” فرُصُُوا المواكب والاغصان في أيديكم ” ( مزمور ١١٨ (١١٧) : ٢٧)
مَا عَسَىٰ يَكُونُ عيد دخول الرب يسوع ملك السلام إلى اورشليم ، ٱلَّذِي هو بنفسه يَدْعُونَا إِلَيْهِ ، وَمجيئه يأتي فِي كُلِّ وَقْتٍ؟
إِنَّهُ ٱلْعِيدُ ٱلْأَكْثَرُ شعبيةً ، وَٱلْأَكْثَرُ صِدْقاً ، ٱلْعِيدُ ٱلْأَكْبَرُ إستعداداً لعِيد القيامة ، عيدالحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ ، عِيدُ ٱلْغِبْطَةِ والسعادة ٱلْأَبَدِيَّةِ ، عِنْدَمَا نَلْتَقِي حَقًّا مَعَ ٱللّٰهِ وَجْهًا لِوَجْهٍ في ملكوته السماوي .
لَيْسَ بِوُسْعِنَا إستقبال يسوع مع ابناء اورشليم و ٱلتَّنَعُّمُ بِهٰذَا ٱلْعِيدِ عَلَىٰ هٰذِهِ ٱلْأَرْضِ ، وَلٰكِنْ مَا يُمْكِنُنَا ٱلْحُصُولُ عَلَيْهِ هُوَ تَذَوُّقٌ مُسْبَقٌ لِذَاكَ ٱلْعِيدِ ، وهو ٱخْتِبَارٌ لِحُضُورِ رُوحِ ٱللّٰهِ مِنْ خِلَالِ ٱلْفَرَحِ ٱلدَّاخِلِيِّ ٱلَّذِي يَهَبُنَا إِيَّاهُ ، وَيَنْتُجُ عَنْهُ شُعُورٌ حَمِيمٌ لِلْغَايَةِ .
اليوم ، أكثر من أي يوم ، علينا ٱلْبَحْثُ ٱلدَّائِمُ عَنْ ٱللّٰهِ ، فِي وَقْتِنَا ٱلَّذِي يُمْكِنُنَا دَائِمًا ٱلتَّحَكُّمُ بِهِ ، وَٱتِّبَاعُ ٱلشُّعُورِ بِحُضُورِهِ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِنَا ، وَحَيَاتِنَا ، وَإِرَادَتِنَا ، وَحُبِّنَا .
ليقُول المُتَّقون للرب : ” تَباركَ الآتي باسم الرَّب هُوشَعْنا في العُلى ” ( متى ٢١ : ١١ )
بهذا النشيد رحبَّ الأطفال والمساكين والضعفاء بيسوع ملك السلام وهو داخل إلى اورشليم . بهذه الحفاوة استقبل الناس الغير متفرجين دخول موكب المخلِّص المنتظر ليسيروا وراءه ويقتدوا به ويدعموا رسالته وتعاليمهِ .
كثيرون خرجوا ليروا موكب الملك السماويّ الذي يجول شوارع اورشليم بدون حرسٍ ولا جنود يحملون الأسلحة ولا دبابات ولا مدرعات ولا أي نوع من انواع الأسلحة القاتلة .
موكب الملوك ورؤساء الجمهوريات مُخيف ، تُغلَق الطرقات هنا وهناك ، ويَفترِشُ الجيش أسطحة المباني وزوايا الساحات والميادين لئلاّ يغتال احد المارين معارضين كانو أمّ أعداء الرئيس أو المسؤول.
امّا موكب يسوع فكان موكباً لا يُخيف ، موكباً يشّعُ منه السلام والأمان والطمأنينة ، ويزرع في القلوب المحبّة والفرح والثقة المتبادلة بينه وبين الذين أتى من أجلهم لِتكونَ عندهم الحياة أفضل ” أُمّاً أنا فقد أتيتُ لِتكونَ الحياة للناس ، و تَفيضَ فيهم ” ( يوحنا ١٠ : ١٠ ) . هذا الملك قال علانيةً وصراحةً أمام بيلاطس : ” ليست مملكتي من هذا العالم ” ( يوحنا ١٨ : ٣٦ ) .
الجميع يخاف من الملوك والرؤساء ، لأنهم حُكام يتسلطون بحزم وعنف وقساوة على البشر، وكثيراً ما يعذبونهم ويضطهدونهم ظلماً . ولا يهتمون إذا نام الناس جائعين وليس عندهم خُبزاً للعيش . لكن ملكنا يختلف كُل الإختلاف عن هؤلاء ، فهو محب ، رحومٌ ، صبورٌ ، غَفُورٌ ولا يَطلُبُ مِنّا شيئاً ، بل ياتينا متواضعاً ليهتم بنا ويحمل أوجاعنا ومخاوفنا ويغفر لنا خطايانا ويدعونا إلى السعادة والكمال .
موكب يسوع يأتينا برأفةٍ وحنانٍ وبطيبة قلبٍ ، رحوم ورؤوف وحنون . موكب يسوع اليوم هو موكب يحمِلُ بين ثناياه الخلاص . من خلاله يدخل الله إلى قلب كُلِّ إنسان بمودةٍ وبساطة .
يسوع هو ملك ، ” ملك السلام ” ، يدخل اليوم إلى اورشليم ، ” مدينة السلام ” ، المدينة التي لم تعرف السلام إلى اليوم . يدخلُ المدينة المقدسة على حمارٍ ، والشعب يستقبله بأغصان الزيتون وسعف النخيل التي ترمز للسلام والفرح والسعادة . هذه هي علامات الملك المتواضع الذي يُريد رسُلاً مبشرين بالسّلام والمحبّة ” طوبى للسَّاعين إلى السلام ” ( متى ٥ : ١٠ ) يسوع يُريد في موكبه كُلّ الذين شفاهم : العميان والكسحان والبكم والبرص … يُريد العشارون وكل الخطأة .
كثيرون كانوا على الطريق المؤدي إلى اروشليم ينظرون إلى يسوع ، وكثيرون رفعوا أغصان الزيتون وهتفوا للملك : ” هوشَعْنا لابن داود ! تَباركَ الآتي باسمِ الرَّب هُوشَعْنا في العُلى !” ( متى ٢١ : ٩) . ولكن ومع الأسف الشديد ، هؤلاء كُلّهم تراجعوا ليتركوا يسوع في ساعة الألم والعذاب وحيداً وبلا مُعين . آخرون رفعوا أصواتهم قائلين : ” ليُصلَب، ليُصلَب ” ( يوحنا ٢٣ : ٢١ ) ، ” دَمُهُ علينا وعلى أولادِنا ” ( متى ٢٧ : ٢٥ ) ، وبطرس نَكَرَهُ ، ويهوذا أسلمه إلى الأعداءِ ولم يبقَ معه إلاّ أُمّه مريـم العذراء القدّيسة المتألمة ، والقديس يوحنا الحبيب ، وبعض النسوة الضعيفات اللواتي لا تقوى إلا على البكاء والبكاء بصمت .
اليوم يدعونا يسوع لنسير معه في موكب الشعانين ، ونحن ندعوهُ ونرجوهُ ونطلب منهُ قبل أن يدخل إلى اورشليم الأرضية ، يدخُل إلى قلوبنا المليئة بالبُغض والحقد والكراهية والأنانية والنميمة والكبرياء والحسد والبخل ، ويشفي جروحاتنا وعاهاتنا وأمراضنا الروحيّة والجسديّة .
نعم ، لكل واحدٍ منّا أورشليم خاصة به ، وهي قلبه . يسوع ، لا يزال إلى اليوم راكباً الحمار ينتظر الدخول إلى أورشليم كل واحدٍ منا، إلى قلوبِنا ليجّدِّدها ويُبدِّلها ويُغيّرها ويُلبسها حُلّة جديدة نقية طاهرة ولا عيب فيها .
” وهذا خلاصنا آتٍ ” ( أشعيا ٦٢ : ١١ )
اليوم ، يسوع يدخل اورشليم وكُلُّ الأنظار متجهةً إليه .
في إستقبال يسوع الملك إلى جانب من سنقف ؟ :
إلى جانب الأطفال المبتهجين والمنشدين والهاتفين : ” تَباركَ الآتي ، الْمَلِكُ ، باسم الرّبّ ! السَّلامُ في السَّماء ! والمَجدُ في العُلى ! ” ( لوقا ١٩ : ٣٨ ) ، أم إلى جانب الفريسيين الغاضبين ؟ . لنتذكّر جيداً ، إن لم نستقبل يسوع بالمحبة والصلوات والترانيم والأعمال الصالِحة ، فستتكلّم الحِجَارَة ، ” أقولُ لكم : لو سَكَتَ هؤلاء ، لهتفت الحِجَارَة ! ” . ( لوقا ١٩ : ٤٠ ) لتعلن ملكوت الله ” حان الوقتُ واقْتَربَ مَلكوتُ الله ، فتوبوا وآمنوا بالبِشارة ” ( مرقس ١ : ١٥ ) .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك