الكلام الذي أصغينا إليه قبل قليل يمكنه أن يبعثَ فينا مشاعر القلق، لكنّه في الحقيقة إعلان كبير للرّجاء. في الواقع، إن كان يسوع من جهة قد يبدو أنّه يصف الحالة النّفسيّة لِمَن رأى دمار أورشليم ويعتقد أنّ النّهاية قد حانت، فهو في الوقت نفسه يُعلن عن شيء استثنائيّ: في ساعة الظّلام واليأس بالتّحديد، وحين يبدو أنّ كلّ شيء قد انهار، الله يأتي، ويقترب، ويجمعنا ليخلّصنا.
يسوع يدعونا إلى أن يكون لنا نظر حادٌّ، وأن تكون لنا عينَان قادرتان على ”القراءة في داخل“ أحداث التّاريخ، لنكتشف أنّ فيها رجاءً ثابتًا يلمع، حتّى في وسط القلق في قلبنا وفي زمننا. في يوم الفقير العالميّ هذا، لنتوقّف عند هاتَين الحقيقتَين: القلق والرّجاء، اللذين يتحَدّيَاننا ويتصارعان في ميدان قلبنا.
أوّلًا، القلق. إنّه شعور منتشر في عصرنا، حيث تُضخِّم وسائلُ الإعلام المشاكلَ والجراح، فتجعل العالم أقلّ أمانًا، والمستقبل أكثر غموضًا. إنجيل اليوم أيضًا يبدأ بصورة تصف الضّيق الذي يعيشه الشّعب في العالم، ويستخدم لغة رؤيوية: “تُظلِمُ الشَّمسُ والقَمَرُ لا يُرسِلُ ضَوءَه، وتَتَساقَطُ النُّجومُ مِنَ السَّماء، وتَتَزَعْزَعُ القُوَّاتُ في السَّمٰوات” (مرقس 13، 24-25).
إن توقَّفَ نظرنا عند الوقائع الظّاهرة، سيسيطر علينا القلق. اليوم أيضًا، نرى الشّمس تُظلم، والقمر يَنطفئ، ونرى الجوع والمجاعة التي تَظلِمُ الإخوة والأخوات الكثيرين، ونرى ويلات الحرب وقتلَ الأبرياء. وأمام هذا المشهد، نوشك أن نغرق في اليأس، ولا نرى حضور الله في مأساة التاريخ. فنحكم على أنفسنا بالعجز: ونرى ازدياد الظّلم الذي يسبّب ألم الفقراء، وننضمّ إلى تيّار المستسلمين الذين يفكّرون، إمّا لراحتهم وإمّا لكسلهم، في أنّ ”العالم يسير هكذا“ و ”أنا لا أستطيع أن أصنع شيئًا“. إذّاك إيماننا المسيحيّ نفسه أيضًا ينحصر في تقوى لا تضرّ ولا تنفع، ولا تُزعج قِوَى هذا العالم، ولا تولّد التزامًا عمليًّا في المحبّة. وبينما حُكم على جزء من العالم بأن يعيش في الأحياء الفقيرة في التّاريخ، وبينما تزداد عدم المساواة والاقتصاد يعاقب الضّعفاء، وبينما يكرّس المجتمع ذاته لعبادة المال والاستهلاك، يحدث أنّ الفقراء والمُستبعدين لا يمكنهم إلّا أن يستمرّوا في الانتظار (راجع الإرشاد الرّسولي، فرح الإنجيل، 54).
وها هو يسوع، في وسط هذا المشهد الرّؤيوي، يُشعل الرّجاء. ويفتح الأفق ويوسّع نظرنا لنتعلّم أن نقبل، حتّى في عدم الأمان في هذا العالم وفي أوجاعه، حضور محبّة الله الذي يقترب، ولا يتركنا، ويعمل لخلاصنا. في الواقع، عندما تُظلم الشّمس، ويتوقّف ضوء القمر، وتتساقط النّجوم من السّماء، يقول الإنجيل: “يَرى النَّاسُ ابنَ الإِنسانِ آتِيًا في الغَمام في تَمامِ العِزَّةِ والجَلال. وحينَئذٍ يُرسِلُ مَلائِكَتَه ويَجمَعُ الَّذينَ اختارَهم مِن جِهاتِ الرِّياحِ الأَربَع، مِن أَقْصى الأَرضِ إِلى أَقصى السَّماء” (الآيات 26-27).
بهذا الكلام، يسوع يُشير أوّلًا إلى موته الذي سيحدث بعد وقت قليل. على الجُلجُلة، ستُظلم الشّمس، وستحلّ الظّلمة على العالم، وفي تلك اللحظة بالتّحديد، سيأتي ابن الإنسان على السّحاب، لأنّ قوّة قيامته من بين الأموات ستكسر قيود الموت، وتقوم حياة الله الأبديّة من الظّلام، ويولد عالم جديد من بين أنقاض تاريخٍ جرحه الشّرّ.
أيّها الإخوة والأخوات، هذا هو الرّجاء الذي يريد يسوع أن يعطينا إيّاه. ويقوم بذلك أيضًا من خلال صورة جميلة، قال: انظروا إلى شجرة التّين، لأنّه “إِذا لانَت أَغْصانُها ونَبَتَت أَوراقُها، عَلِمتُم أَنَّ الصَّيفَ قَريب” (الآية 28). وبالطّريقة نفسها، نحن أيضًا مدعوّون إلى أن نقرأ أوضاع حياتنا الأرضيّة: حيث يبدو أنّ هناك فقط ظلم وألم وفقر، في تلك اللحظة المأساويّة بالتّحديد، يقترب الرّبّ يسوع ليحرّرنا من العبوديّة ويضيء حياتنا (راجع الآية 29). ويصير قريبًا منّا بقربنا المسيحيّ، وبإخوّتنا المسيحيّة. ليس الأمر برمي عملة معدنيّة في يد المحتاج. أسأل المتصدّق شيئَين: هل تلمس يد المحتاج أم ترمي العملة دون أن تلمسها؟ هل تنظر في عينَي الشّخص الذي تساعده أم تنظر بعيدًا؟
ونحن، تلاميذه، وبقوّة الرّوح القدس، يمكننا أن نزرع هذا الرّجاء في العالم. نحن الذين يمكننا ويجب علينا أن نشعل أنوار العدل والتّضامن بينما تزداد الظّلال في العالم المُنغلق (راجع رسالة بابويّة عامّة، كلّنا إخوة، 9-55). نحن الذين نشعّ بنعمته، وحياتنا المجبولة بالرّأفة والمحبّة تصير علامة على حضور الرّبّ يسوع، القريب دائمًا من ألم الفقراء، ليخفّف جراحهم ويغيّر مصيرهم.
أيّها الإخوة والأخوات، لا ننسَ: الرّجاء المسيحيّ، الذي تمَّ في يسوع ويتحقّق في ملكوته، هو بحاجة إلينا وإلى التزامنا، وإلى إيمانٍ عاملٍ في المحبّة، وإلى مسيحيّين لا يلتفتون إلى الجانب الآخر. كنت أنظر إلى صورة التقطها مصوِّر من روما: زوجان بالغان، كبار السّنّ تقريبًا، غادرا مطعمًا في الشّتاء. السّيّدة مغطاة جيِّدًا بمعطف والرّجل أيضًا. عند الباب، كانت هناك سيِّدة فقيرة، مستلقية على الأرض، تتسوّل، وكلاهما نظرا إلى الاتجاه الآخر… هذا يحدث كل يوم. لنسأل أنفسنا: هل أنظر إلى الاتجاه الآخر عندما أرى فقر الآخرين واحتياجاتهم وآلامهم؟ قال لاهوتيٌّ من القرن العشرين إنّ الإيمان المسيحيّ يجب أن يولِّد فينا ”خبرة صوفيّة أعينها مفتوحة“، ليس روحانيّة تهرب من العالم، بل العكس، إيمانًا يفتح أعيننا على آلام العالم وعلى شقاء الفقراء، لكي نمارس رحمة المسيح نفسها. هل أشعر بنفس الرّحمة التي يشعر بها الرّبّ يسوع تجاه الفقراء، والذين ليس لديهم عمل، والذين ليس لديهم ما يأكلونه، والذين يهمّشهم المجتمع؟ ويجب ألّا ننظر فقط إلى مشاكل الفقر العالميّة الكبيرة، بل إلى القليل الذي يمكننا كلّنا أن نصنعه كلّ يوم: بأسلوب حياتنا، وباهتمامنا وعنايتنا بالبيئة التي نعيش فيها، وببحثنا الدّؤوب عن العدل، وبمشاركتنا خيراتنا مع من هو أفقر منّا، وبالتزامنا الاجتماعيّ والسّياسيّ لتحسين الواقع المحيط بنا. قد يبدو لنا ذلك قليلًا، لكن القليل الذي نقدّمه سيكون مثل الأوراق الأولى التي تنبت على شجرة التّين التي هي استباق للصّيف القريب.
أيّها الأعزّاء، في يوم الفقير العالميّ هذا، أحبّ أن أذكّر بالتّحذير الذي قاله الكاردينال مارتيني. قال إنّه يجب علينا أن ننتبه ونفكّر في أنّ الكنيسة تأتي أوّلًا، وهي راسخة في ذاتها، ومن ثمّ الفقراء الذين نختار أن نهتمّ بهم. في الحقيقة، نصير كنيسة يسوع بقدر ما نخدم الفقراء، لأنّه بهذه الطّريقة فقط “الكنيسة تصير ما هي عليه، أي بيتًا مفتوحًا للجميع، ومكانًا لرحمة الله من أجل حياة كلّ إنسان” (كارلو ماريّا مارتيني، مدينة من دون أسوار. رسائل وكلمات إلى الأبرشيّة 1984، بولونيا 1985، 350).
أقول ما يلي للكنيسة، ولحكومات الدّول، والمنظّمات الدّوليّة، وأقوله لكلّ واحد وللجميع: من فضلكم، لا ننسَ الفقراء.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana