يَظهر مجد الله في قداسة مريم أثناء حياتها الأرضية ، متوّجاً في إنتقالها إلى السماء ، على أنها إستمرارية لقيامة الرب وصعوده إلى الأمجاد السماويّة وجلوسِهِ ” عن يمين الله ” .
إنتقال العذراء مريـم إلى السماء عقيدة إيمانية :
أعلن قداسة البابا بيوس الثاني عشر عقيدة إنتقال العذراء بالنفس إلى السماء سنة ١٩٥٠ قائلاً :
” نؤكد ونعلن ونُحَدّد عقيدة أوحى بها الله وهي أن مريم أم الله الطاهرة مريم الدائمة البتولية، بعدما أتمت مسيرة حياتها على الارض ، رفعت بالنفس والجسد إلى المجد السماوي ” .
مريم هي حواء الجديدة ، فهي موازية للمسيح آدم الجديد . إتحدت مريم إتحاداً وثيقاً بآدم الجديد في محاربة العدو الجهنمي ، فكان لا بُدَّ من أن تنتهي الحرب التي خاضتها مريم متحدةً مع إبنها بتمجيد جسدها البتولي ، والإنتقال من هذا العالم بالنفس والجسد .
إنتقال القدّيسة مريم ، أمّ الفادي ، بنفسِهَا وجَسَدِها إلى مجد السماء يجعل منها تحفة الفداء وعمل الله الثالوثي : إنَّها إبنةُ الآب وأمّ الإبن وعروس الروح القُدُس . بواسطتِها تحقّق تصميم الآب الخلاصي الذي وعد به منذ سقوط آدم وحواء ” فهي تسحق رأسَكِ ، وأنتِ تُصيبينَ عَقِبَه ” ( تكوين ٣ : ١٥ ) . منها ظهر للعالم الكلمة المتجسّد ، ومعها بدأت الشركة بالروح القدس بين الله والإنسان . محبَّةُ الآب ملأتها ، ونعمةُ الإبن خلّصتهَا ، وحلول الروح قدّسَهَا . يجعلها الإنتقال نموذجاً لعمل الله الثالوثي في كلّ أنسان في دعوته الشاملة إلى القداسة ، وفي دعوته الخاصّة وسط مسيرة شعب الله . ويجعل منها قدوةً في إختبارات الإنسان مع عمل الله .
إنتقالها بالنفس والجسد مشاركة فريدة في قيامة إبنها وصعوده بالمجد نفساً وجسداً إلى السماء ، وإستباق لقيامةِ القلوب ومشاركةِ النفوس المفتداة بدمِ إبنها الفادي الإلهي في الأمجاد السماويّة ، ولقيامةِ الأجسادِ في نهايةِ الأزمنة للمشاركة في هذا المجد .
إن الإنتقال ، في كلّ ما يحتويه من حقائق ، إعلان لكرامة الشخص البشريّ في نفسه وجسده ، ولمصيره الأبديّ الذي يتسأل حوله الكثيرون : ماذا بعد الموت ؟ بإنتقالها إلى السماء ، بقيت أمومتها في الكنيسة ، شفيعة ، ترفع صلواتها لأجل أبنائها المسافرين في هذا العالم وسط محنة وتعزيات الله ، تتضَرّع من أجلهم وتستمطر عليهم النِعَمْ التي تضمن خلاصهم الأبديّ ، فيكتمل نهائباً عقد المختارين جميعا ، ولهذا تدعوها الكنيسة : الأُمّ ، المحامية ، المعينة ، المغيثة ، الوسيطة ، المعلِّمة ، المرشِدة . ونحن بدورنا ننشد لها : ” وإن كان جِسمُكِ بعيدا منّا ، صلواتك هي تصحبنا … ” .
إنّ مريم العذراء ، منذ تكوينها بريئة من دنس الخطيئة حتى نياحها مُحرّرة من فساد الموت والقبر ، وهي إلى جانب إبنها أيقونة الحرّية والتحرير بمعناها الرّوحيّ وبُعدها الإنسانيّ والإجتماعيّ .
إنّ الكنيسة ، بالنظر إلى مريم أمّها ومثالها، تفهم فهماً كاملاً معنى رسالتها وأبعادها ، وتلتزم بها دون خوف أو تردّد أو مساومة .
من أكثر الأعياد قدماً ومحبة للعذراء مريم الكلية القداسة هو عيد إنتقال العذراء لمجد السماوات بالنفس والجسد ، أي بكامل كيانها البشري ، بكامل شخصها . يُعدّ إنتقال العذراء مريم بالنفس والجسد إلى السماء عقيدة من أهم العقائد المسيحية حول العذراء في الكنيسة الكاثوليكية والارثوذكسية . والعقيدة معناها حقيقة إيمانية إلزامية ، بحيث لا يمكن لأحد أن يدعي المسيحيّة ما لم يؤمن بها .
أشار نص سفر الرؤيا إلى مصير سيدتنا مريم العذراء ، مصير مجد فائق الوصف لأنها متحدة بشكل كبير بالإبن الذي تلقته بالإيمان وولدته في الجسد ، وقاسمت بالكمال مجده في السماوات . “ظهرت آية عظيمة في السماء : إمرأة ملتحفة بالشمس والقمر تحت قدميها ، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً ، حامِلٌ تَصرُخُ من ألم المخاض … فوضعت ابناً ذكراً ، وهو الذي سَوفَ يَرعى جَميعَ الأُمَمِ بِعَصاً من حديد ” (رؤيا يوحنا ١٢ : ١ – ٢ و ٥ ). إن عظمة مريم ، أُمّ الله ، الممتلئة نعمةً ، والخاضعة بالكامل لعمل الروح القُدُس ، تعيش في سماء الله بكامل كيانها ، نفساً وجسداً .
هكذا آمنت الكنيسة على مر العصور : ” ان أُمَّ الله الطاهرة ، في ختام حياتها الأرضية ، قد نُقِلَتْ نفساً وجسداً إلى المجد السماوي ” . وهذا ما حدَّده قداسة البابا بيوس الثاني عشر في اليوم الأول من شهر نوفمبر / تشرين الثاني عام ١٩٥٠ ، سنة اليوبيل ، عقيدةً إيمانية بشأن إنتقال مريم المجيد إلى السماء ، الذي يشيد به عيد اليوم . قال البابا حينها : ” إنها لحقيقة إيمانية أوحى الله بها ، ان مريم والدة الإله الدائمة البتولية والمنزهة عن كل عيب ، بعد إتمامها مسيرة حياتها على الأرض نُقِلَت بجسدها ونفسها إلى المجد السماوي ” . ويبيّن البابا أن هذا العيد ” لا يذكر فقط أن الفساد لم ينلْ من جسد مريم العذراء بل يذكر إنتصارها على الموت أيضاً ، وتمجيدها في السماء ، على مثال إبنها ووحيدها يسوع المسيح .
أتى هذا الإعتقاد في الكنيسة الكاثوليكية متوافقاً مع الرؤية المسيحية لأمومة مريم البتول الإلهية وقداستها وحُبل بها بلا خطيئة :
أولاً : بما أن أنها الوالدة المجيدة للمسيح يسوع مخلصنا وإلهنا واهب الخلود ، فهو يهبها الحياة ، وهي تشاركه إلى الأبد في عدم فساد الجسد . فهي متحدة اتحاداً وثيقا بإبنها الإلهي وشريكة معه في كل شيء.
ثانياً: القديس جرمانس من القسطنطينية يرى أن جسد مريم البتول ، والدة الإله ، نُقِلَ إلى السماء ، ليس فقط بسبب أمومتها الإلهية ، بل لقداسة خاصة شَمَلَت جسدها البتولي ، فقال : ” جسدك البتولي كلُه مقدسٌ وكله عفيف ولكنه مسكن لله . ولهذا فهو بعيد عن كل انحلال ولا يعود إلى التراب ” .
وأخيراً، الإنسان يموت بسبب الخطيئة المتوارثة منذ آدم وحواء ، وبصفة أن العذراء لم ترث هذه الخطيئة الأصلية فهي بالتالي لا داعي لموتها . ومن هنا جاء تعليم الكنيسة الكاثوليكية : أن العذراء مريم ، التي عصمها الله وصمات الخطيئة الأصلية ، والتي أكملت حياته الأرضية ، رُفِعَتْ ، بالنفس والجسد ، إلى مجد السماء ، وأعطاها الرب لتكون ملكةَ الكون ، ولتكون أكثر تطابقاً مع إبنِهِ ، ربُّ الأرباب ، المنتصر على الخطيئة والموت ” ، فنالت لامتيازاتها ألا يمسَّها فساد القبر ونُقلت نفساً وجسداً إلى السماء حيث تجلس الآن ملكة متألقة عن يمين ابنها ، ملك الدهور .
إنتقال العذراء وآباء الكنيسة :
وقد ظهرت هذه العقيدة في كتابات آباء الكنيسة إذ يقول القديس يوحنا الدمشقي : “ كما أن الجسد المقدّس النقي ، الذي اتخذه “ الكلمة الإلهي ” من مريم العذراء ، قام في اليوم الثالث هكذا كان يجب أن تُؤخذ مريم من القبر ، وأن تجتمع الأم بابنها في السماء ” ويتابع القول : “ كان لا بد لتلك التي استقبلت في أحشائها الكلمة الإلهي ، أن يتم انتقالها إلى أخدار ابنها ، كان لا بد للعروسة التي اختارها الآب ، أن تقيم في أخدار السماوات ” . ويشير القديس يوحنا الدمشقي إلى هذا السر بعظة شهيرة فيقول :
“ اليوم حُمِلَت العذراء إلى الهيكل السماوي . اليوم ، التابوت المقدس الحي الحامل الإله الحي ، التابوت الذي حمل في أحشائه صانعه ، اليوم يرتاح في هيكل الرب الذي لم تبنه أيدٍ بشرية ” .
أما القديس بطرس دميانوس فيقول : “ في صعودها جاء ملك المجد مع أجواق الملائكة والقديسين لملاقاتها بزفةٍ إلهية ، ولهذه الأقوال نجد صدىً في الكتاب المقدس ولاسيما نشيد الأناشيد يقول : ” قومي يا خليلتي ، يا جميلتي ، وهَلُمِّي ” ( نشيد الأناشيد ٢ : ١٠ ) .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك