أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
من بين الوسائل المختلفة التي يحقِّق بها الرّوح القُدُس عمله في تقديس الكنيسة – كلمة الله، والأسرار المقدّسة، والصّلاة – هناك وسيلة خاصّة وهي التّقوى المريميّة. في التّقليد الكاثوليكيّ يوجد هذا الشّعار، وهذا القول: ”Ad Iesum per Mariam“ أي ”إلى يسوع عن طريق مريم“. سيِّدتنا مريم العذراء تجعلنا نرى يسوع. فهي التي تفتح لنا الأبواب، دائمًا! سيِّدتنا مريم العذراء هي الأمّ التي تأخذنا بيَدِنا نحو يسوع. سيِّدتنا مريم العذراء لا تُشير أبدًا إلى نفسها، بل تُشير إلى يسوع. وهذه هي التّقوى المريميّة: إلى يسوع عن طريق يَدَيّ سيِّدتنا مريم العذراء.
القدّيس بولس يصف الجماعة المسيحيّة بأنّها “رِسالَةٌ مِنَ المسيح، أُنشِئَت عن يَدِنا، ولم تُكتَبْ بِالحِبْر، بل بِرُوحِ اللهِ الحَيّ، لا في أَلواحٍ مِن حَجَر، بل في أَلواحٍ هي قُلوبٌ مِن لَحْم” (2 قورنتس 3، 3). مريم، بكونها أوّل تلميذة وصورة للكنيسة، هي أيضًا رسالة كتَبَها روح الله الحَيّ. ولهذا، يمكن أن “يَعرِفَها ويَقرَأَها جَميعُ النَّاس” (2 قورنتس 3، 2)، حتّى الذين لا يعرفون قراءة كتب اللاهوت، وأولئك ”الصّغار“ الذين يقول لهم يسوع إنّ الله كشف لهم أسرار الملكوت المخفيّة عن الحكماء (راجع متّى 11، 25).
بقولها ”نعم“ – عندما قالت مريم للملاك: ”نعم، لتكن مشيئة الرّبّ“، فقبلت أن تكون أمًّا ليسوع -، كان الأمر كما لو أنّ مريم قالت لله: ”هأنذا، لوح للكتابة: ليَكتب الكاتب ما يشاء، ويَفعل بي ما يريد ربّ الجميع“ [1]. في ذلك الوقت، كان يُكتب على ألواح مغطّاة بالشّمع. أمّا اليوم فنقول إنّ مريم قدّمت نفسها صفحةً بيضاء ليَكتب الله عليها ما يشاء. كتب أحد كبار المفسّرين أنّ لفظة ”نعم“، التي قالتها مريم للملاك، تمثّل “قمّة كلّ سلوك ديني أمام الله، لأنّها تعبِّر بأسمى طريقة عن الاستعداد للقبول والاستعداد للعمل، والفراغ العميق الذي يقابله الامتلاء الكبير” [2].
هكذا، إذن، تُعَدُّ والدة الله أداةً للرّوح القُدُس في عمله لتقديس الكنيسة. في وسط سيل لا ينتهي من الكلام الذي قيل وكُتب عن الله، وعن الكنيسة، وعن القداسة (والتي لا يستطيع قراءتها وفهمها سوى القليلين أو لا أحد)، مريم تقترح علينا كلمتَين بسيطتَين يمكن للجميع، حتّى البسطاء، أن يقولوهما في أيّ مناسبة: ”هأنذا“ و”فليَكُن“. مريم هي التي قالت ”نعم“ لله، وبمثالها وشفاعتها تدفَعُنا أيضًا لنقول ”نعم“ له، في كلّ مرّة نجد أنفسنا أمام طاعة يجب أن نحقّقها أو محنة يجب أن نتجاوزها.
الكنيسة تجد نفسها، في كلّ عصر من تاريخها، وخصوصًا في هذا الوقت، في نفس الوضع الذي كانت فيه الجماعة المسيحيّة غداة صعود يسوع إلى السّماء. إذ عليها أن تعظ بالإنجيل لجميع الأمم، وهي في انتظار ”القدرة من العُلى“ لكي تستطيع أن تقوم بذلك. ولا ننسى أنّه في ذلك الوقت، كما نقرأ في سِفر أعمال الرّسل، كان التّلاميذ مجتمعين حول “مَريَم أُمّ يسوع” (أعمال الرّسل 1، 14).
صحيح أنّ هناك نساء أخريات كنّ مع مريم في العُلِّيَّة، لكن حضورها كان مختلفًا وفريدًا بينهنّ جميعًا. كان يوجد رباط فريد وأبديّ غير قابل للكسر بين مريم والرّوح القُدُس، وهو شخص المسيح نفسه، الذي “تجسَّدَ بقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس، ومِن مَريَمَ العَذراء”، كما نصلّي في قانون الإيمان. الإنجيليّ لوقا يشير بوضوح إلى التّطابق بين مجيء الرّوح القُدُس على مريم في البشارة وبين مجيئه على التّلاميذ في يوم العنصرة، مستخدمًا بعض التّعابير المتطابقة في الحالتَين.
القدّيس فرنسيس الأسيزي، في إحدى صلواته، يحيِّي مريم العذراء بصفتها “ابنة وخادمة الملك العلِيّ، الآب السّماوي، وأمّ الرّبّ القدوس يسوع المسيح، وعروس الرّوح القُدُس” [3]. ابنة الآب، وأمّ الابن، وعروس الرّوح القُدُس! لم يكن بإمكانه أن يصوِّر العلاقة الفريدة لمريم مع الثّالوث الأقدس بكلام أبسط.
مثل كلّ الصُّوَّر، فإنّ صورة ”عروس الرّوح القُدُس“ ينبغي ألّا نفهمها بمعنى مطلق، بل يجب فهمها بقدر ما فيها من حقيقة، وهي حقيقة جميلة جدًّا. فمريم هي العروس، لكنّها أوّلًا، تلميذة الرّوح القُدُس. فلنتعلَّم منها أن نكون طيِّعِين لإلهامات الرّوح، خاصّة عندما يُلهِمُنا ”أن ننهض بسرعة“ ونذهب لمساعدة أحد محتاج لنا، كما فعلت هي مباشرة بعد أن تركها الملاك (راجع لوقا 1، 39). شكرًا!
*******
قِراءَةٌ مِن سِفرِ أعمالِ الرُّسل (1، 12-14)
رجَعَ [التَّلاميذُ] إِلى أُورَشَليمَ مِنَ الجَبَلِ الَّذي يُقالُ لَه جَبَلُ الزَّيتون، وهُو قَريبٌ مِن أُورَشَليم على مَسيرَةِ سَبْتٍ مِنها. ولَمَّا وَصَلوا إِلَيها صَعِدوا إِلى العُلِّيَّةِ الَّتي كانوا يُقيمونَ فيها، وهُم بُطرُس ويوحَنَّا، ويَعْقوب وأَندَراوُس، وفيلِبُّس وتوما، وبَرتُلُماوُس ومَتَّى، ويَعْقوبُ بنُ حَلْفى وسِمْعانُ الغَيور، فيَهوذا بنُ يَعْقوب. وكانوا يُواظِبونَ جَميعًا على الصَّلاةِ بِقَلْبٍ واحِد، معَ بَعضِ النِّسوَةِ ومَريَمَ أُمِّ يسوع ومعَ إخوَتِه.
كلامُ الرَّبّ
*******
Speaker:
تَكلَّمَ قَداسَةُ البابا اليَومَ علَى الرُّوحِ القُدُسِ ومريمَ العذراء، وقال: الوسيطُ الحقيقيّ والوحيدُ بيننا وبينَ المسيح، والَّذي يُشِيرُ إليه يسوعُ نفسُه، هو الرُّوحُ القُدُس، الَّذي يَستَخدِمُ مريمَ العذراء كوسيلةٍ خاصَّة لِيُوصِلَنا إلى يسوع. وَصَفَ القِدُّيسُ بولس الجماعةَ المسيحيَّةَ بأنَّها رسالةٌ مكتُوبَةٌ بروحِ اللهِ الحَيّ. ومريم، بِكَونِها أوَّلَ تلميذَةٍ وصورَةٍ للكنيسة، هي أيضًا رسالةٌ كَتَبَها روحُ اللهِ الحَيّ. فعندما قالَت مريمُ ”نَعَم“ لِبشارَةِ الملاك، قَدَّمَت نفسَها للهِ صفحةً بيضاء ليَكتُبَ عليها ما يشاء. فصارَت أَداةً للرُّوحِ القُدُس في عَمَلِهِ لِتَقدِيسِ الكنيسة، ومثالًا أعلَى للطَّاعَةِ والإيمان. فرنسيس الأسيزي، في إحدَى صلواتِه، يحيِّي مريمَ العذراءِ بِصِفَتِها ابنةِ الآب، وأمِّ الابن، وعروسِ الرُّوحِ القُدُس. فمريم هي العروس، لكنَّها أوَّلًا، تِلمِيذَةُ الرُّوحِ القُدُس. وهي تُعَلِّمُنا أنْ نكونَ طيِّعِينَ لإلهاماتِ الرُّوح، خاصَّةً عندما يُلهِمُنا أنْ نَمضِيَ مُسرِعينَ لِمُساعَدَةِ أخٍ مُحتاجٍ إلينا، كما فَعَلَت هي مباشرَةً بعدَ بِشارَةِ الملاكِ لها.
*******
Speaker:
أُحَيِّي المُؤمِنينَ النَّاطِقينَ باللغَةِ العربِيَّة. لِنُجَدِّدْ معًا قَولَنا ”نَعَم“ للهِ ولِمَشِيئَتِه، واثِقِينَ بِه، مِثلَ مريم. فهُوَ سَيَمنَحُنا حياةً جديدةً وأفضلَ. باركَكُم الرّبُّ جَميعًا وحَماكُم دائِمًا مِن كُلِّ شَرّ!
*******
جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
______________________
[1] Cfr Origene, Commento al Vangelo di Luca, framm. 18 (GCS 49, p. 227).
[2] H. Schürmann, Das Lukasevangelium, Friburgo in Br. 1968: trad. ital. Brescia 1983, 154.
[3] Fonti Francescane, Assisi 1986, n. 281.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana