vatican media

الله يحلم مثلَكِ، بعالم يسوده السّلام

كلمة البابا في الصّلاة المسكونية من أجل المهاجرين

Share this Entry

الإخوة والأخوات الأعزّاء،

إنّه لمن دواعي سروري أن أكون هنا معكم، وأن أختتم زيارتي إلى قبرص بلقاء الصّلاة هذا. أشكر أصحاب الغبطة البطريرك بييرباتيستا بيتسابالّا والبطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وكذلك السّيّدة إليزابيت من مؤسسة الكاريتاس. وأحيّي بمحبّة وامتنان ممثّلي مختلف الطّوائف المسيحيّة الموجودين في قبرص.

أودّ أن أقول أيضًا شكرًا جزيلًا من كلّ قلبي لكم، أنتم المهاجرين الشّباب، الذين أدليتم بشهاداتكم. وقد وصلت إليَّ من قبل منذ شهر مضى تقريبًا، وقد أثّرت فِيَّ كثيرًا، وأثرها فيَّ باقٍ حتّى اليوم. وليس أثرها فيَّ مجرّد عاطفة، إنّه أكثر من ذلك بكثير: إنّه التأثّر الذي يأتي من جمال الحقيقة. مثل قول يسوع عندما هتف: “أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هٰذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار” (متّى 11، 25). أنا أيضًا أَحْمَدُ الآب السماويّ لأنّ هذا يحدث اليوم، هنا – وفي كلّ العالم أيضًا -: الله يكشف ملكوته للصّغار، ملكوت المحبّة والعدل والسّلام.

بعد أن استمعنا إليكم، فهمنا بشكل أفضل كلّ القوّة النبويّة لكلمة الله التي تقول، على لسان الرّسول بولس: “فلَستُم إِذًا بَعدَ اليَومِ غُرَباءَ أَو نُزَلاء، بل أَنتُم مِن أَبناءِ وَطَنِ القِدِّيسين ومِن أَهْلِ بَيتِ الله” (أفسس 2، 19). هذه الكلمات كُتبت لمسيحيّي أفسس – وهي ليست بعيدة من هنا! – هم بعيدون جدًّا في الزّمن، ولكنّ الكلمات قريبة جدًّا، وهي حيّة أكثر من أيّ وقت مضى، كما لو أنّها كُتِبَت لنا اليوم: ”فلستم إذًا بعد اليوم غرباء، بل أنتم مواطنون“. هذه هي نبوءة الكنيسة: جماعة تجسّد حلم الله – مع كلّ الحدود البشريّة -. لأنّ الله يحلم أيضًا، مثلَكِ أنتِ، مرياميه، القادمة من جمهورية الكونغو الديمقراطية، وعرّفتِ نفسَك بأنّكِ ”مليئة بالأحلام“. الله يحلم مثلَكِ، بعالم يسوده السّلام، وفيه يعيش أبناؤه إخوة وأخوات. الله يريد هذا والله يحلم به. نحن الذين لا نريد.

إنّ حضوركم، أيّها الإخوة والأخوات المهاجرون، مهمّ جدًا في هذا الاحتفال. وشهاداتكم هي مثلُ ”مرآة“ بالنّسبة لنا، نحن الجماعات المسيحيّة. عندما تَقُولين أنتِ، ثمارا، القادمة من سريلانكا: ”غالبًا ما يَسألوني من أنا“: إنّ وحشية الهجرة تضع هوية المرء على المحك فيتساءل ”هل أنا هذا؟ لا أدري… أين جذوري؟ من أكون؟“. وعندما تَقُولين ذلك، فإنّك تذكّرينا بأنّنا نحن أيضًا نُسأل أحيانًا هذا السّؤال: ”من أنت؟“. وللأسف، غالبًا ما يعني: ”في أيّ جانب أنت؟ وإلى أيّ مجموعة تنتمي؟“. لكن كما قلتِ لنا، نحن لسنا أرقامًا ولسنا أفرادًا يجوز تصنيفها، بل نحن ”إخوة“، و”أصدقاء“، و”مؤمنون“، و”قريبون“ بعضنا من بعض. ولكن عندما تتدافع مصالح المجموعة أو المصالح السياسية، وحتى مصالح الدول، يجد الكثيرون منا أنفسهم جانباً، وليس لهذا جاؤوا، مثل العبيد. لأنّ المصالح دائمًا تستعبد، ودائما تخلق عبيدًا. المحبّة التي تتسّع للجميع هي عكس الكراهية وهي التي تجعلنا أحرارًا.

عندما تقول أنتَ، ماكولينس، القادم من الكاميرون، إنّك ”جُرحت من الكراهية“ طوال حياتك، فأنت تتكلّم على هذا، على جراح المصالح هذه، فإنّك تذكّرنا بأنّ الكراهية لوّثت أيضًا علاقاتنا بين المسيحيّين. وهذا، كما قُلتَ أنتَ، يترك علامة، علامة عميقة تدوم لفترة طويلة. وهو سُمٌّ. نعم، لقد شعرت به، أنت، مع آلامك: الكراهية سمّ من الصّعب أن نتطهّر منه. الكراهية هي عقليّة مشوّهة تجعلنا نرى بعضنا بعضًا خصومًا ومنافسين، إن لم نكن مثل أشياء يمكن بيعها أو استغلالها، بدلاً من أن نعترف أنّنا إخوة، بعضنا لبعض.

عندما تقول أنتَ، روز، القادم من العراق، إنّك ”مسافر على الطريق“، فإنّك تذكّرنا بأنّنا نحن أيضًا جماعات على طريق السفر، ونحن في مسيرة، من الصّراع إلى الشّركة. على هذا الطّريق الطّويل والذي فيه صعود ونزول، يجب ألّا تُخيفنا الاختلافات التي بيننا، بل بالحريّ يجب أن تُخيفنا انغلاقاتنا وتحيّزاتنا التي تمنعنا من الالتقاء حقًّا والسّير معًا. الانغلاقات والتحيّزات فيما بيننا تعيد بناء الحاجز الذي هدمه المسيح، أي العداوة (راجع أفسس 2، 14). ومن ثمّ، يمكن لمسيرتنا نحو الوَحدة الكاملة أن تخطو خطوات إلى الأمام لدرجة أنّنا، معًا، نُبقي أنظارنا مثبَّتة على يسوع، عليه هو “سَلامُنا” (المرجع نفسه)، وهو “حَجَرُ الزَّاوِيَة” (الآية 20). وهو، الرّبّ يسوع، يأتي إلينا بوجه الأخ المهمّش والمرذول، وبوجه المهاجر المُحتقر، والمرفوض، والمحجوز في قفص، والمُستغَل… ولكن أيضًا – كما قلت أنتَ – بوجه المهاجر المُسافر نحو شيء ما، ونحو رجاء، ونحو عيش معًا فيه شيء أكثر إنسانيّة…

ويكلّمنا الله من خلال أحلامكم. الخطر هو أنّنا في كثير من الأحيان لا ندع الأحلام تدخل فينا ونفضل أن ننام، من دون أن نحلم. من السهل جدًا أن ننظر في الاتجاه الآخر (حتى لا نرى ما هو أمامنا). وفي هذا العالم، اعتدنا على ثقافة اللامبالاة، وعلى ثقافة النظر في الاتجاه الآخر، وأن ننام في سبات عميق، بهدوء. وفي هذا الطريق لا يمكنك أن تحلم أبدًا. هذا صعب. يكلّمنا الله من خلال أحلامكم. لا يكلّمنا الله من خلال الناس الذين لا يستطيعون أن يحلموا بأي شيء، لأنّ لديهم كلّ شيء أو لأن قلوبهم قاسية. يدعونا الله نحن أيضًا إلى عدم الاستسلام لعالم منقسم، وإلى عدم الاستسلام لجماعات كنسيّة منقسمة، بل إلى أن نسير في التّاريخ منجذبين إلى حلم الله وهو: إنسانيّة من دون حواجز، ومتحرّرة من العداوة، لا أحد فيها غريب، بل الكلّ مواطنون، كما قال بولس في المقطع الذي ذكرته. مختلفون، بالتّأكيد، ونفتخر بخصوصيّاتنا، ونفتخر بكوننا مختلفين، بهذه الصفات المميزة التي هي عطيّة من الله. مختلفون، وفخورون بذلك، ولكنّنا دائمًا متصالحون، ودائمًا إخوة.

عسى أن تصبح هذه الجزيرة، والتي أُصيبت بانقسام مؤلم – أنا أنظر إلى الحائط ، هناك [من خلال باب الكنيسة المفتوح] – عسى أن تصبح مختبرًا للأخوّة بنعمة الله. أشكر كلّ الذين يعملون من أجل هذا. أفكر وأقول إنّ في هذه الجزيرة سخاء كبيرًا، لكنّها لا تستطيع أن تعمل كلّ شيء، لأنّ عدد الوافدين أكبر من قدرتها على الاستقبال والدمج والمرافقة والدعم. قربها الجغرافي يسهل القدوم…، لكنّه ليس بالأمر السهل. يجب أن نفهم المحدوديات عند حكام هذه الجزيرة. لكن هناك دائمًا في هذه الجزيرة، وقد رأيته في القادة الذين زرتهم، [الالتزام] بأن تصبح، بنعمة الله، مختبرًا للأخوة. ويمكنها أن تكون كذلك، ولكن بشرطَيْن اثنَين. الأوّل هو الاعتراف الفعليّ بكرامة كلّ إنسان (راجع رسالة بابويّة عامّة، Fratelli tutti ”كلّنا إخوة“، 8). كرامتنا لا تباع ولا تستأجر ولا تضيع. ليكن جبيننا مرتفعًا: أنا مستحق لأنّي ابن الله. ويجب الاعتراف الفعلي بكرامة كلّ إنسان: هذا هو الأساس الأخلاقي، وهو الأساس العالمي الذي يقع أيضًا في قلب العقيدة الاجتماعيّة المسيحيّة. والشّرط الثّاني هو الانفتاح الواثق على الله، أبي الكلّ. هذه هي ”الخميرة“ التي نحن مدعوّون لأن نحملها كمؤمنين (راجع المرجع نفسه، 272).

في ظلّ هذه الظّروف، من الممكن أن يتحوّل الحلم إلى رحلة يوميّة، تقوم بخطوات عمليّة، تسير من الصّراع إلى الشّركة، ومن الكراهية إلى المحبّة، ومن الهروب إلى اللقاء. هي مسيرة صابرة تقودنا يومًا بعد يوم إلى الأرض التي أعدّها الله لنا، الأرض التي إن سألونك فيها: ”من أنت؟“، يمكنك أن تُجيب بثقة: ”أنظر، أنا أخوك. أنت لا تعرفني؟“. وهكذا تابع سيرك على مهل.

بالاستماع إليكم، وبالنظر إليكم في وجوهكم، ذهبت ذاكرتي إلى البعيد، وذهبت إلى الآلام. لقد وصلتم إلى هنا، ولكن كم عدد إخوتكم وأخواتكم الذين بقوا على الطريق؟ كم عدد الأشخاص اليائسين الذين بدأوا طريقهم في ظروف صعبة للغاية، حتى في الظروف المحفوفة بالمخاطر، ولم يتمكنوا من الوصول؟ يمكنّنا أن نتكلّم عن هذا البحر الذي أصبح مقبرة كبيرة. أنظر إليكم وأرى آلام الطريق، كثيرون تم اختطافهم وبيعهم واستغلالهم… وما زالوا في الطريق ولا نعرف أين. إنهّا قصة عبودية، عبودية عالمية. نحن نشاهد ما يحدث، والأسوأ أنّنا اعتدنا عليه. ”نعم، غرق قارب اليوم، هناك… والمفقودون كثيرون…“. لكن انظروا، أن نعتاد على كلّ هذه الأمور مرض خطير، إنّه مرض خطير للغاية ولا يوجد مضاد حيوي لهذا المرض! يجب أن نعارض رذيلة العادة، فنعتاد، ولا نهتّم، عند قراءة هذه المآسي في الصحف أو سماعها في وسائل الإعلام الأخرى. أنظر إليكم وأفكّر في الكثيرين الذين اضطروا إلى العودة لأنّهم رفضوهم وانتهى بهم الأمر في معسكرات الاعتقال، معسكرات الاعتقال الحقيقية، حيث تُباع النساء، ويعذب الرجال، ويُستعبدون… نحن نشكو ونتهم عندما نقرأ قصص معسكرات الاعتقال في القرن الماضي، معسكرات النازيين، ومعسكرات ستالين، نشكو ونتهم عندما نرى ذلك ونقول: ”كيف حدث هذا؟“. أيّها الإخوة والأخوات: هذا يحدث اليوم في السواحل المجاورة! أماكن العبودية. رأيت بعض الشهادات المصورة لهذا: أماكن التعذيب، وبيع الناس. أقول هذا لأنّه من مسؤوليتي أن أساعد في فتح العيون. الهجرة القسرية ليست شبه سياحة: من فضلكم! والخطيئة التي بداخلنا تدفعنا إلى أن نفكّر على هذا النحو: ”مساكين. بائسون“. وبهذه الكلمات ننسى وكأنّنا نلغي الواقع ونلغي كلّ شيء. إنهّا حرب الآن، في هذه اللحظة، إنّها آلام الإخوة والأخوات التي لا يمكنّنا السكوت عنها. أولئك الذين ضحَّوْا بكلّ ما لديهم من أجل ركوب قارب، في الليل، ومن ثمّ… دون معرفة هل يصلون… وبعد ذلك، تم رفض الكثيرين وانتهى بهم الأمر في معسكرات الاعتقال، وأماكن الحبس والتعذيب والعبودية الحقيقية.

هذه هي قصة هذه الحضارة المتطورة التي نسميها الغرب. وبعد ذلك – أعذروني، أودّ أن أقول ما لدي في قلبي، على الأقل أن نصلّي من أجل بعضنا البعض ونفعل شيئًا – ثم، هذه الأسلاك الشائكة. أرى شيئًا منها هنا: هذه حرب كراهية تقسّم بلدًا. الأسلاك الشائكة، وفي أماكن أخرى حيث توجد، فإنّها توضع حتى لا يُسمح للاجئ أن يدخل، ذلك القادم ليطلب الحرية، والخبز، والمساعدة، والأخوّة، والفرح، والهارب من الكراهية يجد أمامه كراهية تسمى الأسلاك الشائكة. ليوقظ الله ضميرنا جميعًا أمام هذه الأمور.

واعذروني إن قلت الأمور كما هي، لكن لا يمكنّنا أن نصمت ونستدير إلى الجانب الآخر حتى لا نرى، في ثقافة اللامبالاة هذه.

ليبارككم الرّبّ جميعًا! شكرًا.

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير