لاحظنا سابقا معاني ” التجرّد من الذات ” بحسب لاهوت القرون الوسطى . والآن سنرى معنى تعبير ” الغنيمة ” .
لقد أثارَ مصطلحٌ آخر من الترجمة اللاتينيّة بعض التفسيرات المهمّة ، وهو المصطلح المنقول من اليونانيّة Harpagmos ، وتدورُ عليه المناقشات في التفسير الحديث . لقد تعدّدت العبارات الدالّة على مفهوم الغنيمة في النشيد الذي يخصّ المسيح في رسالة فيلبيّ (2) ، بحسب طبعات الكتاب المقدّس . أمّا هيمون الأوكسيريّ (لاهوتيّ من القرون الوسطى) فله كلمة في المصطلح المعنيّ .
” هو الذي في صورة الله ، أي مساو ٍ لأبيه في الألوهة ، له الماهيّة نفسُها ومساو ٍ له في كلّ شيء ، ” لم يعدّ مساواته لله غنيمة ” (فيلبّي 2 :6) . نتحدّثُ عن غنيمــــــة عندما يغتصبُ المرءُ ، بالقوّة ، ما ليس له ليتملّك عليه . أمّا الربّ يسوع فلم يكن قد اقترفَ إغتصابا أو نهبــــًا حين قال إنه شبيهٌ بالله أبيه ومساو ٍ له ، إذ أكّد : ” أنا والآب واحد ” (يوحنا 10 : 30) . فلو لم يكن ابن الله حقا ، لما كان مساويًا له في كلّ شيء . وسَلفُه (يوحنا المعمدان) ، حين قال : ” لستُ المسيح ” (يوحنا 1 : 20) ، وقتَ استجوبه الكتبة ، والفريسيّون والشعب ، لو أنه قالَ : أنا هو المسيح ، لكان اقترف نوعـًا من الإغتصاب . وسمعان الساحر قد اقترفَ إغتصابًا حين قال : ” إذ كان ابن الشيطان : أنا هو ابن الله ، أنا المعزّي ، أنا هو ابن الله (أعمال الرسل 8 : 9).
لم يـــــُنظَر إلى مثَل ” الغنيمة ” الخاصّ بسمعان الساحر بعد ذاك . أما الأمثلة الأوسع شيوعًا فمن بينها مثل آدم مَن يأكل الثمر المحرّم ليكون كإله ( بحسب التكوين 3 : 5) ، ومثل المتكلّم في أشعيا 14 : 13 : ” سأصعد إلى السماء … ” ، وقد موثِلَ بالملاك الفاسد أو بالشيطان . ونجدُ تلك الأمثلة في تفسير نيقولا دو غورّان ، دومنيكانيّ عاش في النصف الثاني من القرن الثالث عشر ، مَن يتميّز عمله التفسيريّ بأهميّة كبرى ؛ ولكنّ تفسيره يبدأ بإقتراح شرح ٍ مختلف جدّا عمّا نلقاه عادة ، لأنّ المسيح لم يكن ليعتبر نفسه مساويًا لله ، نظرًا إلى طبيعته البشريّة .
تفسير الدومنيكانيّ نيقولا غورّان …
” لم يعدّ ” ، نظرًا إلى الطبيعة البشريّة ، إنه مساو ٍ لله ، بحسب حُكم العقل الحقيقيّ . في هذا ، لم يكن بمُقترف ٍ أيّ إغتصاب ، إذ لم يتعدّ على ما لم يكن له ، كما فعل الملاك وآباؤنا الأوائل مَن ، وفق أوغسطينوس ، أرادوا الحصول على الألوهة فخسروا السعادة . وقد نفهم الأمر بحسب التالي : لم يعتبر مساواته لله غنيمة ، أي إذ عرف أنه كان مساويا له نظرًا إلى طبيعته الإلهيّة ، لم يعتبر ذلك ” غنيــــمة ” ، لأنه ، في الحقيقة ، كان مساويًا لله في الطبيعة ، ولكن نظرًا إلى كونه كائنا بشريّا ، بقي يقولُ إنه دونَ ” الآب ” .
نظرةٌ كرستولوجيّة
كما لاحظنا في النصوص التي مررنا بها ، إنّ الإهتمام اللاهوتيّ مستمرّ في تفسيرات مسألة الفصل ، ويمكننا استخراج كريستولوجيا حقيقية من تلك التفسيرات . لنرى الآن تفسير قضيّة المساواة بين الآب والابن ، بحسب هيرفيه دو بورغ ديو ، وهو بنديكتيّ من بدايات القرن الثاني عشر (ت . 1150)
” إنه (أي المسيح ) مساو ٍ للآب ، ولكن هذا أيضا حظي به من الآب نفسه . لم يحظَ به بحيث أصبحَ مساويا له من باب النموّ ، بل أصبح مساويًا له بالطبيعة ومنذ الأزل : فكما هو مولودٌ منذُ الأزل ، كذلك هو مساو ٍ للآب منذ الأزل . وهكذا ، فإنّ الآب لم يخلقه غيرَ مساو ٍ له ، ولا منحه تلك المساواة قبلَ أن يولد ، بل قد منحه إيّاها وهو يخلقه ، في الوقت عينه ، إذ قد خلقه مساويًا له وليس مغايرًا . لذا لم يكن نهبًا ولا إغتصابًا ، بل كانت مساواة ً بالطبيعة بين الآب والابن … كان ، بالفعل ، مساويًا للآب من دون أن يقترف أيّ إغتصاب ٍ أو إنتحال ، لأنه ولد أزليّا من الآب الأزليّ” .
نلحظُ تعقيدَ الموضوع المطروح ، وهو تعقيد تعوّده اللاهوتيون ، وشغلَ الكثيرين في القرون الوسطى . يتعلّق الأمرُ بحلّ التناقض الجليّ بين واقعين في الرسالة إلى أهل فيلبي : من جهة ، يدينُ يسوع للآب بما حصل عليه ، ومن جهة أخرى هو شبيهٌ به من حيث الماهيّة والأزليّة . والصعوبةُ ذاتها تظهر في الجزء الثاني من النشيد ، حيث يبدو كل من تمجيد المسيح يسوع ، و ” الاسم الذي يفوقُ جميع الأسماء ” ، وقد حظي به من عند الآب ، نتيجة ً لأهليّة ٍ أو جدارة عند المسيح . وقد شكّلت مسألةُ الأهليّة هذه ، في القرن الثاني عشر ، موضوع دراسة مهمّا .
تفسير دو مِلون
” وضع نفسه وأطاع حتى الموت … ” فيلبي 2 : 8 . نسأل ، في هذا الشأن ، إن استحق المسيح أيّ شيء . لقد استحق شيئا من أجلنا ، ولكن من أجله هو ، لم يستحق شيئا ممّا كان له ؛ لقد استحقّ ما كان له ممّا كان عليه . بالفعل ، يمكن أن نستحقّ ما نملكه : مثلا ، يستحقّ فارسٌ من سيّده الأرضَ التي يملكها . ومن أجلنا ، استحق (المسيح) أن نستطيع نحنُ الحصول على الحياة الأبديّة ، هي التي لم نكن بعد حاصلين عليها . إلا أننا نستطيعُ القول كذلك إنه قد استحق ، بحسب الجسد ، شيئا لم يكن بعد حاصلا عليه ، الخلود والهدوء . ولكن بحسب الروح ، لا شيء على الإطلاق ، إذ كان قد حصل على السعادة القصوى النابعة من روحه نفسها ، أي معرفة تامّة لله : ” فقد استكنّت فيه جميع كنوز الحكمة والعلم والمعرفة ” (قولسي 2 : 3) .
هناك تفسيران : بادئ ذي بدء ، لا يمكننا الكلامُ على استحقاق المسيح ، لأنه ، في الجوهر ، يملكُ كلّ ما هو كامل ؛ إلأ أنّ التجسّد يؤول إلى نوع من التنشيط ، إن جاز التعبير ، لهذا الكمال ، وهذا يحصلُ لمصلحة الإنسان وحده . تفسير آخر : إن كون المسيح قد إتخذ حالة البشر يخلق إستحقاقا من حيث طبيعته البشريّة (هكذا يُفسّر تعبير ” لذلك ” في الآية (9) ، ولكن من جهة الآلوهة ، مستحيل الكلام على مفهوم الإستحقاق في الأمر .