والسؤال إذن: ما هو ذلك المعنى؟

قبل معرفة جواب سكاتولين يلزم لفت الانتباه إلى التباين القائم بينى وبينه فى ترجمة المصطلح الإنجليزى وهو Globalization هو يتبنى الترجمة الشائعة وهى «العولمة»أما أنا فملتزم بجذر المصطلح الإنجليزى وهو Globeويعنى كوكب الأرض، وأصله اللاتينى Globus يحمل نفس المعنى. أما مصطلح العولمة فمشتق من لفظ العالم الذى يعنى جملة الكواكب والنجوم. وبناء عليه يكون من المشروع إشاعة مصطلح الكوكبية واستبعاد مصطلح العولمة.

وفى رأى سكاتولين أننا نحيا فى عصر الكوكبية وما يميزه هو السوق الكوكبية التى تتسم بإلغاء الحدود الثقافية والاجتماعية والسياسية. وهذا الالغاء بدوره يُفضى إلى ثقافة كوكبية تفكك الخصوصيات ومن بينها المؤسسات الدينية، ولكن الأخطر من ذلك هو تفكك الانسان وإحالته إلى انسان آلى أى «روبوت». ومن هنا يؤسس سكاتولين علاقة بين الكوكبية والروبتية، ويكون من شأن هذه العلاقة سقوط القيم الانسانية وصعود البربرية. ومع صعودها تعود البشرية إلى روح القبيلة بهدف المحافظة على الهويات الخاصة التقليدية.

ومع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار: ما أصل الروبتية؟ جوابى على هيئة قصة جديرة بأن تُروى وأنا أنقلها من كتابى المعنون «فلسفة الابداع» ( 1996): فى الثلاثينيات من القرن العشرين فى كمبريدج ما ساشوستس بأمريكا كان يجتمع فريق من العلماء مرة كل شهر برئاسة عالم الفيزياء المكسيكى أرتورروزنبلوث ثم انضم إليهم عالم الرياضة الأمريكى نوربرت وينر. وكان الرأى السائد أن ثمة تناقضاً بين العلوم الرياضية والعلوم البيولوجية الأمر الذى أدى إلى سيادة رؤية تجزيئية للعلوم. وكان السؤال: هل فى الامكان رفع هذا التناقض؟ وحاول هؤلاء العلماء رفع هذا التناقض فارتأى كل من روزنبلوثووينر أن الآلات قد تكون فى عملها مماثلة للجهاز العصبي. وقد تسهم نظرية الاتصالات فى دراسة دماغ الانسان، وبذلك تتداخل العلوم البيولوجية والعلوم الرياضية فتنشأ عن ذلك «علوم بينية». وقد كان فأصدر وينر كتاباً يصف فيه علماً جديداً أسماه«السيبرنطيقا: التحكم والاتصال فى الحيوان والآلة» (1948). ولفظ سيبرنطيقا مشتق من اللفظ اليونانيKubernetesويعنى ربان السفينة. ولفظ «الحاكم» Governerمشتق من نفس الجذر اليوناني. وقد صك وينر هذا المصطلح لسببين: السبب الأول مردود إلى بحث للعالم الفيزيائى جيمس كلارك مكسويل بعنوان نظرية «الحكام» ويتناول التنظيم الذاتى أو ميكانزم التحكم Feedback mechanism . وكان جيمس وات ـ مخترع الآلة البخارية- قد أطلق لفظ «الحكام» على ميكانزم التحكم. والسبب الثانى مردود إلى أن ميكانزم قيادة السفينة هو أفضل ميكانزمات التحكم. وبفضل السيبرنطيقا تمت صناعة الكومبيوتر. وفى عام 1982 ظهر على غلاف مجلة التايمز عنوان مثير«انسان عام 1982». ولم يكن انساناً بل آلة تسمى الكومبيوتر تنبئ بثورة هى ثورة الكومبيوتر وتدور على صناعة «عقل صناعي» يدلل ويبرهن. وبفضل هذا العقل نميز بين المعلومات والمعرفة من حيث إن المعرفة هى معلومات صيغت وأُولت وأحدثت تأثيراً فى الواقع.وبهذا المعنى قيل إن المعرفة قوة، وهو قول سبق أن قاله الفيلسوف الإنجليزى فرنسيس بيكون فى القرن السابع عشر، ولكنه قول لم يتجسد إلا فى ثورة الكومبيوتر، وبذلك أصبحت المعرفة قوة انتاجية تحدث تأثيراً فى قوى الانتاج إذ اصبحت قوة رابعة بالإضافة إلى القوى التقليدية الثلاث للإنتاج وهى الأرض ورأس المال والعمل. وفى تقديرى أن العمل فى ضوء مقولة «المعرفة قوة» هو العمل العقلي، وبالتالى يكون عمال المستقبل عمالاً عقليين أو معرفيين، ومن ثم يمكن القول بأن«المعرفة تحكم» .

خلاصة القصة التى رويتها أن العلوم البينية وثورة الكومبيوتر وقوة المعرفة تكشف عن منطق جديد هو «منطق الابداع». وهو منطق يتسق مع خاصية الانسان الأساسية وهى أنه حيوان مبدع. وبفضل هذه الخاصية تمكن الانسان من ابتداع التكنيك الزراعى والذى بفضله نشأت الحضارة الزراعية التى هى بداية الحضارة الانسانية والتى تطورت إلى أن وصلنا إلى الحضارة الكوكبية بما فيها الانسان الآلى الذى بفضله استعاد الانسان خاصيته المبدعة. وتأسيساً على ذلك يمكن القول إن الأب سكاتولين لم يكن موفقاً فى انزعاجه من الكوكبية ومن الروبتية وفى تشاؤمه من حدوث ردة بربرية، بل يكون موفقاً إذا ارتأى أن البربرية واردة من الأصوليين الذين يعادون هذا المسار الكوكبى للحضارة الانسانية. وأنا أريده أن يكون موفقاً حتى نكوَن جبهة كوكبية للقضاء على البربرية. والفقرة الأولى من بحثه الذى ألقاه فى مؤتمر الجمعية الفلسفية المصرية فى عام 2013 تشى بإمكان تكوين هذه الجبهة. فعنوان بحثه «العلمانية والأصولية فى فكر مراد وهبه». قال: «يُعد الدكتور مراد وهبة من أبرز مفكرى العرب ومن أشد أنصار فكر العلمانية فى العالم العربى وله فى ذلك سجل حافل من المؤلفات والمحاضرات والمقالات. ولا شك أنه يستحق التقدير الذى يحاط به رغم المعارضة العنيفة المعلنة عليه من طرف الذين يدينون فكره بحجة أنه مخالف لبعض الآراء الدينية التقليدية. وأظن أنه هو أيضاً مخالف. كيف؟