أيها الإخوة الأعزاء في الأسقفية،
أيها الكهنة والإخوة والأخوات الأعزاء في الرب!
لا أستطيع إيجاد الكلمات للتعبير عن فرحي، لتواجدي هنا للاحتفال بالافخارستيا، بمناسبة افتتاح المؤتمر العام الخامس للمجالس الأسقفية في أمريكا اللاتينية والكاراييب. أوجه لكل منكم أحر تحياتي القلبية، وبوجه خاص إلى رئيس الأساقفة رايموندو داماشينو أسيس، الذي أشكره لكلمات الترحيب التي وجهها إلي باسم الجماعة كلها، وإلى الكاردينال فرانسيسكو خافيير إيرازويز أوسا، رئيس المجالس الأسقفية في أمريكا اللاتينية والكاراييب ونائب رئيس هذا المؤتمر العام.
أحيي السلطات المدنية والعسكرية التي تشرفنا بحضورها. ومن هذا المعبد أوجه أفكاري ، المملوءة عطفًا وصلاةً إلى جميع الذين يتحدون معنا بالروح، وبوجه خاص جماعات الحياة المكرسة، والشبان الملتزمين بالحركات والجماعات، وإلى العائلات، والمرضى والمسنين. لكم جميعًا أقول: “شكرًا لكم وسلام من الله أبينا، وأبي يسوع المسيح” (1 كور 1، 3).
أعتبر الاحتفال بالقداس في هذا المكان وفي هذا الوقت، عطية خاصة من العناية الإلهية. فالزمن هو الزمن الليتورجي الفصحي الذي وصل إلى الأحد السادس: لقد باتت العنصرة قريبة، والكنيسة مدعوة إلى تكثيف للدعاء للروح القدس. والمكان هو المزار الوطني للسيدة العذراء أباريثيدا، قلب البرازيل المريمي: تستقبلنا مريم في هذه “العلية”، وكأم ومعلمة، تساعدنا لكي نرفع إلى الله صلاة واثقة بقلب واحد.
يشكل هذا الاحتفال الليتورجي القاعدة الأكثر متانة للمؤتمر الخامس، لأنه يضع في أسسه الصلاة والافخارستيا، سر المحبة (Sacramentum caritatis).
بالواقع، وحدها محبة المسيح، التي يفيضها الروح القدس، يمكنها أن تجعل من هذا اللقاء حدثًا كنسيًا أصيلاً، وزمن نعمة لهذه القارة وللعالم أجمع.
مساء اليوم، ستسنح لي فرصة التبحر في الموضوعات التي يوحي بها المؤتمر. أما الآن، فلنفسح المجال لكلمة الله، التي يسعدنا أن نتقبلها اقتداءً بمريم، سيدة الحبل بلا دنس، بقلب منفتح وطيع، لكي، بقوة الروح القدس، يتمكن المسيح أن “يأخذ جسدًا” في زمننا الحالي.
تتحدث القراءة الأولى، المأخوذة من كتاب أعمال الرسل، عن ما يعرف بـ “مجمع أورشليم”، الذي تطرق إلى معالجة المسألة التالية: هل يتوجب على الوثنين الذين أصبحوا مسيحيين أن يحفظوا وصايا موسى؟
يُغفل النص النقاش الذي جرى بين “الرسل والشيوخ” ( الآيات 4- 21)، ويعرض النقاش الختامي، الذي تتم كتابته في رسالة تُسلم إلى مندوبين لنقلها إلى جماعة أنطاكيا (الآيات 22 – 29).
هذه الصفحة من كتاب أعمال الرسل تناسبنا جيدًا نحن المجتمعين هنا للقاء كنسي. تذكرنا بمعنى التمييز الجماعي حول المسائل الكبرى التي تواجهها الكنيسة في مسيرتها والتي يقوم بتوضيحها “الرسل” و “الشيوخ” بنور الروح القدس، الذي، كما يقول لنا إنجيل اليوم، يذكرنا بكل تعاليم يسوع المسيح (راجع يو 14، 26) ويساعد بالتالي الجماعة المسيحية في المسير على دروب المحبة نحو الحقيقة الكاملة (راجع يو 16، 13).
يناقش رؤساء الكنيسة ويقابلون آراءهم، ولكن دومًا بروح إصغاء ديني لكلمة المسيح في الروح القدس. لذا يمكنهم في النهاية أن يقولوا: “لقد حَسُنَ لَدى الرُّوحِ القُدُسِ ولَدَينا…” (رسل 15، 28).
هذا هو “النهج” الذي نتبعه في عملنا في الكنيسة، في الجماعات الصغيرة والكبيرة. ليس الأمر مجرد مسألة إجراءات وأسلوب؛ هو انعكاس لطبيعة الكنيسة ذاتها، كسر شركة مع المسيح بالروح القدس.
وفي ما يتعلق بالمؤتمرات العامة لأساقفة أمريكا اللاتينية والكاراييب، اغتنى المؤتمر الأول برسالة أرسلها البابا بيوس الثاني عشر الطيب الذكر؛ وفي المؤتمرات اللاحقة، وصولاً إلى المؤتمر الحالي، كان أسقف روما يأتي إلى مقر اللقاءات القارية لكي يترأس المرحلة الأولية.
لنوجه أفكارنا بعرفان وإكرام إلى خادمي الله بولس السادس ويوحنا بولس الثاني، الذين حملا إلى مؤتمرات ميديلين، بويبلا، وسانتو دومينغو شهادة قرب الكنيسة الجامعة من الكنائس المتواجدة في أمريكا اللاتينية، التي تشكل من حيث النسبة، القسم الأكبر من الجماعة الكاثوليكية.
“الروح القدس ونحن”. هذه هي الكنيسة: “نحن”، جماعة المؤمنين، شعب الله مع رعاته المدعويين إلى هدايته في السبيل؛ “مع الروح القدس”، روح الآب الذي أرسل باسم الابن، روح ذلك الذي هو “أكبر” من الجميع، والذي أعطي لنا بالمسيح، وقد صار “صغيرًا” لأجلنا. الروح الباراقليط، المدافع والمعزي. هو يجعلنا نعيش بحضرة الله، وفي الإصغاء لكلمته، متحررين من القلق ومن الخوف، بقلب ينعم بالسلام الذي تركه لنا يسوع والذي لا يستطيع العالم أن يعطيه لنا (راجع يو 14، 26- 27).
يرافق الروح القدس الكنيسة طوال مسيرتها التي تمتد من مجيء المسيح الأول حتى مجيئه الثاني؛ فقد قال يسوع لتلاميذه: “أذهب، ثم أعود إليكم” (يو 14، 28).
بين “ذهاب” المسيح و “عودته” هناك زمن الكنيسة، التي هي جسده؛ لقد مر 2000 عام حتى الآن؛ وهناك أيضًا 5 قرون، عاشت فيها الكنيسة كحاجّة إلى الأمريكيتين، تفيض في المؤمنين حياة المسيح عبر الأسرار، وتوزع في كل الأرض بذر الإنجيل الصالح، الذي أعطت كل بذرة منه ثمارًا: بعضها ثلاثين، بعضها ستين وبعضها الآخر مائة.
زمن الكنيسة، زمن الروح: هو المعلم الذي يعد التلاميذ: يجعلهم متيمين بيسوع؛ ويربيهم على الإصغاء لكلمته وعلى التأمل بوجهه؛ يجعلهم مماثلين لإنسانيته الطوباوية، الفقيرة بالروح، الم
تألمة، الوديعة، الجائعة إلى البر، الرحيمة، النقية القلب، الساعية إلى السلام، والمضطهدة لأجل البر (راجع متى 5، 3- 10).
وهكذا، بفضل عمل الروح القدس، يصبح يسوع “الطريق” التي يسير عليها التلميذ. يقول يسوع في مطلع نص إنجيل اليوم: “إذا أحبني أحد حفظ كلمتي” و “الكلمة التي تسمعونها ليست مني، بل من الآب الذي أرسلني” (يو 14، 23- 24).
وكما نقل يسوع كلمات الآب، كذلك الروح القدس يذكر الكنيسة بكلمات المسيح (راجع يو 14، 26).
وكما أن المحبة للآب كانت تحمل يسوع على التغذي من إرادته، كذلك نحن نبرهن عن حبنا ليسوع عبر الطاعة لكلماته.
بامكان أمانة يسوع لإرادة الآب أن تنتقل إلى التلميذ بفضل الروح القدس، الذي يفيض محبة الله في قلوبنا (راجع روم 5، 5).
يقدم لنا العهد الجديد يسوع كالمرسل من الآب. بوجه الخصوص في إنجيل يوحنا، يخبر يسوع عن ذاته في علاقته مع الآب الذي أرسله على العالم. وهكذا أيضًا في نص اليوم، يقول يسوع: “إن الكلمة التي تسمعونها ليست مني بل من الآب الذي أرسلني” (يو 14، 24).
في هذه اللحظة، أيها الأصدقاء الأعزاء، نحن مدعوون إلى الشخوص بأنظارنا إليه، لأن رسالة الكنيسة تقوم فقط بقدر ما هي امتداد لرسالة المسيح: “كما أرسلني الآب، هكذا أنا أيضًا أرسلكم” (يو 20، 21).
ويشير الإنجيلي بشكل واضح إلى أن هذا الأمر يتم في الروح القدس: “نفخ فيهم وقال: “خذوا الروح القدس…”” (يو 20، 22).
لقد تمت رسالة يسوع في الحب. لقد أضرم في العالم نار محبة الله (راجع لو 12، 49).
هو الحب الذي يهب الحياة: لذا تُرسل الكنيسة لكي تنشر في العالم محبة المسيح، لكيما تكون للبشر وللشعوب “الحياة وتكون لهم بوفرة” (يو 10، 10).
إليكم، اليوم أيضًا، أنتم الذين تمثلون كنيسة أمريكا اللاتينية، أسلم مثاليًا رسالتي العامة “الله محبة”، التي أردت بها أن أدلّ الجميع على جوهر الرسالة المسيحية.
تشعر الكنيسة بأنها تلميذة ومرسلة هذا الحب: مرسلة فقط بقدر ما هي تلميذة، أي قادرة أن تترك لله أن يجذبها دومًا، مستسلمة بعجب متجدد لذاك الذي أحبنا ويحبنا أولاً (راجع 1 يو 4، 10).
الكنيسة لا تسعى إلى استعمال حيل لرد الناس، بل إنها تنمو بواسطة “الجاذبية”: فكما “يجذب المسيح الكل إلى ذاته” بقوة حبه، الذي بلغ الملء في ذبيحة الصليب، كذلك الكنيسة تكمل رسالتها بقدر ما تقوم، مرتبطةً بالمسيح، بكل أعمالها بالمطابقة الروحية والعملية مع محبة سيدها.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء! هذا هو الكنز الفائق القدر الذي هو غنى قارة أمريكا اللاتينية، هذا هو الميراث الأثمن: الإيمان بالله المحبة، الذي كشف لنا في يسوع المسيح عن وجهه. أنتم تؤمنون بمحبة الله: وهذه هي قوتكم التي تربح العالم، الفرح الذي لا يمكن لشيء أو لأي كان أن ينزعه منكم، السلام الذي حازه المسيح بصليبه!
هذا هو الإيمان الذي جعل من أمريكا “قارة الرجاء”. ليس إيديولوجية سياسية، ليس حركة اجتماعية، ليس نظامًا اقتصاديًا؛ هو الإيمان بالله الذي هو محبة، المتجسد والمائت والقائم في يسوع المسيح، الركيزة الأصيلة لهذا الرجاء الذي حمل ثمارًا رائعة، من زمن التبشير الأول حتى اليوم، كما تشهد لنا طغمات القديسين والطوباويين الذين أقامهم الروح في هذه القارة.
لقد دعاكم البابا بوحنا بولس الثاني إلى التبشير الجديد، وقد تلقيتم دعوته بالسخاء والالتزام اللذين يميزانكم. وأنا أثبت لكم هذه المهمة بكلمات المؤتمر الخامس، فأقول: “كونوا تلاميذ أمناء، لكي تكونوا رسلاً شجعانًا وفعالين”.
لقد قدمت لنا القراءة الثانية رؤية أورشليم السماوية الأخاذة. إنه صورة رائعة الجمال، لا تحتوي على أي زخرفة، ومع ذلك كل شيء يسهم في اكتمال تناغم المدينة المقدسة.
يكتب يوحنا الرائي أن المدينة “كانت نازلة من السماء، من لدن الله، متألقة بمجد الله” (رؤ 20، 10). ولكن مجد الله هو الحب؛ لذا فأورشليم السماوية هي أيقونة الكنيسة الكلية القداسة والممجدة، والتي لا دنس فيها ولا تغضّن (راجع أف 5، 27)، والمشعة من محورها وفي كل أنحائها بفضل حضور الله المحبة.
هي تدعى “عروسًا”، “عروس الحمل” (رؤ 20، 9)، لأنه فيها تكتمل صورة العرس التي تجتاز الوحي الكتابي من أوله لآخره.
المدينة العروس هي موطن الشركة الكاملة بين الله والبشر؛ لا حاجة فيها لأي هيكل ولا لأي مصدر نور خارجي، لأن الله والحمل حاضران فيها، وهما ينيرانها من الداخل.
هذه الأيقونة الرائعة لها قيمة إسكاتولوجية: تعبّر عن سر الجمال الذي يشكل “منذ الآن” بنية الكنيسة مع أنه لم يصل “حتى الآن” إلى ملئه.
إنها غاية حجِّنا، الوطن الذي ينتظرنا والذي نشتاق إليه. والنظر إليه بعيون الإيمان، والتأمل به والاشتياق إليه، لا يجب أن يكون بأي شكل دافعًا للهروب من الواقع التاريخي الذي تعيش فيه الكنيسة مشاركة في فرح ورجاء، ألم وأحزان البشرية المعاصرة، وخصوصًا الفقراء والمعذبين (فرح ورجاء، 1).
إذا كان جمال أورشليم السماوية هو مجد الله، أي حبه، هذا يعني انه فقط عبر المحبة، يمكننا أن نقترب منها، وإلى حد ما أن نقيم فيها. من يحب الرب يسوع ويحفظ كلمته ويختبر منذ الآن، في هذا العالم، حضور الله السري، الواحد والثالوث، كما سمعنا في الإنجيل: “نأتي إليه ونقيم عنده” (يو 14، 23).
لذا فكل مسيحي مدعو إلى أن يصبح حجرًا حيًا في هذا المسكن الرائع “مسكن الله مع البشر”. يا لها من دعوة عظيمة!
إن كنيسة تحركها بكليتها محبة المسيح، الحمل المذبوح حبًا، هي الصورة التاريخية لأورشليم السماوية، وعربون المدينة المقدس
ة، المتألقة بمجد الله.
إنما هي تشع بقوة إرسالية لا تقاوم، وهي قوة القداسة.
لتنل العذراء للكنيسة في أمريكا اللاتينية والكاراييب أن تلبس فيض قوة من العلاء (راجع لو 24، 49) لكي تشع في القارة وفي كل العالم قداسة المسيح. له المجد والآب والروح القدس إلى دهر الداهرين. آمين.
ترجمة وكالة زينيت العالمية (zenit.org)
حقوق الطبع 2007- مكتبة النشر الفاتيكانية