Avatar

1

Articles par عدي توما

نموذج كتابيّ ونموذج تاريخيّ للحوار

لقد شبّه الكاردينال جون نيومن ، في السنة 1841 ، وضعَ الكنيسة بوضع يسوع الصبيّ الذي كان ” في الهيكل ، جالسًا بين العلماء ، يستمعُ إليهم ويسألهم ” (لوقا 2 : 46 ) . إنّ الكنيسة تنظرُ دائمًا إلى العقائد مِنحولها ، وتتفحّصها ، مُعترفة ً بما فيها من صواب ، ومُصحّحة ما فيها من خطأ ، ما يسمحُ لها بأن تفتح نظرها على الآخرين، وتوسّع آفاقها ، وتُطهّر تعليمها من بعض الشوائبْ . إنّ الحِوار المرجوّ ، في المنظر المسيحيّ ، لا يعني إطلاقا إعادة النظر في الهويّة الدينيّة ، بل إنّ دافعه هو أنّ المسيحيّ لا يستطيعُ ، باسم البشرى الخلاصيّة ، ألاّ يُبالي بالآخرين . والحوار المرجوّ يتطلّب من جميع المتحاورين ( الإستماع ) إلى الآخر المختلف ، وإلى ” سؤاله ” ، بروح منفتحة تعترف بما هو خيرٌ ، ذلك بإنّ الله ” لم يَـــفُتْه أن يؤدّي الشهادة لنفسه بما يعملُ من خير ” (رسل 14 : 17 ) ؛ كما أنّ الحوار قد يُثير لدى الآخر ما يستدعي السؤال . وإنّ هذا الثنائيّ ” الإستماع / السؤال ” الصادق والمتبادل بين الأطراف المتحاورة ، إنما يلهمه الله نفسه بابنه (الكلمة) ، وفي روحه (روح المحبّة) . 

كيف نفهم التناقض بين الكتاب المقدس والعلوم بشأن الخلق والتطور؟

طرحَ أحد الأخوة الأحباء هذا السؤال المهمّ
كيف نفهم تاريخ تطور الأرض .. . أي علميا عمر الأرض بملايين السنين .. لكن  دينيّا الأحداث بالكتاب المقدّس لا تتجاوز عمرها 6 او 7 الاف سنه . هو صحيحٌ  إن الهدف من الكتاب المقدس ليس علميا  . لكن هناكَ نوع من التناقض . كيف نفسّر هذه الفكرة ؟
الجواب بشكل ٍ مبسّط :
نعم ، الكتاب المقدّس ، بالدرجة الآولى ، ليس كتاب علم ، أو فيزياء ، أو بيولوجيا ، أو علوم الطبيعة بأنواعها . بإلهُنا لا يهمّه هذا الأمر ، بقدر ما يهمّه ” خلاصنَا ”  . ولقد وضعهُ كاملا مكمّلا في ” الأناجيل أو بالأحرى في الكتاب المقدّس ككلّ ” .  ما نحتاجهُ لخلاصنا ، نجده في الكتابْ. إنّ الله في الكتاب ، لا يريدُ إشباعَ فضولنا في معرفة كيفيّة خلق العالم ، والأرض والكون .. الخ . الكتاب المقدّس لا يجيبُ على سؤال العلم ألا وهو ” كيفَ ” ؟ .. كيفَ خلق الله العالم ، والكون ، والحيوانات والنباتات ، وأخيرًا الإنسان ! .. فهذا سؤالٌ علميٌّ بالدرجة الآولى ، ولا يجبُ أن نخلطه مع سؤال الإيمان الذي هو ” لماذا ” ؟ . لماذا الكون ، لماذا الحياة ، لماذا الإنسان … العلمُ لا يقدرُ أن يجيبَ على سؤال الــ ” لماذا ” هذا …! لإنه مختصّ بما هو له . ومن ناحية أخرى ، إختصاصُ الإيمان وسؤاله ” لماذا ” ، لا نقدرُ أيضا أن نخلطهُ بإختصاص العلم ” الكيفَ ” .. أكبرُ مثال على ذلكَ إن تطرّقنا لموضوع ” التطوّر ” أو نظريّة التطوّر . فهذه النظريّة علميّة .. وليس إيمانيّة .  موضوعها التطوّر البيولجيّ كيف تطوّر أوّل خلية ، إلى أنواع ٍ حيّة كثيرة ، من الحشرات والحيوانات وصولا إلى البرمائيّات وأخيرًا ، إلى الفكر والجهاز العصبيّ وبروز الدماغ والإستقلاليّة الذاتيّة وظهور الحريّة البشريّة .. طبعًا : هناكَ علماءٌ كثيرونَ تطرّقوا لهذا الأمر ، ووفّوا الموضوع حقّه منهم الأب العالم اليسوعيّ تيلار دي شاردان .. الذي تكلّم عن الروح الذي يعملُ من البدء في المادّة وصولا إلى إكتمالها . وهذا الأمرُ ، لا يتعارضُ أبدًا والإيمان الكتابيّ في الخلقْ . 

سلطة الحبّ .. وحقيقة الخلق

إنّ الله ، كما يقولُ الكتابُ المقدّس ،  ” خلقَ الإنسان على (صورته ومثاله) ” ، لكن هذه الصورة ، ليست كأيّة صورة عبثيّة ، فمن المؤكّد أنّ لها أساسٌ ، ألا وهي : أنّ الله خلقَ الإنسان على صورة ” الإبن ” .. أي ، ليست صورة فوتوغرافية جامدة في زمان ومكان محدّدين . بل إنّ أصل الإنسان هو ” مطلقٌ ” . وهذا ما تثبتهُ لنا كلمةُ ” مثاله ” ؛ فإن كانت الـ ” صورة ” تشيرُ إلى الختم المطلق والأساسيّ ( أي بالعقل – الحريّة – الحبّ – الإرادة ) ، فإنّ الـ “مثال” يشيرُ إلى الكمال والاكتمال Completion ، أو نستطيعُ أن نعبّر عنه بـ ” ديمومة Continuance  (أو تحقيق ) مستمرّ . وهذا ما يلمّح إليه الكتاب المقدّس أيضا بصورة ” التراب ” ، رمزيّة التراب . وهنا ، يجبُ أن نستبعدَ أيّ تشبيهات ٍ طفوليّة ، صبيانيّة هزليّة ، أو حتّى كارتونيّة تجعلُ منّا أناسًا سذجا ، متصوّرين بإنّ الله قامَ وأخذ ترابًا ، ومزجهُ بالماء ، وشكّل إنسانا ، ثمّ وبعدَ أن إكتملَ النحت والصنع ، نفخَ في منخريه ” الروح ” فصارَ الإنسانُ ” نفسًا حيّة ” . وكأنّ الخلق ، في هذه النظرة ، لا يخرجُ عن إطار الفكاهةِ والسذاجة والتصوّر الصبيانيّ المريض ، الذي لا يريدُ ، ولو قليلا ، أن يكسرَ حجابَ الإنغلاق العقليّ ، ويضعُ بدلا منهُ ، البصيرة والإنفتاح ، وإدراك الأمور بطريقةٍ أكثرَ جدّية وصدقيّة .