يمكننا منذ الآن أن نقول إنّ الروح القدس هو وجه الله الأكثر غموضـــًا وصعوبة على الفهم . لأننا إن كنّا نعرفُ الآب من العهد القديم وعمله وصوره ورحمته ، وفي بعض الأحيان ، يصوّره النصّ قاسيًا وعادلا وقاضيًا ، وإن كنّا نرى صورة الابن في الأناجيل المقدّسة والرسائل ، فإنّ الروح القدس ، وإن كان سفر أعمال الرسل (الذي هو سفر الروح القدس ) ، يتكلّم عنه ، لكنّه يبقى غامضًا ، إلى حدّ أن أحدهم أراد أن يشتريه بالمال !

السبب في ذلك لربّما في عدم وضع اليد عليه وتمكّننا الفهم ، هو لأنه لا يخضعُ لذلك . لا يخضع للدراسة المختبريّة والتحليليّة والتجريبيّة ، ولا يخضعُ أيضا للعقل البشري ، فإنه هو مفتاحُ الفهم والإدراك والإستيعاب . إنه هو محرّكنا نحو الآب والابن ونحو العالم . إنه هو حركة الإيمان ، وحركة الاشتراك في حياة الاب والابن .

نرى يسوع يتكلّم كثيرًا ، في الأناجيل ، عن الآب وحنانه ورحمته ، وفي بعض الأحيان ، عن طبيعته . لكنه لا يقول الشيء الكثير عن الروح القدس إلا في إنجيل يوحنّا . وأعتقد من جهتي ، أنّ الإنقسامات الكثيرة التي حصلت في الكنيسة بخصوص الابن والآب والعلاقة بينهما وقضيّة الانبثاق ، هو عدم فهمهم دور الروح القدس " المجهول الأكبر " !.

يعطينا سفرُ حزقيال دروسًا لاهوتيّة للروح القدس ، لا بل نستطيع أن نقول مع  هنري كازيل ، أنّ حزقيال يعطينا " لاهوت الروح " . كيف ؟

كان نبيّ الروح الكبير . كان الأنبياء قبله رجال الكلمة ، فلم تكن هناك أيّ دعوة نبويّة تحت تأثير الروح . إنّ ميخا ، الذي كان نبيّ الملك حزقيا وشارك في الإصلاح الذي قام به ( إر 26 : 28 ) ، شارك أيضا في روح عدالته ، وشجاعته ، لينبئ إسرائيل بجرائمه (مي 3 : 8 ) . وبعد زوال الملكيّة ، كان حزقيال نبيّ الروح ، الذي " وقع عليه " ، و " عمره " ، و " حمله " ،  و " نقله " . باسم إله اسرائيل ، أمر الروح " رُواح " ، الذي أتى من جهات العالم الأربع (جمع رواح ) ، بإعادة الشعب عن طريق إحياء العظام اليابسة (37) . لم يسمّه أولا الروح القدس ، كما أنه لم يطلق على شعب الله الجديد صفة القدّوس (حز 40 : 48 ) . ولكن هكذا سمّاه المزمور 51 ، المــَدين كثيرًا لحزقيال . وهناك  أفضل من ذلك ، وهي الفصول 56 - 66 من سفر أشعيا ، حين آخذ المعادون إلى وطنهم يعودون (أش 56 : 8 ) . هذا وإنّ الملاك الذي كان يرافق الشعب العبرانيّ في البريّة كان يسمّى الروح القدس في أش 63 : 10 . يقال للروح أنه قدّوس ، كما أن الله هو قدّوس ، وكما أن الشعب يجب أن يكون قدوسا (تث 7 : 6 ) . ولكن ، عند حزقيال ، يبقى ذلك الروح من يُنعِش الكون في جميع أجزائه ويشدّ أواصره .

الروح القدس ، كما الآب والابن في جوهر الوحدانيّة الثالوثيّة ، هو " شخص - أقنومٌ عاقل " وليس مجرّد هواء وأثير ! إنه الله ذاته وليس جزيئة من الله ! الآب هو الله ، الأبن هو الله ، الروح القدس هو الله .

يقول جوزيف راتسنجر في كتابه (مدخل إلى الإيمان المسيحيّ ) :  إن نصّ قانون الإيمان المسيحيّ يقول بحسب النصّ اليونانيّ الأصليّ :" أؤمن بروح قدس ... " من دون أل التعريف ، وهذا يعطينا فكرة أنّ الذي يقصده التعبير هذا ، لا يحيلُنا إلى الحياة الداخليّة لله ، الأقنوم الإلهيّ الثالث ، بل إلى الروح القدس من حيث هو هِبةٌ من الله لتاريخ العالم عبر جماعة المؤمنين بالمسيح . إنه يقصد الله المتّجه " إلى الخارج " وعلى الروح القدس من حيث هو قوّة يبقى الربّ الممجّد بفضلها حاضرا وسط تاريخ العالم كمبدإ تاريخ جديد وعالم جديد .

الروح هو حياة الجماعة الحقيقيّة المؤمنة بالمسيح ، يشدّها مع بعضها البعض ويرفعها كباقة ورد معطّرة بمحبّة الآب والابن ، إلى السماويّات . لا يمكننا أن نشرحَ مَن هو الروح القدس للآخرين .. لأنه " خبرة عميقة " ، ولأنه هو الذي ، يعطينا العلاقة الحقيقيّة بيننا وبين الله بالإبن لخدمة الجماعة البشريّة .

يتبع