَّف الشّخص، فيبدأ قراءة كتاب لا لأيّ هدف آخر.

32. من الضّروريّ أن نستعيد طرقًا مرنة غير استراتيجيّة للتعامل مع الواقع، لا تهدف مباشرة إلى تحقيق نتيجة، بل تسمح لفائض الوجود اللامحدود بأن يظهر. المسافة، والبطء، والحرّيّة هي ميزات مقاربة للواقع تجد في الآداب شكلًا من أشكال التّعبير ليس حصريًا، لكنّه متميِّز. فتصير الآداب ساحة تدريب حيث يمكننا أن ندرِّب نظرنا في البحث عن حقيقة الأشخاص والمواقف واستكشافها كأنها سِرّ، كأنّها مليئًة بمعنى فائض، ولا يمكن أن يظهر إلّا جزئيًا في فئات، وأطُر تفسيريّة، وفي ديناميكيّات سطحيّة مثل ربط النّتيجة بالسّبب، والغاية بالوسيلة.

33. صورة جميلة أخرى للتّعبير عن دور الآداب تأتي من فيزيولوجيا الجهاز البشريّ، وخاصّة من عمليّة الهضم. هنا المثال يأتي من “اجترار البقرة”، كما قال الرّاهب غيوم دي سانت تييري (Guillaume de Saint-Thierry) في القرن الحادي عشر، واليسوعيّ جان جوزيف سورين (Jean-Joseph Surin) في القرن السّابع عشر. يتكلَّم هذا الأخير عن ”معدة النّفس“، وقد أشار اليسوعيّ ميشيل دي سيرتو (Michel De Certeau) إلى ”فيزيولوجيا حقيقية للقراءة الهاضمة“. [28] إذن، تساعدنا الآداب على التّعبير عن حضورنا في العالم، و”هضمه“ واستيعابه، وفهم ما هو ما بعد الذي نعيشه. تفيد إذن في تفسير الحياة، والتّمييز بين المعاني ونزعاتها الأساسيّة. [29]

الرّؤيّة بعيون الآخرين

34. فيما يتعلّق بشكل الخطاب، يحدث ما يلي: عندما نقرأ نصًا أدبيًّا، نكون في وضع يسمح لنا “بـأن نرى بعيون الآخرين” [30]، فنكتسب منظورًا واسعًا يوسِّع إنسانيتنا. وهكذا يتمّ تنشيط قدرة الخيال التّعاطفيّ فينا، وهي وسيلة أساسيّة للقدرة على التّماهي مع وجهة نظر الآخرين وحالتهم ومشاعرهم، والتي بدونها لا يوجد تضامن أو مشاركة أو شفقة أو رحمة. عندما نقرأ نكتشف أنّ ما نشعر به ليس مُلكَنا فقط، بل هو شامل الجميع، ومن ثَمَّ حتّى أكثر الأشخاص المتروكين لن يشعروا بالوِحدة.

35. التّنوّع العجيب في الكائن البشريّ والتّعدديّة في اللحظات الزّمنيّة، العامّة أو المفردة، في الثّقافات والمعارف، يُعبَّر عنها في الآداب بلغة قادرة على احترام تنوّعها والتّعبير عنها، وفي الوقت نفسه تُوضَع في قوالب نحويّة رمزيّة تمنحها مفهومًا مشتركًا، ليس غريبًا. أصالة الكلمة الأدبيّة هي في أنّها تعبِّر عن غنى الخبرة وتنقلها من دون أن تحوِّلها إلى ”موضوع“ في الوصف التّعبيري في المعرفة التّحليليّة أو في الفحص المنظِّم للحكم النّقدي، بل هي مضمون جهد يحاول أن يعبِّر ويفسّر ويعطي معنى للخبرة المعنية.

36. عند نقرأ قصة، بفضل رؤيّة المؤلِّف، كلّ واحد يتخيّل بطريقته الخاصّة بكاء فتاة متروكة، أو امرأة مسنّة تغطيّ جسد حفيدها النّائم، وحماس رجل بالانتقاد من الجميع، والشّاب الذي يحلم بالطّريق الوحيد للخروج من آلام الحياة البائسة والعنيفة. عندما نشعر بآثار عالمنا الدّاخليّ وسط تلك القصّص، تزداد حساسيّتنا أمام خبرات الآخرين، ونخرج من أنفسنا لندخل إلى أعماقهم، فنستطيع أن نفهم أتعابهم ورغباتهم أكثر بعض الشّيء، ونرى الواقع بعيونهم، وفي النّهاية نصير رفاق سفرهم. وهكذا نندمج في الحياة العمليّة والدّاخليّة لبائع الخضار، والزّانية، والطّفل الذي يكبر بدون والديه، وامرأة عامل البناء، والمرأة المسنّة التي ما زالت تحلم بأنّها ستجد أميرها. ويمكننا أن نفعل ذلك بتعاطف، وأحيانًا بتسامح وتفهُّم.

37. كتب جان كوكتو (Jean Cocteau) إلى جاك ماريتان (Jacques Maritain): “الآداب مستحيلة، يجب أن نخرج منها، ولا جدوى من محاولة الخروج منها بالآداب لأنّ الحبّ والإيمان وحدهما يسمحان لنا بأن نخرج من أنفسنا” [31]. ولكن هل نخرج حقًّا من أنفسنا إن كانت آلام الآخرين وأفراحهم لا تحترق في قلوبنا؟ أُفضِّل أن أتذكّر أنّي، لكوني مسيحيًّا، لا يوجد شيء إنسانيّ لا يهُمُّني.

38. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الآداب ليست نسبويّة، لأنّها لا تجرّدنا من معايير القيمة. التّمثيل الرّمزي للخير والشّرّ، للصّواب والخطأ، كأبعاد تظهر في الآداب في الحياة الفرديّة والأحداث التّاريخيّة الجماعيّة، لا تلغي الحكم الأخلاقيّ، لكنّها تمنعه من أن يصير أعمى أو حكمًا سطحيًّا. يسوع يسألنا: “لماذا تَنظُرُ إِلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك؟ والخَشَبَةُ الَّتي في عَينِكَ أَفَلا تَأبَهُ لها؟” (متّى 7، 3).

39. وفي عنف الآخرين أو محدوديتهم أو ضعفهم، لنا الفرصة للتّفكّير بشكل أفضل في أنفسنا. تفتح الآداب أمام القارئ رؤيّة واسعة للغنى والشّقاء في الخبرة الإنسانيّة، فتُربّي نظرته على قبول البطء في الفهم، والتّواضع في عدم تبسيط الأمور، والوداعة في عدم ادّعاء السّيطرة والحكم على الواقع والحالة الإنسانيّة. من المؤكّد أنّ هناك حاجة للحكم، لكن يجب ألّا ننسى أبدًا حدوده: في الواقع، يجب ألّا يُفهَمَ الحكم أبدًا أنّه حكم بالإعدام، أو بالإلغاء، أو بقمع الإنسانيّة لصالح شموليّة قانون جافّ.

40. نظرة الآداب تدرِّب القارئ على اللامركزيّة، وعلى معنى حدوده، وعلى التّخلّي عن السّيطرة، المعرفيّة والنّقديّة، على الخبرة، وتعلِّمه الفقر الذي هو مصدر غنى كبير. وبالاعتراف بعدم الفائدة، بل باستحالة إخضاع سرّ العالم والكائن البشريّ لمعارضة قطبيّة بين الصّواب والخطإ والصّحيح وغير الصحيح، يجد القارئ واجب الحكم، لا كأداة للسّيطرة، بل كدافع إلى إصغاء مستمرّ، واستعداد دائم للمغامرة في هذا الغنى الخارق في التّاريخ، والنّاجم عن حضور الرّوح، الذي يعطي نفسه وهو نعمة: مثل حدث لا يمكن التّنبّؤ به ولا فهمه، ولا يعتمد على عمل الإنسان، بل يعيد تعريف الإنسان على أنّه أمل الخلاص.

القدرة الرّوحيّة للآداب

41. أرجو أن أكون بيَّنت، في هذه الأفكار الموجزة، الدّور الذي يمكن أن تلعبه الآداب في تربية قلب الرّاعي وعقله، راعي المستقبل، نحو ممارسة حرّة ومتواضعة للطّاقة العقليّة الفرديّة، ونحو اعتراف مثمر بتعدّديّة اللغات البشريّة، وتوسيع حساسيّة الإنسان الإنسانيّة، وأخيرًا نحو انفتاح روحيّ كبير للإصغاء إلى الصّوت، صوت الله، من خلال أصوات عديدة.

42. بهذا المعنى، تساعد الآداب القارئ على تحطيم أصنام اللغات التي تجد مرجعيتها في ذاتها، والمكتفية بذاتها، والتي تهدّد أحيانًا بتلويث خطابنا الكنسيّ، بسجن حرّيّة كلمة الله. الكلمة الأدبيّة هي كلمة تحرِّك اللغة، وتحرّرها وتنقّيها: وأخيرًا، تفتحها على إمكانياتها التّعبيريّة والاستكشافيّة الإضافيّة، وتجعلها قادرة على التّرحيب بكلمة الله التي تستقر في كلمة الإنسان، وليس عندما تفهم نفسها على أنّها معرفة كاملة ونهائيّة، بل عندما تسهر وتصغي وتنتظر الذي سيأتي ”ليجعَلَ كُلَّ شَيءٍ جَديدًا“ (راجع رؤيّة 21، 5).

43. القدرة الرّوحيّة للآداب تذكّر أخيرًا بالمهمّة الأساسيّة التي أوكلها الله إلى الإنسان: مهمة ”تسميّة“ الكائنات والأشياء (راجع تكوين 2، 19- 20). مهمّة حارس الخليقة، التي أوكلها الله لآدم، هي أوّلًا إدراك الإنسان لواقعه الخاصّ ولمعنى وجود الكائنات الأخرى. الكاهن مكلّف أيضًا بهذه المهمّة الأصليّة التي هي ”تسميّة“، وإعطاء المعنى، وأن يكون أداة شركة ووَحدة بين الخليقة والكلمة المتجسِّد، وقدرته على إضاءة كلّ جانب من جوانب الحالة الإنسانيّة.

44. القرب بين الكاهن والشّاعر يظهر في هذا الاتّحاد السّريّ وغير المنفصل بين الكلمة الإلهيّة والكلمة البشريّة، وهو على أساس رتبة هي خدمة مليئة بالإصغاء والرّحمة، وهي موهبة تصير مسؤوليّة، وهي رؤيّة للحقيقة والخير تفضي إلى الجمال. لا يسعنا إلّا أن نصغي إلى الكلام الذي تركه لنا الشّاعر بول سيلان (Paul Celan): “من تعلَّم حقًّا أن يرى، اقترب من غير المرئيّ” [32].

صَدَرَ في روما، في بازيليكا القدّيس يوحنّا في اللاتران، في 17 تموز/يوليو 2024، الثّاني عشر من حبريّتنا.

فرنسيس

 

************

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024

 


[1] R. Latourelle, «Letteratura», in R. Latourelle – R. Fisichella, Dizionario di Teologia Fondamentale, Assisi (PG) 1990, 631.

[2] Cfr. A. Spadaro, «J. M. Bergoglio, il “maestrillo” creativo. Intervista all’alunno Jorge Milia», in La Civiltà Cattolica 2014 I 523-534.

 

[3]المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء، 62.

[4] K. Rahner, «Il futuro del libro religioso», in Nuovi saggi II, Roma 1968, 647.

 

[5]راجع الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل، 117.

[6] A. Spadaro, Svolta di respiro. Spiritualità della vita contemporanea, Milano, Vita e Pensiero, 101.

[7] R. Latourelle, «Letteratura», 633.

 

[8]القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، رسالة إلى الفنّانين، رقم 6.

 

[9] الإرشاد الرّسولي، فرح الإنجيل، 89.

 

[10] دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء – Gaudium et spes، رقم 22.

[11] M. PROUST, Alla ricerca del tempo perduto. I. La strada di Swann, Milano, Mondadori, 1983, 104 s.

[12] C.S. Lewis, Lettori e letture. Un esperimento di critica, Milano 1997, 165.

[13] Cfr. J.L. Borges, BorgesOral, Buenos Aires 1979, 22.

 

[14] القدّيس بولس السّادس، عظة، قداس الفنّانين في الكابيلا سيكستينا، 7 أيّار/مايو 1964.

[15] T.S. Eliot, The Idea of a Christian Society, London 1946, 30.

 

[16] مؤتمر صحفيّ لقداسة البابا فرنسيس أثناء رحلة العودة من الزيارة الرّسوليّة إلى تايلاند واليابان، 26 تشرين الأوّل/نوفمبر 2019.

[17] Cfr. A. Spadaro, La grazia della parola. Karl Rahner e la poesia, Milano, Jaca Book, 2006.

[18] K. Rahner, «Sacerdote e poeta» in La fede in mezzo al mondo, Alba 1963, 131-173.

[19] Ivi 171 s.

[20] Ivi, 146.

 

[21] القدّيس أغناطيوس دي لويولا، رياضات روحيّة، رقم 317.

 

[22] راجع المؤلّف نفسه، رقم 335.

 

[23] المؤلّف نفسه، رقم 314.

[24] Cfr. K. Rahner, «Sacerdote e poeta» in La Fede in mezzo al mondo, Alba 1963, 141.

[25] Cfr. A Spadaro, La pagina che illumina. Scrittura creativa come esercizio spirituale, Milano, Ares, 2023, 46-47.

[26] M. Proust, À la recherche du temps perdu. Le temps retrouvé, Paris 1954, Vol. III, 1041.

[27] A. Spadaro, La pagina che illumina…cit., 14.

[28] M. De Certeau, Il parlare angelico. Figure per una poetica della lingua (Secoli XVI e XVII), Firenze 1989, 139 s.

[29] Cfr. A. Spadaro, La pagina che illumina…cit., 16.

[30] C.S. Lewis, Lettori e letture. Un esperimento di critica, Milano 1997, 165.

[31] J. Cocteau – J. Maritain, Dialogo sulla fede, Firenze, Passigli, 1988, 56. Cfr. A. Spadaro, La pagina che illumina…cit., 11-12.

[32] P. Celan, Microliti, Milano 2020, 101.

 


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير