البابا يدعو لكي نكون مسيحيين سعداء

النص الكامل لعظة البابا أثناء القداس الإلهي في حزيرة موريشيوس

Share this Entry

هنا أمام هذا المذبح المكرّس للعذراء مريم ملكة السلام؛ على هذا الجبل الذي نرى منه المدينة وما وراء البحر، إننا نمثل وجها من الوجوه العديدة التي أتت من جزر موريشيوس وغيرها من جزر المحيط الهندي كي تصغي ليسوع وهو يعلن التطويبات. إنها كلمة الحياة ذاتها التي تملك، كما منذ ألفي سنة مضت، نفس القوّة، ونفس الحرارة التي تشعل حتى القلوب الأكثر برودة. يمكننا أن نقول معًا للربّ: نحن نؤمن بك ونعلم، على ضوء الإيمان ونبض القلب، أن نبوءة أشعيا هي صحيحة: اعلنوا السلام والخلاص، واحملوا البشارة… لأن إلهنا يملك منذ الآن.

إن التطويبات “هي بطاقة هويّة المسيحي”. إن سأل أحد منّا نفسه: ماذا عليَّ أن أفعل لأكون مسيحيًّا صالحًا؟ يأتي الجواب بسيطًا: من الضروري أن يعيش كلٌّ بحسب طريقته ما يقوله يسوع في عظة التطويبات. في التطويبات يُرسم وجه المعلِّم الذي دُعينا لنعكسه في حياتنا اليوميّة” (الإرشاد الرسولي افرحوا وابتهجوا، 63)، كما فعل الطوباوي جاك ديزيري لافال المسمّى “رسول وحدة جزر موريشيوس” والذي تكرّمونه للغاية في هذه الأرض. لقد طبع حبُّه للمسيح وللفقراء حياتَه، وقد حماه هذا الحبّ من وهم حمل البشارة بشكل “بعيد ومعقّم”. فقد كان يعلم أن حمل البشارة يعني أن يكون في خدمة الجميع (را. 1 قور 9، 19- 22): تعلّم لغة العبيد المحرّرين حديثًا وحمل لهم ببساطة بشارة الخلاص. عرف كيف يجمع المؤمنين، وعلّمهم كيف يقومون بالرسالة ويؤسّسون جماعات مسيحيّة صغيرة في الأحياء والمدن والقرى المجاورة، جماعات صغيرة أصبحت بمعظمها الرعايا الحاليّة. اجتهدَ في منح الثقة للفقراء والمستبعدين حتى يكونوا أوّل من ينظّموا أنفسهم ويجدوا حلولًا لمعاناتهم.

من خلال ديناميّته التبشيريّة ومحبّته، أعطى الأب لافال للكنيسة الموريشيانية شبابًا جديدًا، وروحًا جديدًا نحن مدعوّون اليوم للاستمرار به في السياق الحالي.

يجب أن نعتني بهذا الاندفاع التبشيري، لأننا قد نقع، ككنيسة المسيح، في تجربة فقدان الحماس التبشيري فنلجأ إلى الألقاب الدنيويّة والتي، لا تقيّد شيئًا فشيئًا الرسالة وحسب، إنما تجعلها أيضًا مرهِقة وغير قادرة على جَمع المؤمنين (را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، 26). إن الاندفاع التبشيري له وجه شاب ومجدّد للشباب. فالشبيبة بالتحديد هم مَن يستطيعون، من خلال حيويّتهم واستعدادهم، منحها الجمال ونضارة الشباب، عندما يتحدّون المجتمع المسيحيّ كيما يتجدّد ويدعوننا للذهاب إلى آفاق جديدة (را. الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس المسيح يحيا، عدد 37).

لكن هذا ليس دائمًا بالأمر السهل، لأنه يتطلّب منّا أن نتعلّم كيف نقدّرهم ونمنحهم مكانًا في جماعتنا، وفي مجتمعنا.

لكن من الصعب استيعاب، على الرغم من النموّ الاقتصادي الذي شهده بلدكم في العقود الأخيرة، أن الشبيبة هم أكثر من يعانون من البطالة، والتي لا تنتج مستقبلا غير مضمون وحسب، بل تسلبهم أيضًا إمكانيّة الشعور بكونهم عناصر فاعلة في تاريخهم المشترك. فالمستقبل غير المضمون يدفعهم جانبًا ويجبرهم على “كتابة” حياتهم على الهامش، ويتركهم عرضة للخطر وبلا نقاط مرجعيّة إزاء أشكال العبوديّة الجديدة في هذا القرن الحادي والعشرين. هم، شبيبتنا، هم رسالتنا الأولى! يجب أن ندعوهم لإيجاد سعادتهم في يسوع؛ ولكن ليس بطريقة “معقّمة أو بعيدة”، إنما مانحين إياهم مكانًا، ومتعلّمين “لغتهم”، ومستمعين إلى قصصهم، وعائشين بجوارهم، وجاعلين إياهم يشعرون بأنهم مباركون من الله. لا نسمحنّ بأن يُسرق منّا الوجه الشابّ للكنيسة وللمجتمع؛ لا نسمحنّ لتجّار الموت بأن يسرقوا أوّل ثمار هذه الأرض!

إن الأب لافال لكان قد وجّه إلى شبيبتنا وإلى الذين يشعرون بأن لا صوت لهم لأنهم غارقون في الهشاشة، دعوةً لأن يسمعوا تردّد صدى بشارة النبي أشعيا: “اِندَفِعي بِالهُتافِ جَميعاً يا أَخرِبَةَ أُورَشَليم فإِنَّ الرَّبَّ قد عَزَّى شَعبَه وافتَدى أُورَشَليمَ!” (أش 52، 9). حتى لو أن ما يحيط بنا، يبدو وكأنه بدون حلول، فإن الرجاء بيسوع يدعونا لاستعادة اليقين في انتصار الله، ليس فقط عبر التاريخ، ولكن أيضًا عبر النسيج الخفيّ الذي يغزل القصص الصغيرة التي تجعلنا نلعب دورًا رئيسيًّا في انتصار يسوع الذي أعطانا ملكوت السماوات.

لا يمكننا، كي نعيش الإنجيل، أن نتوقّع أن يكون كلّ شيء من حولنا مؤاتيًا، لأنه غالبًا ما تعاكسنا طموحات السلطة والمصالح الدنيويّة. قال القدّيس يوحنا بولس الثاني: “يكون المجتمع مُغرّبًا عندما يعسّر تحقيق هذه الهبة وقيام هذا التضامن بين الناس، بسبب ما يعتمده من أنماط في تنظيم المجتمع والإنتاج والاستهلاك” (الرسالة العامة السَّنة المِئَة، عدد 41). يصبح من الصعب عيش التطويبات في مثل هذا المجتمع، لدرجة أنها تصبح أمرًا مزعجًا، ومشكوكًا فيه، وموضوع سخرية (را. الإرشاد الرسولي افرحوا وابتهجوا، عدد 91). هذا صحيح، لكن لا يمكن أن نسمح للإحباط بأن يتغلّب علينا.

علينا أن نسترجع نحن أيضًا عند سفح هذا الجبل، الذي أودّ اليوم أن يصير جبل التطويبات، هذه الدعوة لنكون سعداء. المسيحيّون الفرحون وحدهم هم مَن يمكنهم أن يوقظوا الرغبة في اتّباع هذا الطريق؛ “تصبح كلمة سعيد أو طوباوي مرادفًا لكلمة قدّيس، لأنها تعبّر عن أن الشخص الأمين لله والذي يعيش كلمته يصل، عبر بذل ذاته، إلى السعادة الحقيقية” (نفس المرجع، 64).

عندما نسمع التكهّن المنذر: “نحن أقل فأقل”، يجب علينا أوّلًا ألّا نشعر بالقلق إزاء انخفاض هذا أو ذاك النوع من التكرّس في الكنيسة، بل إزاء قلّة الرجال والنساء الذين يرغبون بعيش السعادة في مسيرة قداسة، إزاء قلّة الرجال والنساء الذين يتركون قلوبهم تحترق بأجمل بشارة وبأكثرها تحريرًا. “إذا كان هناك شيء مقدّس يجب أن يشغلنا ويقلق ضميرنا هو أن العديد من إخوتنا يعيشون محرومين من قوّة صداقة يسوع المسيح ونوره وتعزيته، محرومين من جماعة مؤمنة تتقبّلهم، من أفق معنى وحياة” (الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، 49).

عندما يرى شابٌّ مشروعَ حياة مسيحيّة يتحقّق بفرح، يتحمّس ويتشجّع ويشعر برغبة قد يعبّر عنها بهذا الشكل: “أريد أن أتسلّق جبل التطويبات هذا، أريد أن ألتقي بنظر يسوع فيدلّني على طريق سعادتي”.

لنصلِّ أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء، من أجل جماعاتنا، حتى ترى، إذ تشهد لفرح الحياة المسيحيّة، الدعوة إلى القداسة تزدهر في أشكال الحياة المتعدّدة التي يهبها الروح لنا. لنناجيه من أجل هذه الأبرشية، وأيضًا من أجل الآخرين الذين بذلوا اليوم جهدًا للمجيء إلى هنا. لقد مرّ الأب لافال، القدّيس الذي نكرّم رفاته، بلحظات من الإحباط وبصعوبات مع المجتمع المسيحي، ولكن في النهاية تغلّب الربّ في قلبه. كان لديه ثقة في قوّة الربّ. لندعها تلمس قلوب العديد من الرجال والنساء على هذه الأرض، وتلمس أيضًا قلوبنا حتى تجدّد حداثتُها حياتَنا وحياة مجتمعنا (را. نفس المرجع، 11). لا ننسينّ أن الشخص الذي يجمع بقوّة، والذي يبني الكنيسة، إنما هو الروح القدس.

إن صورة مريم، الأمّ التي تحميننا وترافقنا، تذكّرنا بأنها سمّيت “الطوباويّة”؛ لنطب من التي عاشت الألم كالسيف الذي ينفذ من قلبها، والتي مرّت بأسوأ عتبة ألم وهي أن ترى ابنها يموت، فلنطلب منها موهبة الانفتاح على الروح القدس، وفرح المثابرة، الفرح الذي لا يزول أو ينغلق على ذاته… تلك التي تجعلنا نختبر دومًا وتؤكّد أن “الله قد صنع العظائم واسمه قدّوس”.

***********

 كلمة الشكر في نهاية القدّاس الإلهي

 

قبل أن أختتم هذا الاحتفال، أودّ أن أتوجّه إليكم جميعًا بتحيّاتي القلبيّة وبشكري الخالص. أشكر أوّلًا الكاردينال بيات على كلماته وعلى التحضير لهذه الزيارة؛ شكرًا لجميع الذين تعاونوا ولجميع شعب الله في هذه الكنيسة.

أعرب عن امتناني العميق لفخامة الرئيس، ولرئيس الوزراء ولباقي سلطات البلد، التي سألتقي معهم بعد ظهر هذا اليوم، على الترحيب الحارّ والجهود السخيّة التي بُذلت.

أتوجّه بالشكر الجزيل إلى الكهنة والشمامسة والمكرّسين والمكرّسات والعديد من المتطوّعين. وأحيّي الأسرى الذين تابعوا برنامج “ألفا” في السجن والذين راسلوني. أرسل إليهم تحيّاتي الودّية وبركتي.

وفي النهاية، تحيّة مليئة بالامتنان لكلّ شعب الله الحاضر هنا، ولا سيما المؤمنين من جُزر سيشيل وريونيون والقمر وشاغوس وأغاليغا ورودريغز وموريشيوس. أؤكّد لكم صلاتي وقربي. ليمنح الربّ الجميع باستمرار الحكمة والقوّة لتحقيق التطلّعات المشروعة. وأنتم، من فضلكم، صلّوا من أجلي باستمرار. شكرًا لكم جميعًا!

***********

©جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2019

Share this Entry

Staff Reporter

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير