“لن اترككم يتامى”
“اليوم عيد العنصرة، أي عيد حلول الروح القدس على التلاميذ في علية صهيون. والروح القدس هو الأقنوم الثالث من الأقانيم الثلاثة التي هي الآب والابن والروح القدس. وعمل الروح القدس في النفوس عمل له تأثير كبير. فنحن بنعمته نتبرر في العماد، ونمارس الفضائل الالهية: الايمان والرجاء والمحبة، التي تدل على وجوده فينا، فهو الذي يلهم المؤمن فعل الخير، وهو معلم الحياة الروحية، ويمدنا بالقوة لنسير في الطريق التي رسمها لنا يسوع المسيح. وهو يعمل فينا لكي نتقيد بالسير على الطريق التي رسمها لنا. وهو يقودنا الى التمسك بحقيقة الحياة الأدبية. لنسأل الله الآب أن يرسل الينا روحه القدوس ليجدد وجه الأرض، فنشعر بأننا لسنا يتامى.
ونواصل الحديث عن الخيار الحر فنرى أن الله خلقنا على مثاله، أي كائنات حرة، وفي استطاعتنا في التالي أن نفعل الخير، وأن نفعل الشر، وان نلقى حسن الجزاء في الحالة الأولى، وسؤ العقاب في الحالة الثانية. فلنختر ما نريد، والحياة هي اختيار حر.
1- وصايا الله تعبير عن كرامة الشخص البشري
ان البابا يوحنا بولس الثاني يلح على هذه النقطة، وهي ان الوصايا المكتوبة على اللوح الثاني من الوصايا العشر المتعلقة بالقريب، ولو جاء التعبير عنها بصيغة سلبية، انما هي متأصلة في وصية المحبة: محبة القريب كمحبتنا نفوسنا. وهي وصية تعبر عن كرامة الشخص البشري الخاصة، الذي هو “الخليقة الوحيدة التي أرادها الله لذاتها”.
وعلاوة على ذلك، على ما أشار اليه الاب الأقدس في حق، لا يمكننا أن نحب القريب ونحترم كرامته المصانة كشخص، الا اذا احترمنا ممتلكاته الحقيقية، الخاصة التي تقوده الى تحقيق ذاته، والا اذا رفضنا الحاق الأذى في هذه الممتلكات وتدميرها، أو وضع عراقيل في سبيلها. والبابا يوحنا بولس الثاني، وهو يستشهد بقول الانجيل، يشدد على الحقيقة التالية، وهي: “ان مختلف الوصايا العشر ليست، في الواقع، سوى تكرار للوصية الوحيدة التي تأمر بالمحافظة على خير الشخص، في عداد الخيور التي تطبع هويته ككائن روحي وجسدي على صلة بالله، وبالقريب، وبالعالم المادي…والوصايا التي ذكر بها يسوع ذلك الشاب الغني هي معدة للمحافظة على خير الشخص الذي هو على صورة الله، عن طريق حماية ممتلكاته. كحياته ذاتها، وكمشاركة الأشخاص في الزواج، وما شابه. وهناك مثل قديم يقول: “الرزق عوض الروح” أي من فقد رزقه فقد حياته.
والأب الأقدس يعلن هنا أيضا بوضوح التقليد الأدبي الكاثوليكي بكامله. وكان القديس توما الأكويني يشدد، منذ قرون، على هذا الأمر، ويقول: “لا نهين الله الا بقدر ما نتصرف خلافا لخيرنا الذاتي”. ان الله يرغب في أن تنمو الخيور التي تشكل كياننا البشري كالحياة ذاتها، والصحة، وسلامة الجسد، ومعرفة الحقيقة، ومحبة الجمال، والانسجام مع سائر الناس. وعلاوة على ذلك، ان الأفعال البشرية توصف عادة بموضوعها الذي يختاره المرء بحرية. ويشدد البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته: “سطوع الحقيقة”، على هذه الحقيقة المتأصلة في التقليد الكاثوليكي، وقد أعلنها القديس توما الأكويني، عندما قال: “ان طابع الفعل البشري الأدبي يتعلق، قبل كل، وأساسا، بالشيء الذي تختاره الارادة بحرية بعد تفكير ملي”. وبعدئذ، يتابع البابا يوحنا بولس الثاني في مقطع يوجز لا التقليد وحسب، بل يشهد لهذه الحقيقة أيضا، وهي ان العقل البشري- بما أنه خيار حر- لا يعتبر حدثا ماديا، بل واقعا ينبع من أعماق قلب الشخص، ويتابع البابا قائلا: “يجدر بنا، لكي نتمكن من اكتناه الشيء الذي يطبع أدبيا فعلا ما، أن نضع أنفسنا في منظور الشخص الذي يتحرك ويعمل. وفي الواقع، ان موضوع فعل الارادة هو تصرف يختاره الانسان بحرية. وهو، بما أنه يوافق نظام العقل، يسبب طيب الارادة، و يكملنا أدبيا.
2- الاختيار الحر
وفي اختصار ان موضوع الفعل الأدبي هو ما نختار بحرية، هنا والآن، وبعملنا هذا نوافق قلبيا على ما نعمل ونصدق عليه. ويسهل علينا، اكتناه حقيقة ما يقوله البابا، اذا وضعنا نصب أعيننا مواضيع الفعل البشري، التي لا يمكنها أن تنسب الى الله لأنها تتعارض كليا وخير الانسان، المخلوق على صورة الله. فهذه الأعمال التي وصفت بأنها، من طبيعتها، سيئة بحسب تقليد الكنيسة، فهي تظل دائما سيئة في حد ذاتها، وذلك بسبب موضوعها، بقطع النظر عن الظروف ونية الفاعل اللاحقة.
وفي عبارة أخرى، ان شخصا بشريا لا يستطيع أن يختار في حرية، أن يقتل شخصا بريئا، ويحرمه عن قصد وتصميم من الخير الذي تشكله حياة بشرية بريئة، دون أن يكون هناك نية سيئة وأن يعتبر هذا الشخص قاتلا. ولو تصرفنا هكذا، قصد خير لاحق، مثلا للحيلولة دون موت أناس أبرياء آخرين، والأشخاص الذين هم على صورة الله لا يمكنهم أن يريدوا الشر، لأن الله الذين هم صورته، هو بريء من أي شر أو أذى. ويمكنهم أن يأذنوا على مثال الله عينه، في حدوث شر في بعض الحالات والشروط، ولكن لكي يمارسوا في استقامة ما لهم من حرية، وعليهم أن يوفقوا خيارهم والحقيقة، ولا يمكنهم أن يلقوا بالشر عن قصد وتصميم،أي أن يختاروا اختيارا حرا فعلا أدبيا يحدده موضوع اذا ارادوه، ارتكبوا خطيئة، وخرقوا حرمة الشخص المخلوق على صورة الله ومثاله في اعتدائهم على حياته الجسدية، أو على عرضه وصيته.
وهناك من ينكرون هذه الحقائق، ويدعون ان الشخص البشري في امكانه، دون اخلال في العدالة، أن يريد الشر أو أن يختاره، كموت شخص بريء قصد خير أكبر، أو تخفيفا ل
شر كبير. وهم يصلون الى هذا الاستنتاج، لأنهم يدعون أن المبدأ الأساسي الذي يتيح لنا مجال التمييز بين الخير والشر، يقوم على اختيار أمر من اثنين، اما الخير الكبير أو الشر الكبير. ان البابا يوحنا بولس الثاني قد وصف وصفا دقيقا هذا الأدعاء عندما قال: ان نظرية النسبية توازن بين قيم الأفعال والخير المقصود منها، وهي تهتم بالنسبة التي تعترف بها والقائمة بين نتائجها الجيدة ونتائجها السيئة، بغية “الخير الأكبر” أو “الشر الأقل” اللذين هما حقا ممكنان في حالة خاصة.
3- طرح غير مقبول
وأريد الآن أن أبين لماذا لا يمكن العمل في طرح النسبيين، وهو لا يتماشى مع واقع الخيار الحر. والخيار الحر لا يستقيم الا في وجود بدائل يمكن اختيارها. والحال ان مثل هذه البدائل لا نجدها الا اذا توفرت امكانات الخيار المشتركة التي تفسح في المجال للمشاركة في خير لا سبيل الى مقارنته في خير تعد به البدائل الأخرى. اذا قصد أحد الناس أن يشتري مثلا بيتا يرغب فيه، بمبلغ معين من المال، وهو يشتمل على قاعة استقبال وأربع غرف، ويقع على مسافة غير بعيدة، تقطع سيرا على الأقدام، من الكنيسة والمدرسة الابتدائية، وغير بعيدة عن وسائل النقل المشترك، واذا كان هناك بيت من أربعة بيوت يتمتع في هذه المواصفات، بينما الثلاثة الباقية لا تتمتع بها، فلا يبقى من امكانية أو ضرورة خيار ما دام هذا الشخص يريد أن يشتري بيتا يحقق هذه الشروط. وبين البدائل الممكنة، هناك بيت واحد يحقق رغبة الشاري. ولهذا ان البيوت الباقية توضع جانبا.
والنسبية، بصفة انها تفترض حكما أدبيا، تتطلب شرطين يتنافران، وهما اولا أن يكون هناك حكم أدبي، وهذا يعني، في وقت معا، القيام في خيار. وقد يكون هذا الخيار خاطئا، والثاني أن يكون هناك امكانية اصدار حكم يحدد البديل الذي يعد الخير الأكبر،أو الشر الأقل، قبل الاختيار.
ويبقى ان أفعالنا البشرية لها طابع أدبي، جوهري. وان ما يهم ليس ما تنتجه في العالم الخارجي، بل ما تكشفه عنا. ان الفعل الأدبي، في قلب كل انسان، هو خيار حر يحدد ذاته به، لذلك، في وصفنا صورا حية لله الذي يدعونا الى القداسة، يجب ألا نختار فعل الشر وأن نكون أشرارا. وان ما يخرج من الانسان، من قلبه، من أعماق كيانه، من خياره الحر، هو ما يمكن أن يلطخه، أو أن يحدد هويته كشخص بشري تنزع ارادته الى ما يرضي أباه السماوي ، وذلك عن طريق محبته للأشخاص المخلوقين على صورة الله واحترامهم، وفي اكرامه هكذا ما لهم من كرامة لا يجوز امتهانها.
خلقنا الله ذوي ارادات حرة لنصنع الخير الذي نريد، ونمتنع عن الشر الذي لا نريد، ولكن الأهواء غالبا ما تفسد علينا النظام الذي جعله الله لنا، فنتبع هذه الأهواء، ونصنع من الشر ما لا نريد، ولا تريده وصايا الله. وهذا ما يجب التنبه اليه والحذر منه.
وان ما عشناه في الأسبوع الفائت يشهد لهذه الحقيقة، وقد عشنا مأساة دموية ذهب ضحيتها ما لا يقل عن ثلاثين شهيدا من الجيش اللبناني الذين ماتوا ليحيا الوطن. وإنا اذ نستمطر على أرواحهم شآبيب الرحمة، نسأل الله أن يسكب بلسم العزاء على قلوب ذويهم، ويتغمدهم برحمته الواسعة، ويزيد رفاقهم شجاعة في الدفاع عن هذا الوطن ومقوماته.
واذا كان لنا أن نشعر ببعض الطمأنينة لما أظهره مجمل المواطنين من التفاف حول الجيش اللبناني، واحتضان له، فان ما يجري على ساحة الوطن يدعو الى القلق الشديد. لذلك إنا ندعو الجميع الى تناسي الحساسيات التي تباعد بينهم، لكي يشبكوا الأيدي للدفاع عن قيم ثمينة تركها لنا الآباء والأجداد، وفي مقدمها الحرية، والعيش المشترك، واكرام الضيف، والصفح عند الاساءة، والتخلي عن لغة الشتم والسباب، لتبني لغة التفاهم والمحبة. هذه قيمنا اذا فقدناها فقدنا الوطن. والمتربصون به لا يزالون ناشطين، اذا تغافلنا عن نشاطاتهم”.