في الثاني والعشرين من شهر يوليو / تموز من كل عام ، تحتفل الكنيسة المارونية والكنيسة الجامعة في أرجاء العالم بعيد القديس شربل مخلوف . وبهذه المناسبة نتقدم من غبطة البطريرك – الكاردينال مار بطرس بشارة الراعي ، بطريرك انطاكية وسائر المشرق للكنيسة المارونية الشقيقة ، ومن أخينا في الاسقفية نيافة المطران جورج شيحان الجزيل الاحترام ، مطران الموارنة بمصر والسودان ، ونقدم لهم لاكليروسهم ولابنائهم الروحيين أحر التهاني ، طالبين شفاعة القديس شربل ليحل السلام على العالم أجمع ، وخاصة في الشرق الاوسط ، ويحول قلوب الناس الحجرية إلى قلوب بشرية تنبض محبةً وسلاماً وإنسانيةً .
ولادة يوسف مخلوف :
ولد يوسف ( شربل ) أنطون مخلوف في ٨ مايو / أيّار سنة ١٨٢٨ في بقاع كفرا (لبنان الشمالي) من والدَين تقنيين هما أنطون مخلوف وبريجيتا الشدياق. له شقيقان، حنّا وبشاره، وشقيقتان كَون وورده. تربّى يوسف تربية مسيحيّة جعلته مولعًا بالصّلاة منذ طفولته.
مال إلى الحياة الرهبانيّة والنسكيّة، مقتدياً بخالَيه الحبيسَين في صومعة دير مار أنطونيوس قزحيّا، حيث تسلّم منهما مشعل بطولة الفضائل.
توفّي والده في ٨ اغسطس / آب ١٨٣١ في غِرفِين، وهي قرية قرب عمشيت، أثناء عودته إلى منْزله، بعد أن كان يعمل بالسخرة لدى الجيش التركيّ، فربّته والدتُهُ وإخوته تربيةً مسيحية مبنية على محبة الله والقريب .
درس يوسف أصول اللّغتَين العربيّة والسريانيّة في مدرسة القرية. كان تقيّاً جدّاً ، إلى حدّ أنّ أبناء قريته كانوا يدعونه “القدّيس”
كان يوميّاً يقود قطيعه الصغير إلى المرعى، ثمّ يتوجّه إلى مغارةٍ حيث يركع أمام صورة العذراء مريم ويصلّي. وهكذا أصبحت المغارة مَصلاه ومحبسته الأولى التي أصبحت بعدئذٍ مزاراً للصلاة ومحجّاً للمؤمنين .
دعوته الرهبانية :
صباح أحد أيّام سنة ١٨٥۱، غادر يوسف أهلَه وقريتَه وتوجّه إلى دير سيّدة ميفوق بقصد الترهّب، حيث أمضى سنته الأولى من فترة الابتداء، ثمّ إلى دير مار مارون – عنّايا، حيث انخرط في سلك الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة، متّخذاً اسم ” شربل “،
أحد شهداء الكنيسة الأنطاكيّة من القرن الثّاني .
معنى اسم “شربل” :
أقدَم إسم لشربل هوَ من الأشوريّة وهو إسم مركّب من “شار” ويعني الحامي و”بال” او “بعل” ويعني الإله. فشربل يعني “الإله الحامي” في الأشورية ، و كان إسم إبن الإلهة “عشتار” في مدينة “اربا إيلو” أي مدينة الآلهات الأربعة. عندما انتشرت المسيحيّة في مدينة الرها، تحوّل فيها رئيس كهنة الوثنيين إلى المسيحيّة وكان اسمه شربل واستشهد في عهد الامبراطور تريانوس. في الآرامية “شربثو دذيل” تعني حكاية الله أصبحت “شربت إيل” ثم “شرب إيل” فأخيراً ” شربل ” : حكاية الله.
في أول نوفمبر / تشرين الثّاني سنة ۱٨٥٣ ، أبرز نذوره الرهبانيّة في الدير نفسه وكان مطّلعاً إطّلاعاً دقيقاً على أهمية النذور الرهبانية وهي : الطاعة و العفّة والفقر.
أكمل دروسه اللاّهوتيّة في دير مار قبريانوس ويوستينا، كفيفان البترون، على يد معلّمه القدّيس نعمة الله كسّاب الحرديني، الذي كان قدوةَ الرهبان وصورةً حيّةً عن كبار الرهبان القدّيسين في حياته الخاصّة والعامّة
في ٢٣ يوليو / تمّوز سنة ١٨٥٩ سيمَ الأخ شربل مخلوف كاهناً في بكركي مقرف البطريرك المتروني ، بوضع يد المثلّث الرحمة المطران يوسف المريض النائب البطريركي الماروني .
حياته الرهبانية :
في دير مار مارون – عنّايا وفي محبسة مار بطرس بولس :
عاش الأب شربل في دير مار مارون – عنّايا مدّة ستّ عشرة سنة، كان فيها مُطيعاً لرؤسائه، حافظاً قانونه الرهبانيّ بدقّة، كما أنّه كان قاسياً على نفسه بالتقشّف والإماتات. وقد تجرّد عن:
كلّ شيء مادي أرضي في الحياة الدنيا، لينصرف إلى خدمة معلمه الإلهي وخلاص نفسه .
في مطلع العام ١٨٧٥، ألهم اللهُ الأبَ شربل بالاستحباس ، اي الحياة النسكية ، في محبسة مار بطرس وبولس التابعة لدير مار مارون – عنّايا ، رغم عدم سماح الرؤساء بسهولة، بالاعتزال في المحبسة . وبينما كان الأب الرئيس متردّداً ، أتَتْه علامةٌ من السماء تَمَثَّلَت بآية السراج .
فذات ليلةٍ، طلب الأب شربل من الخادم أن يملأ له السراج زيتاً ، فملأه ماءً بدلاً من الزيت. فأضاء السراج بشكل عاديّ .
هذه الآية افتتحت سفر العجائب الشربليّة، وقرّبت يوم صعود الحبيس إلى منسكه المشتهى .
وفي ١٥ فبراير / شباط سنة ١٨٧٥، إنتقل الأب شربل نهائيّاً إلى المحبسة، حيث كان مثال القدّيس والنّاسك، يمضي وقته في الصمت والصّلاة والعبادة والشغل اليدويّ في الحقل، وما كان يغادر المحبسة، إلاّ بأمرٍ من رئيسه.
وقد نهج فيها منهج الآباء الحبساء القدّيسين، راكعاً على طبقٍ من قصب أمام القربان المقدس ، يناجيه متعبداً ، متأملاً في هذا السر العظيم ، ويسكر فيه طوال اللّيالي.
أمضى الاب شربل في المحبسة ثلاثَةً وعشرين عاماً ، منصرفاً إلى خدمة ربّه، متمّماً قانون الحبساء بدقّة ووعي كامل .
أثناء إحتفاله بالذبيحة الإلهيّة في ١٦ ديسمبر / كانون الأوّل سنة ١٨٩٨ أصيب بداء الفالج، ودخل في نزاع استمرّ ثمانية أيّام، قاسى خلالها آلام الاحتضار هادئاً ، ساكناً ، صامتاً ، على الرغم من الأوجاع التي يعانيها في جسده الضعيف.
في نزاعه لم يبرح الأب شربل يردّد الصلاة التي لم يستطع أن يكملها في القدّاس : “ يا أبا الحقّ، هوذا ابنك ذبيحة ترضيك!… ” وكذلك إسم يسوع ومريم ومار يوسف، وبطرس وبولس شفيعَي المحبسة.
طارت روح الاب شربل، حرّة، طليقة عائدة إلى ديار الآب، كعودة قطرة الندى إلى الخضمّ الأوسع، في ٢٤ ديسمبر / كانون الأوّل ١٨٩٨ عشيّة عيد الميلاد. ودفن في مدافن دير مار مارون – عنّايا.
النور العجيب الّذي سطع من قبره :
بعد وفاته ، تصاعدت من القبر أنوار روحانيّة كانت سبباً بنقل جثمانه الذي كان يرشح عرقاً ودماً إلى تابوت خاصّ، بعد إذن البطريركيّة المارونيّة، ووُضِع في قبرٍ جديد، داخل الدير. عند ذلك، بدأت جموع الحجّاج تتقاطر لتلتمس شفاعته، وكان الله يُنْعم على الكثيرين بالشفاء والنعم الرّوحية والزمنية .
دعوى تطويبه وإعلان قداسته :
في العام ۱۹٢٥، رُفِعَت دعوى تطويبه وإعلان قداسته إلى البابا بيّوس الحادي عشر، على يد الأباتي اغناطيوس داغر التنّوري، ووكيله العامّ الأب مرتينوس طربَيه، حيث قُبِلَت دعواه مع الأب نعمة الله كسّاب الحرديني والأخت رفقا الريّس سنة ١٩٢٧ .
وفي العام ۱٩٥۰ فُتِحَ قبرُ الأب شربل، بحضور اللّجنة الكنسية الرّسميّة مع الأطبّاء المختصين ، فتحقّقوا من سلامة الجثمان، وكتبوا تقريراً طبّيّاً ووضعوه في عُلبةٍ داخل التابوت. فتزايدت حوادث الشّفاءات المختلفة بصورة مفاجئة ومذهلة. وتقاطرت عشرات الآلاف من الحجّاج على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم إلى دير عنّايا يلتمسون شفاعة القدّيس شربل .
إنتشار فضائل ومعجزات القدّيس شربل :
بسرعة البرق انتشرت فضائل ومعجزات القديس شربل في كافّة بلدان العالم ، وتخطّت معجزاته حدود لبنان، وما مجموعة الرسائل والتقارير المحفوظة في سجلاّت دير مار مارون – عنّايا إلاّ دليل واضح على انتشار قداسته في أنحاء العالم كلّه.
ولقد أحدثت هذه الظاهرة الفريدة عودةً إلى الأخلاق الكريمة ورجوعاً إلى الإيمان وإحياءً للفضائل في النّفوس، وأصبح ضريح مار شربل القطبَ الذي يجذب الناس إليه على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم، وقد تساوى الجميع أمامه بالخشوع والابتهال، من دون تفريق في الدين أو المذهب أو الطائفة. فكلّهم عنده أبناءَ الله .
معجزات القديس شربل :
أمّا معجزات الشفاء المسجّلَة في سجلاّت دير مار مارون – عنّايا التي اجترحها الربّ بشفاعة القدّيس شربل، فهي تتعدّى عشرات الآلاف، ما عدا الأشفية المنتشرة في كلّ العالم ومع كلّ الجنسيات ، والعروق ، والأديان ، والطوائف، وهي عديدة ، لا تحصى و غير مسجلّة في سجلاّت الدير.
عشرة بالمائة من الأشفية تمّت مع غير المعمَّدين، الطالبين منه الشفاء بٱيمانٕ وثقة ، وقد تمّ كلّ شفاء بطريقة خاصّة، إمّا بالصلاة وطلب الشفاعة، وإمّا بالزيت والبخور، و إمّا بورق سنديانات المحبسة، او من التراب المأخوذ من قبره، او بزيارة ضريحه ولمس باب قبره ، وإمّا بواسطة صورته وتمثاله.
بعض هذه الشفاءات كان على الصعيد الجسديّ ، لكنّ أهمّها هو شفاء الروح. فكم من تائب عاد إلى ربّه بشفاعة مار شربل، وذلك عند دخوله عتبة دير مار مارون عنّايا أو محبسة مار بطرس وبولس .
تطويبه وتقديسه:
في العام ۱۹٥٤، وقّع البابا بيوس الثّاني عشر قرار قبول دعوى تطويب الحبيس الاب شربل مخلوف .
وفي ٥ ديسمبر / كانون الأوّل سنة ۱۹٦٥ ، ترأَسَ قداسة البابا بولس السادس حفلة تطويب الأب شربل في اختتام المجمع الفاتيكاني الثّاني في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان – روما .
وفي العام ۱٩٧٥ وقّع قداسة البابا بولس السادس قرار قبول الأعجوبة لإعلان الطّوباوي شربل قدّيساً على هياكل الكنيسة الجامعة ، وقد تمّ في احتفال عالميّ مهيب في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان ، بتاريخ ۹ أكتوبر / تشرين الأوّل سنة ۱٩٧٧.
ومن بين العجائب العديدة المنسوبة إلى شفاعة رجل الله ، شربل سكران الله ، انتقت الكنيسة أعجوبتَين لإعلان تطويبه وثالثة لإعلان قداسته وهي :
شفاء الأخت ماري آبِل قَمَري من راهبات القلبَين الأقدَسَين ، و اسكندر نعّوم عبيد من بعبدات ، ومريم عوّاد من حمّانا.
وهناك عجائب كثيرة ما زالت إلى يومنا هذا تتمّ على يده في كل أرجاء العالم .
مار شربل عاش حياته بالصمت والصلاة والتأمل ، وبهذا علمنا : ” أن الصمت هو الطريق الوحيد إلى الله الحاضر دائماً في القربان المقدس ” .
نتوجه الى القديس شربل ونطلب حمايته للكنيسة الجامعة وللبنان وللشرق الاوسط ، ولكل شعوب الأرض، لأننا نحتاج الى السلام الحقيقي ، و نصلي من أجل السلام ، ولجميع العاملين للسلام الذين قال عنهم الرب يسوع : ” طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناء الله يدعون ” ( متى ٥ : ٩ ).
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك
|
|