أبوّة الله .. أبانا الذي في السماوات

الصلاة الربيّة 7

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

من المفيد ، قبل أن نتّخذ لأنفسنا هذه الإنطلاقة الآولى من الصلاة الربيّة أن نُطهّر قلبنا بتواضع من بعض التصوّرات الخاطئة في هذا العالم . و ” التواضع ” ، يجعلنا نعترف بإنه ” ليس أحدٌ يعرفُ الآب إلا الإبن ، ومن يريد الإبنُ أن يكشف له ” ، أي للأطفال (متى 11 : 25 – 27 ) . وتطهيرُ القلب يتعلّق بتصوّرات الأبوّة والأمومة المأخوذة من تاريخنا الشخصيّ والثقافيّ والتي تؤثّر في علاقتنا بالله . أبونا ” الله ” ، يسمو على كلّ تصنيفات العالم المخلوق . ” الصلاة إلى الآب هي الدخول في سرّه ” .

عندما نقول أبا ” نا ” ، نعترف بإنّ وعود محبّته جميعها التي أعلنها الأنبياءُ قد تمّت في العهد الجديد والأبديّ ” بمسيحه ” . لقد صرنا شعبــ “ــه ” ، وصار هو منذ الآن فصاعدًا أبا ” نا ” . وهذا أمرٌ جديد أتى به يسوع وحده ..!

الأبوّة .. إلهُ الوحي ، هو إلهٌ إنسانيّ يتكلّم لغة البشر . لذلك ، فالكلمة الأصليّة ” أب ” هي الكلمة الأساسيّة في الوحي الكتابيّ . يقول الكاردينال كاسبر  :” إنّ سَبَبي تاريخ الديانات ، السبب النَسبيّ – الأسطوريّ ، والسبب الإجتماعيّ – القانونيّ ، اللذين كانا في أساس الإستعمال الدينيّ لمفهوم  الأب ، قد جعلا حقا من العسير على الكتاب المقدّس الأستعانة به ، إذ إنّ إله الكتاب المقدّس ليس هو فقط بُعد الحقيقة في العمق ، بل ربّ التاريخ الحرّ “.  لهذا ، فالله الآب ، ليس هو مصدرًا فقط ، أو حضورًا ؛ بل هو مستقبل – إله في التاريخ . مع يسوع فقط ، وفي العهد الجديد  المدهش ، تصبح تسمية الله المألوفة هي : الآب . فيسوع يعطيه معنًى جديدًا مغايرًا للمفهوم القديم ، ويكونُ الآب مع يسوع الإبن ، أمامنا لا خلفنا ! . وتسمية الله كــ ” آب ” عند يسوع ، تقعُ في إطار ما هو في قلب وأفق كلّ كلامه ومظهره : رسالة مجيء ملكوت الله (سنرى تعبير ملكوت الله لاحقا ) .

فحقيقة الآب ، ليس إذن حقيقة عامّة طبيعيّة ، كما في الرواقيّة ، بل هي حقيقة ” كاشفة ” تاريخيّة متّصلة بالإبن . فالإبن وحده ، صار هو الكشف عن أنّ الله ، هو أب لجميع البشر الذي يجعل شمسه تشرق على الأشرار والفجّار .

خلال مسيرة يسوع العلنيّة ، أي بعد العماد وتجربة البريّة ، نرى واضحًا  جدّا ، في صفحات الإنجيل ؛ أنّ هدف يسوع الأساسيّ هو الكشفُ عن ” أبوّة الله ( الآب ) لتلاميذه . وهذا سيكونُ صعبًا عليهم وعلى عقولهم ومداركهم  ، ليس هذا فقط ، بل هو صعبٌ على يسوع ذاته في إيصاله لنا سرّ الآب . سيكونُ الكشف هذا على حساب موته . سنرى الأبوّة هذه ، التي أرادَ يسوع كشفها وإظهارها لرسله ولنا جميعًا .

يقالُ : إنّ الله واحدٌ ، لكنّه لا يحيا في العزلة .. هذا ما كشفه لنا يسوع ؛ فالحبّ ليس عزلة ، ولولاه لما وُجد الإنسان ، ولما تمّ الخلاص . في عمق أعماق الله ، هناك ” إتصالٌ حميمٌ وشَرِكة وإقتسام وعلاقة ” . يسوع إعتمدَ على ما ورثه من شعبه في نظرته لله ، وأخذ بيد التلاميذ يعطيهم أسس الأبوّة والبنوّة : الآب .. من هو هذا الآب ؟ طبيعتنا البشريّة تعرّفنا على الأبوّة البشرية وكيف تعملُ هذه الأبوّة ، فالأبوّة أوّلا هي : إنجابٌ ، أي أنّ هذا الأب أنجبني أنا ، وأوجدني في الحياة ، لكن عندما أكبرُ ، سأصيرُ صبيّا ومراهقا ، وسأكتشفُ من هم حولي ، وأنّ أبي (المُنجِبْ ) ليس هو المطلق عندي والأساس وكأنه هو وحده في الوجود ، بل هناك شخص آخر يمكن أن يكونَ ( العمّ أو الخال ) . إذن ، هناكَ مرحلةٌ ثانية من الأبوّة ألا وهي : الإعالة (المُعيل لي – قد يكون العمّ أو الخال ) . وعندما أصبحُ شابّا ، أو في المرحلة التي ما بعد فترة المراهقة ، ستُعطى الاوامر والنصائح والوصايا من : الممدرّس أو من الأكبر مني سنّا في الحياة بعيدًا عن العمّ – الخال . قد يكونُ لدينا هنا ثلاثة أشكال ٍ من الأبوّة :

1-    المُنجِبْ

2-    المُعيل

3-    التربية ( الوصايا ) .

هذه الأشكال الثلاثة من الأبوّة ، نستطيعُ أن نراها في العهد القديم في شخص الله .. فهو : أوّلا : خالق – منجبْ . ثانيًَا : رازق – مُعيل ( يا فتّاح يا رزّاق ) . وثالثا : أبو الوصايا ( المربّي الذي يعطي الوصيّة والنصائح والتعاليم ) . هذه الانواع الثلاثة موجودة في العهد القديم وسائرة مع الأنبياء (إلى حدّ ما ) ، لكن هل يسوعُ أرادَ  ، وكشف لنا هذه الأبوّة !؟ وهل قصد نوعًا من هذه الأنواع الثلاثة في العلاقة مع الله .. صراحة : الجواب كلا . ما هي الأبوّة التي كشفها لنا يسوع ؟

خلال حياته الأرضيّة مع التلاميذ ، كانوا يظنّون أنّ يسوع إبن الله فقط ، من خلال هذه الأشكال الثلاثة ؛ فالرسل لم يكتشفوا يسوع على حقيقته إلا بعدَ أن ماتَ وقام . يقول يسوع ” أنا صاعدٌ إلى أبي وأبيكم … ” يسوع يتكلّم مع الله بطريقة ٍ خاصّة به فيها ( جسارة ودالّة ) بينما الرسل وحتى اليهود ، يخافون أن ينطقوا بإسمه .. !  يسوع يكشف لنا ” الأبوّة الرابعة المدهشة ” ، لكنّها صعبةٌ على الرسل وصعبةٌ علينا الآن ، لإنها تدخلُ في سرّ الصليبْ – الألم !. وتحتلّ المسؤوليّة المكان الأوّل في العلاقة . الإبن الناضج المُدرِك الواعي ، سيكونُ مسؤولا عن عائلته وعن أبيه البشريّ وعن العالم ، سيأخذ خبرة أبيه ويعملُ في الحياة ، وهناكَ ” مخاطر – عزلة – آلام – مطبّات – تمزّق – موت ” .  الإبن هو إبنُ المستقبل . ويسوع هو هذا الكائن الذي وضع الله في ” المستقبل – أمامنا ” . الآب هو الأصل والأساس . ويقول يسوع ” من رآني فقد رأى الآب .. ” . أي مَنْ عاش البنوّة الحقيقيّة ، عرفَ الآب الحقيقيّ ( الصليبْ – سرّ الألم المجانيّ – المحبّة المطلقة ) كاشفة لسرّ الإبوّة الإلهيّة . فوق الصليب فقط
، كُشفت لنا الأبوّة الحقيقيّة .

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير