في مقالنا السابق، تناولنا الحياة الرهبانيّة والنسكيّة في الشرق، مسألة العذارى المسيحيّات الناسكات. أمّا في هذه المقالة، سنتكلّم عن الحياة النسكيّة والتوحيديّة. سبق وأوردنا ماهية الحياة النسكيّة في الشرق والغرب وكيفيّة تطوّرها بعد أن بدأت في نهاية القرن الثالث نتيجة لجهود المسيحيّين الزاهدين التي بذلوها لكي يعيشوا حياة أكثر كمالاً. ومع أنه يُحتمل أنّها شكّلت حالة حياةٍ مميّزة في الكنيسة، إلّا أنها كانت في البداية طريقة حياةٍ متاحة لأيّ مسيحيّ يريد أن يشهد شهادةً صادقة على تعليم المسيح.
في القرن الرابع فقط، نجد بعض المؤمنين يجتمعون بطريقةٍ ثابتة ليعملوا معًا للبلوغ إلى الكمال الرهباني. فنرى من ذلك أن الحياة الرهبانية الجماعية تعقب حياة النسك والتوحّد. وكان أول من شجّع الحياة الرهبانية الجماعية القديس انطونيوس الكبير. فالنساك المصريون الذين تمركزوا في البرية كانوا يعيشون حياة الوحدة حيث كانوا يتنافسون في الممارسات النسكية. وان شهرة البعض منهم لم تلبث أن طرقت آذان مسيحيين آخرين متعطّشين للكمال الإنجيلي. وإذ رغب هؤلاء التشبّه بأولئك، لحقوا بهم وتتلمذوا لهم. أما انطونيوس، فكان الأول في النساك الذين توغّلوا في البرية. فصار له تلاميذ وطارت شهرته الواسعة في العالم الرهباني في مصر السفلى كما في جميع البلاد المسيحية. نذكّر أن شهرة أنطونيوس كانت مدينة لسيرة حياته التي نشرها القديس أثناسيوس. وتجدر الإشارة إلى أن الحياة الرهبانية في الشرق انقسمت إلى قسمين، الحياة التوحّديّة للمتوحّدين والمعتكفين، والحياة الترهبيّة للرهبان. وكما ذكرنا سابقًا أن القديس أنطونيوس هو المثال للأولى يُعد القديس باخوميوس، فهو مؤسس الحياة الرهبانية الجماعية في مصر.
عمد القديس باخوميوس إلى تنظيم هذه الحياة الرهبانية الجماعية المشتركة. فقد سنّ قوانين لتسعة أديار للرهبان ولديرين للراهبات وكانت كلها في صحراء تيبة في مصر. إنما هذه الحياة الرهبانية التي أسّسها القديس باخوميوس هي خالية من الابتداء ومن نذور عمومية ومن ركائز الديمومة والثبات. ولكن كان للرهبان زيّ خاص وكانوا يعيشون في العفّة والفقر والطاعة، ويلتزمون بالعمل اليدوي في الصمت وبالصلاة المشتركة صباحاً ومساءً وفي الليل، كما وكانوا يأكلون وقعتين في النهار ويصومون يوماً واحداً في الأسبوع. وهكذا، نرى أن رهبان القديس باخوميوس يؤلفون بيوتاً، ولكل منها رئيس، وللأديار المتجمعة رئيس عام. فقد كانوا يعيشون عيشة جماعية رهبانية، تمتاز بالطاعة. ونجد أن قانون عقوبات كان ينظّم أيضاً حياة أولئك الرهبان. وقد جمع القديس باخوميوس تلاميذه في دير كبير شيّده في تبنّذي (Tabennesi) ورسم له قوانين مستوحاة من الكتاب المقدس ومن أنظمة ليّنة نسبياً وطافحة بالتسامح. وهكذا، ومن خلال انضمامهم في الجمعية الواحدة نفسها، التزم جميع الأعضاء في هذه المؤسسة الجديدة أن يعتنقوا القوانين الجديدة ويمارسوا المساواة المطلقة في اللباس والغذاء والرقاد. وبالإضافة إلى الحياة في جماعة والمساواة في السلوك، أرسى باخوميوس أساساً لكل نسكٍ رهباني الطاعة لمقرراته وللأب الأباتي الذي كانت سلطته هي الأقوى وما من أمر يتم في الدير بدون إذنه. وهكذا وُلدت مع باخوميوس الحياة النسكية في جماعة وجُهِّزت بسرعة موسّعه بما فيه الكفاية. وكان المؤسس يعتبرها أسمى من حياة العزلة التي كان يشير بها على الرهبان الخطأة كحياة توبة. غير أن الجميع لم يشاطروا باخوميوس في الرأي. وبالرغم من النجاح اللامع لمثاله الأعلى الذي سيتفوّق في المستقبل، فحياة الاستحباس لم تتوقّف عن النمو في جانب الحياة النسكية الجماعية في مصر السفلى كما في مصر العليا. ثم أتى الانبأ باغول (Bgoul) يؤسس أولى جمعياته النسكية في ضواحي أغمين (Akhmin). وقد جهّز تلاميذه بقوانين القديس باخوميوس إنما كان أقل تسامحاً، إذ انه اعتبر حياة الراهب الباخومياني أكثر رخاوة. لذلك، فرض على خاصته قساوة أبرز في ممارسات التقشّف. إنّ هذا الإصلاح الذي نشده لم يتحقق فعلياً إلاّ بهمّة ابن أخيه شنودى (Shenouda).
أتى في ما بعد القديس باسيليوس (330 – 379) كمصلح للحياة الرهبانية. لم ينظر بعين الرضى إلى الحياة التوحديّة الصرفة ولا إلى الانفصال الكامل عن المجتمع البشريّ. فحين سُئلَ هل يجوز لراهبٍ مكوّنٍ على الحياة الديريّة أن يعتزل في الصحراء، أجاب: “إنّ في هذا علامة على الرغبة الشخصيّة، والأمر يبقى غريبًا على مَن يكرّمون الله”. الراهب في نظره هو قبل أي شيء هو مسيحي حقيقي، إنه يبحث عن ممارسة شريعة المحبة المسيحية في مظهريها حب الله وحب القريب، وأن يحيا حياة الإنجيل قانونه الوحيد الأوحد، بالطريقة الأكمل. توصلاً للهدف يشير باسيليوس إلى نظام النسك الجماعي، كصورة وصيغة مثلى لحياة الرهبنة. وأضاف فقال: “ألاحظ أن الحياة وسط جماعة عديدة هي مع كثير من الاحترام أفضل من حياة العزلة. إن الحياة بين الجماعة هي أفضل واسطة لممارسة الإنجيل على الوجه الأكمل”.
يُعتبر القديس باسيليوس مؤسس الحياة الرهبانية في الشرق والغرب أيضًا. ففي سنة 360، أسس ديراً في قيصرية الجديدة في مقاطعة البنطس وسنّ قوانين تختلف عن قوانين القديس باخوميوس. فقد رتّب جيداً معالم الحياة المشتركة والحياة النسكية. بالإضافة إلى ذلك، ينادي بأفضلية الحياة المشتركة على الحياة النسكية والمتوحدة، وهو لا يحبّذ النسك الزائد، فالشغل في نظره هو أهم الإماتات، ولذلك حسب قانونه لا يجب الصوم إذا تعارض مع العمل. وقد أمر في قوانينه أيضًا بخدمة الآخرين، ولذلك ضمّ إلى أدياره مستشفيات ومستوصفات ومياتم وبيوتاً للضيافة وجعلها تحت إدارة الرهبان أنفسهم. كما أنه أوصى بأن يقبل شبان ليس فقط ليصيروا رهباناً بل ليتربّوا تربية مسيحية صالحة. “إن القديس باسيليوس في تخطيطه للحياة الرهبانية أراد بعث روح جديدة فيها، ودفق الإصلاح الضروري في بعض أنظمتها. ولذلك اتّبع نهجاً فلسفياً، متدرجاً استوحاه من تفهّمه لحالة الإنسان ومن معرفته لطرق الحياة الرهبانية المختلفة ومن تعمّقه في درس أساليب الفلسفة اليونانية ليضع خطّة عريضة متكاملة للحياة الرهبانية التي هي أيضاً في نظره تتويج لحياة مسيحية ولرغبة ملحّة عند الإنسان للاتحاد بالله عز وجل. فليست هي طفرة عابرة، وليست هي نداءً عارضاً، بل هي اختيار منطقي، توصل إليها الإنسان بعد أن تفهم حسناً جمال الحياة الرهبانية وعرف ميزاتها الأساسية ورأى سمّوها على حياة الكمال الاعتيادية. إن الراغب في الحياة الرهبانية حسب القديس باسيليوس إنما هو فيلسوف باحث، ومكتشف أصيل لنداء الرب، وليس هو إنسان تعرّض لحماس أو خضع لتأثير حادث أو عامل خارجي”.
يتبع
لقراءة الجزء السابق، أنقر هنا: https://ar.zenit.org/2023/01/20/%d9%87%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d9%8a%d8%ad%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d8%aa%d8%aa%d9%81%d9%84%d8%b3%d9%81-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%8a%d8%a7%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%ad%d9%8a%d9%91-4/?fbclid=IwAR3JqM8oE2k_0sv0FTiextMaDI6qU4f1r9_dnS_Xw3agyMoSEOTvNe9M2Pk