“شاهدن الحجر قد دُحرج، وكان كبيرًا جدًا، ودخلن القبر”
(مر 16: 4-5)
1. لم يُدحرَج “الحجر الكبير جدًا” عن قبر يسوع بالسلاح والعنف، بالرغم من أختامه وسهر الحرس عليه وضبطه لكي لا يأتي تلاميذ يسوع ويسرقوه ويقولوا أنه قام من بين الأموات، كما طلب الأحبار والفريسيون من بيلاطس (راجع متى 27: 62-67). ولكن دحرجه الحبُ الإلهي الذي انتصر على البغض،ودحرجته الحياةُ الأبدية التي انتصرت على الموت، ودحرجه نور المسيح الذي بدّد الظلمات. أما دخول النسوة إلى القبر الفارغ حيث سمعن بشرى قيامة الرب من فم الملاك، فهو دخول في سرّ الحب الخلاصي الذي أتمّه الله لنا بشخص يسوع المسيح.
إننا نتوسل إلى المسيح القائم من الموت أن يدحرج بقوة حبّه، الذي يسكبه في القلوب النقية، “الحجر الكبير” عن صدر لبنان واللبنانيين، وعن صدور دول الشرق الأوسط وشعوبها. فتنفتح أبواب السلام، وتُحلّ عُقد النزاعات، وتنعم الشعوب بطمأنينة العيش.
ونلتمس نعمة الدخول بتواضع في عمق السرّ الإلهي لخلاص نفوسنا وخلاص مجتمعنا ووطننا وسائر الأوطان.
2. يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهية، ونقيم فيها رتبة السلام الفصحي. فنرفع صليب المسيح من القبر، وعليه شارة بيضاء، علامةً للنصر على الموت والألم والخطيئة. ونطوف به وسط الجماعة ليكرمّه المؤمنون ويتبرّكون به. فاكرام الصليب يرمز إلى أن القيامة قد غلبت الموت. والتبرّك به التماسٌ لنعمة المسيح الشافية والمقوّية.
وفيما نرحب بكم جميعًا نعرب لكم عن أطيب التهاني والتمنيات بالفصح المجيد، راجين لكم سلام المسيح، الذي هو المسيح نفسه، مع فيض النعم والخيرات السماوية. ونقدم هذه التهاني والتمنيات لجميع أبناء كنيستنا وبناتها، اكليروسًا وعلمانيين، أينما وجدوا، في لبنان والنطاق البطريركي وبلدان الانتشار. وبرجاء القيامة نعزي العائلات التي فقدت أعزاء، وعائلات الشهداء الذين سقطوا من صفوف الجيش والقوى الأمنية. وكان آخرهم شهيد الجيش المعاون عامر يوسف من بلدة برج الملوك في منطقة مرجعيون. إننا نعزي أسرته وقيادة الجيش ورفاقه في الدفاع عن الوطن بوجه الإرهابيين.
3. إن الذي دحرج “الحجر الكبير جدًا” عن باب قبر يسوع هو حبّه الإلهي، وتواضعه وامحاؤه وطاعته حتى الموت على صليب الفداء، فكان انتصاره على الموت هو الذي دحرج الحجر. وبهذا ترك لنا النهج للانتصار ولدحرجة حجار الحياة الخاصة والعامة، وقد وصفه بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيليبي:
“تخلّقوا، أيها الأخوة، بأخلاق المسيح، الذي وهو الله أخلى ذاته، واتّخذ صورة العبد، وصار شبيهًا بالبشر، وظهر في صورة الانسان. تواضع واطاع حتى الموت، الموت على الصليب، فرفعه الله وأعطاه اسمًا يفوق كل اسم، لكي تجثو لاسم يسوع كلُ ركبة في السماء والأرض وتحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو الرب، تمجيدًا لله الآب” (فيل 2: 5-11).
4. الحب، الذي يلبس ثوب التواضع، واخلاء الذات، هو القوة الحقيقية المنتصرة أبدًا التي تستطيع أن تدحرج كل حجر مهما كان كبيرًا. التواضع وإخلاء الذات ليسا ضعفًا بل قوة. وحده الذي يتواضع يستطيع الذهاب نحو “الشؤون العليا” نحو الله. وحده الذي يختبر قيامة القلب، بنعمة قيامة المسيح، يسعى إلى “الأمور السامية”، على ما يكتب بولس الرسول في الرسالة إلى أهل كولوسي (كو 3: 1-3). فالمتكبر ينظر “من فوق إلى أسفل”، أما المتواضع “فمن أسفل إلى فوق” (البابا فرنسيس، الرسالة إلى المدينة والعالم، أحد القيامة، 5 نيسان 2015).
5. إننا نصلي لكي يسكب المسيح القائم من الموت في قلوبنا هذا الحب ويجمّلنا بفضيلة التواضع، لكي ندحرج كل حجر يحتجزنا، سواء كان في العائلة أم في الكنيسة، في المجتمع أم في الدولة. ونصلي بنوع خاصمن أجل الجماعة السياسية والكتل النيابية عندنا، لكي إذا اغتنت بالحب والتواضع، تدحرج الحجر السياسي المتمثل بالحيلولة دون إكمال النصاب في المجلس النيابي لانتخاب رئيس للبلاد، وقد غطت أشواك الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنمائية باب الحياة السليمة في لبنان. إن حجر الأزمة السياسية يعطل دور لبنان في المنطقة وحيويته.
6. أما الإحجام عن انتخاب رئيس للجمهورية، وقد مرت سنتان كاملتان على وجوب انتخابه منذ 25 آذار 2014، “فيهدم شيئًا فشيئًا الوحدة الداخلية وموقع لبنان القانوني على المستوى الدولي”، كما أشار بالأمس الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة السيد بان كي-مون. إن غياب الرئيس، وهو وحده حامي الدستور ووحدة الدولة وسيادتها، يجعل من لبنان أرضًا سائبة، سهلة لتوطين النازحين واللاجئين. هذا ما أعربنا عنه للسيد بان كي-مون في لقائنا أول من أمس، وطالبنا من خلاله الأسرة الدولية بحل القضية الفلسطينية وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم الأصلية، وبإيقاف الحرب في سورية والعراق وإعادة النازحين منهما إلى بيوتهم وممتلكاتهم. فبقاء هؤلاء جميعًا حيث هم في حالات بؤس وحرمان، ولاسيما في لبنان بأعدادهم التي تشكل نصف سكانه، يجعلهم عرضة لاستغلالهم السياسي والمذهبي وبخاصة من المنظمات الإرهابية. ولذلك يرفض “لبنان الرسمي” أن تكون عودتهم “طوعية” كما جاء في قرار مجلس الأمن 2254. وهذا ما قلناه أيضًا للسيد بان كي-مون.
7. دخلت النسوة إلى القبر الفارغ فرأين الملاك الذي أعلن لهنّ بشرى قيامة الرب يسوع. هذا الحدث بالنسبة إلينا اليوم هو دعوة للدخول في سرّ المسيح القائم من الموت. هذا الدخول ينطوي على الاندهاش بسرّ المسيح، لا بنفوسنا؛ وعلى التأمل الداخلي العميق، وسماع صمت الضمير والالهام الإلهي، لا أصوات الذين يعظمون شأننا لمصالحهم الخاصة. فالله لا يكلمنا بالضجيج بل “بصوت النسيم اللطيف” كما كلم إيليا النبي (راجع 1 ملوك 19: 12). فلنسمع صوت القبر الفارغ الصامت ولكنه متكلم ومعبّر بلسان الملاك الذي كلّم النسوة بالبشرى الجديدة التي بدّلت وجه العالم.
8. كانت كلمة الملاك لهن “لا تخفن” (مر 16: 6). الدخول في سرّ المسيح ونهجه، وهو نهج “حبّة الحنطة التي تموت في الأرض وتعطي ثمرًا كثيرًا” (راجع يو 12: 24) يقتضي منا ألاّ نخاف من الواقع، ألاّ ننغلق على ذواتنا، ألاّ نهرب مما لا نفهمه، ألاّ نغمض عيوننا عن المعضلات الراهنة، ألاّ نتنكّر للقضايا المطروحة أو نلغيها. غير أنهيقتضي منا ايجابيًا أن نبحث بجدّية عن الحقيقة والحب والجمال، وعن إعطاء أجوبة على المسائل التي تضعنا في أزمات شخصية واجتماعية ووطنية.
9. دخول القبر الفارغ يقتضي انحناءة الرأس. وهذا يعني النزول عن المنصّة الذاتية، عن الاعتداد بالذات، كما يعني التواضع في معرفة الذات على حقيقتها، وإعادة تكوين حدودها. كلنا خلائق لنا صفاتنا وعيوبنا، وخطأة بحاجة إلى مغفرة. من أجل الدخول في سرّ المسيح ينبغي التخلّي عن أصنامنا وعبادة الله التي وحدها تدخلنا في السرّ الخلاصي.
إذا دخلنا مثل النسوة في السرّ الإلهي، وقبلنا بشرى القيامة، نرفع صلاتنا إلى المسيح القائم من الموت ملتمسين قيامة قلوبنا، فنتجدد ونجدد عالمنا، وتصبح حياتنا نشيد مجد وتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.