* * *
ترتليانوس
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
مع تعليم اليوم نعود إلى سلسلة التعليم التي كنا قد تركناها بمناسبة زيارتي إلى البرازيل، ونعاود الحديث عن الشخصيات الكبرى في الكنيسة القديمة: فهم معلمو الإيمان بالنسبة لنا اليوم أيضًا، وهم شهود لآنية الإيمان المسيحي الدائمة.
نتحدث اليوم عن إفريقي، هو ترتليانوس، الذي افتتح التراث المسيحي في اللغة اللاتينية في نهاية القرن الثاني ومطلع القرن الثالث. معه يبدأ اللاهوت في هذه اللغة. وقد أعطت كتاباته ثمارًا مصيرية، وتناسيها خطأ لا يغتفر.
يمتد تأثيره إلى عدة أبعاد: من البعد اللغوي، إلى إعادة تقييم الثقافة الكلاسيكية، فالتوصل إلى التعرف على “نفس مسيحية” مشتركة في العالم وصولاًَ إلى اقتراح أشكال جديدة للتعايش البشري.
لا نعرف بالتحديد تواريخ ولادته ووفاته. ولكننا نعرف أنه تلقى في قرطاجة، على يد والديه ومعلمين وثنيين، ثقافة عالية في البيان والبلاغة، والفلسفة، والحقوق والتاريخ.
ومن ثمّ ارتد إلى المسيحية وقد جذبه – على ما يبدو – مثال الشهداء المسيحيين.
بدأ بنشر كتابتاه الأكثر شهرة عام 197. ولكن البحث الفردي المفرط عن الحقيقة، إلى جانب تطرف أطباعه – إذ كان رجلاً صارمًا – أدّيا به إلى هجر الشركة الكنسية وإلى اعتناق بدعة المونتانية.
ولكن رغم ذلك، فإن إبداعه الفكري إلى جانب براعته اللغوية القاطعة، ضمنا له مكانًا مميزًا في الأدب المسيحي القديم.
أشهر كتاباته هي كتابات الدفاع عن المسيحية. فهي تظهر نيتين أساسيتين: الأولى هي دحض التهم الخطيرة التي كان يوجهها الوثنيون ضد الديانة الجديدة، والثانية – أكثر إقتراحية وإرسالية – إيصال رسالة الإنجيل عبر الحوار مع ثقافة العصر.
ومؤلفه الأكثر شهرة هو “الدفاع [عن المسيحية]”، (Apologeticus)، الذي يستنكر تصرفات السلطات السياسية غير العادلة بحق الكنيسة؛ يشرح تعاليم وتقاليد المسيحيين؛ يبين الاختلاف بين الدين الجديد والتيارات الفلسفية الأساسية في عصره؛ يظهر انتصار الروح الذي يواجه عنف المضطهدين بدم وآلام وصبر الشهداء. يكتب المعلم الإفريقي: “إن قسوتكم، لو مهما كانت رفيعة، لن تجديكم نفعًا: لا بل، بالنسبة لجماعتنا، إنما هي دعوة وإغراء. فمع كل ضربة من مناجلكم يتنامى عديدنا: دم المسيحيين هو بذرٌ فعّال! (semen est sanguis christianorum)” (الدفاع 13، 15).
الشهادة والآلام لأجل الحقيقة تنتصر بالنهاية وهي أكثر فعالية من وحشية وعنف السلطات المستبدة.
ولكن ترتليانوس، ككل مدافع جيد، يلاحظ في الوقت عينه ضرورة نقل جوهر المسيحية بشكل إيجابي. ولهذا السبب يتبنى المنهج النظري لكي يبين الركائز العقلانية للعقيدة المسيحية. ويتعمق فيها بشكل منتظم، بدءًا بالتعريف بـ “إله المسيحيين”، فيقول المدافع عن الإيمان: “الإله الذي نعبده هو إله واحد”. ويتابع مستخدمًا النقيضات والمفارقات التي تميز أسلوبه: “هو غير مرئي، حتى ولو من الممكن رؤيته؛ لا يمسّ، حتى ولو أنه حاضر بالنعمة، حتى ولو أن بامكان الحواس البشرية أن تدركه؛ ولهذا فهو عظيم وحقٌّ” (الدفاع 17، 1- 2).
ويقدم ترتليانوس إسهامًا عظيمًا في تطور العقيدة الثالوثية؛ فقد أعطانا باللغة اللاتينية التعابير المناسبة للحديث عن هذا السر العظيم، بادخاله تعابير مثل “جوهر واحد” و”ثلاثة أشخاص”. بهذا الشكل، ساهم كثيرًا في تطوير التعبير الصحيح للكلام عن سر المسيح ابن الله والإنسان الحق.
ويتحدث الإفريقي أيضًا عن الروح القدس، مبينًا طبعه الشخصاني والإلهي. نؤمن أنه بحسب وعده، أرسل يسوع المسيح، بواسطة الآب، الروح القدس، البراقليط، مقدّس إيمان الذين يؤمنون بالآب والابن والروح القدس” (المرجع نفسه 2، 1).
وأيضًا، نجد في كتابات الإفريقي نصوصًا كثيرة تتحدث عن الكنيسة، والتي يعترف بها ترتليانوس دومًا، ‘كأم‘. حتى بعد اعتناقه المونتانية، لم ينس أن الكنيسة هي أم إيماننا وحياتنا المسيحية.
ويتوقف ترتليانوس أيضًا على سلوك المسيحيين الخلقي وعلى الحياة المستقبلية. وكتاباته مهمة أيضًا لفهم الميول الحيوية التي كانت حاضرة في الجماعات المسيحية نحو مريم الكلية القداسة، والأسرار كالافخارستيا والزواج والمصالحة، والأولية البطرسية، والصلاة… بشكل خاص في أزمنة الإضطهاد تلك التي كان فيها المسيحيون قلة مشتتة، وكان المدافع عن الإيمان يحض المسيحيين على الرجاء، الذي هو – بحسب كتاباته – ليس مجرد فضيلة قائمة بذاتها، بل هو نهج يغطي كامل الوجود المسيحي. ولنا رجاء أن المستقبل هو لنا لأن المستقبل هو لله.
وهكذا، يقوم ترتليانوس بتقديم قيامة الرب كركيزة قيامتنا المستقبلية، وتشكل القيامة الغاية الأساسية لثقة المسيحيين. يقول الإفريقي بحزم: “الجسد سيقوم: كل الجسد، والجسد بالذات، والجسد بكليته. أينما كانت الأجساد، فهي مخزونة لدى الله، بفضل الوسيط الأمين بين الله والبشر، يسوع المسيح، الذي سيعيد الله للإنسان والإنسان لله” (في قيامة الأموات، 63، 1).
من وجهة النظر الإنسانية، يمكننا بالتأكيد أن نتحدث عن مأساة ترتليانوس. مع مرور السنين أصبح متطلبًا أكثر فأكثر مع المسيحيين. كان يتطلب منهم في كل حالة، وخصوصًا خلال الاضطهادات، تصرفًا بطوليًا. وبسبب تصلب مواقفه، لم يكن ليوفر الانتقادات اللاذعة، الأمر الذي أدى به بالضرورة إلى أن يجد نفسه معزولاً.
علاوة على ذلك، ما زالت هنالك حتى اليوم، بعض القضايا العالقة، لا حول فكر ترتليانوس اللاهوتي والفلسفي وحسب، بل
أيضًا حول موقفه من المؤسسات السياسية والمجتمع الوثني.
إن هذه الشخصية الخلقية والفكرية الكبيرة، وهذا الرجل الذي أعطى الكثير إلى الفكر المسيحي، يحضني على التفكير مليًا. فنلاحظ أنه في آخر المطاف كانت تنقصه البساطة، وتواضع الانخراط في الكنيسة، وقبول ضعفه، وأن يكون متسامحًا مع الآخرين ومع ذاته.
عندما ينظر المرء فقط إلى فكره في عظمته، يضيع في آخر المطاف هذه العظمة بالذات. فميزة اللاهوتي الكبير الأساسية هي التواضع عبر البقاء في الكنيسة، وعبر قبول ضعف الكنيسة وضعفه الشخصي، لأن الله وحده هو كلي القداسة. أما نحن فنحتاج دومًا إلى الغفران.
يبقى الإفريقي، بلا ريب، شاهدّا مهمًا من عصور الكنيسة الأولى، عندما كان المسيحيون يجدون أنفسهم كرواد “ثقافة جديدة” عبر مقابلة ومقاربة بين التراث الكلاسيكي والرسالة الإنجيلية.
فالتعبير المشهور القائل بأن كل نفس هي “بطبيعتها (naturaliter) مسيحية” هو لترتليانوس (المدافع 17، 6)، الذي يذكر بالاستمرارية الدائمة بين القيم الإنسانية الأصيلة والقيم المسيحية؛ وكذلك فكرته الأخرى التي يستعيرها مباشرة من الإنجيل، والقائلة بأن “المسيحي لا يستطيع أن يكره ولا حتى أعداءه” (راجع المدافع 37)، حيث النتيجة الخلقية التي لا مفر منها لخيار الإيمان، تعرض “اللاعنف” كقاعدة للحياة: وما من أحد لا يستطيع أن يعاين الآنية الدراماتيكية لهذا التعليم، حتى على ضوء الجدل المتقد حول الأديان.
خلاصة القول، تتلاقى في كتابات الإفريقي، مواضيع مختلفة ما زلنا مدعوين إلى معالجتها حتى في أيامنا هذه. تضعنا هذه المواضيع أمام بحث داخلي خصب، أدعو إليه جميع المؤمنين لكي يعرفوا دومًا أن يعبروا بطريقة مقنعة عن ‘قاعدة الإيمان‘ (Regula fidei)، تلك التي من خلالها – بالعودة من جديد إلى تعليم ترتليانوس – “نؤمن بوجود إله واحد، وأن ما من آخر غير خالق الكون: وهو خلق كل الأشياء من العدم بواسطة كلمته، المولود قبل كل الخلائق” (تحديد الهراطقة 13، 1) (De praescriptione haereticorum).