ومن لقاء ذاك الإيمان مع الاتنيات الأصلية وُلدت الثقافة المسيحية الغنية لهذه القارة، المعبّر عنها في الفن والموسيقى والأدب، لاسيما التقاليد الدينية وطريقة عيش سكانها المتّحدين بالتاريخ نفسه والإيمان عينه، ما أعطى بداية لتناغم كبير حتى في التعددية الثقافية واللغوية. وهذا الإيمان نفسه، عليه أن يواجه اليوم سلسة تحديات، سيما وأن المسألة متعلقة بالنمو المتناغم للمجتمع والهوية الكاثوليكية لشعوب هذه القارة. وبالفعل فإن إلتبشير بيسوع وإنجيله لم يحتو يوما إبعادا للثقافات ما قبل الكولومبية ولم يكن فرضًا لثقافة أجنبية.
وأضاف قداسة البابا أن حكمة الشعوب الأصلية قادتها ولحسن الحظ إلى تكوين خلاصة بين ثقافاتها والإيمان المسيحي الذي قدّمه المرسلون. ومن هنا نشأ التدين الشعبي الغني الذي تبان فيه روح شعوب أمريكا اللاتينية: محبة المسيح المتألم، إله الرحمة والغفران والمصالحة، الإله الذي أحبّنا حتى بذل نفسه من أجلنا؛ محبة الرب الحاضر في الإفخارستيا، الإله المتجسد، المائت والقائم ليكون خبز الحياة؛ الإله القريب من الفقراء والمتألمين والإكرام الكبير لعذراء غوادالوبي، وأباريثيدا. وأشار الحبر الأعظم في كلمته إلى أن المؤتمر العام الخامس لأساقفة أمريكا اللاتينية والكاراييب يشكل استمرارية للمؤتمرات الأربعة السابقة التي جرت في ريو دي جينيرو، ميدلين، بوبيلا وسانتو دومينغو، مؤكدا أن أمورًا كثيرة تبدلت في المجتمع بعد المؤتمر العام الرابع في سانتو دومينغو.
ففي عالم اليوم، هناك ظاهرة العولمة التي ينبغي أن تكون الأخلاقية هادية لها، وعلى غرار كل مجالات النشاط البشري، من خلال وضع كل شيء في خدمة الشخص البشري المخلوق على صورة الله ومثاله. وقد تم تسجيل تقدّم باتجاه الديمقراطية، على الرغم من وجود دوافع قلق أمام أشكال الحكم السلطوي أو أشكال خاضعة لبعض الإيديولوجيات التي لا تتلاءم مع النظرة المسيحية للإنسان والمجتمع. وأشار البابا إلى أن الاقتصاد الليبيرالي في بعض دول أمريكا اللاتينية ينبغي أن يأخذ في عين الإعتبار المساواة، نظرًا لزيادة القطاعات الاجتماعية التي تشعر بأنها مظلومة أكثر فأكثر من جراء الفقر. وتابع البابا يقول: هناك نضوج ملحوظ في الإيمان لدى العلمانيين والعلمانيات في الجماعات الكنسيّة في أمريكا اللاتينية. وأشار أيضا إلى ضعف الحياة المسيحية في المجتمع والمشاركة في حياة الكنيسة الكاثوليكية بسبب العلمنة والمتعية واللامبالاة وانتشار البدع. وهذا الوضع الجديد ـ أضاف البابا يقول ـ ستتم مناقشته في أباريثيدا، وينبغي على المؤتمر العام الخامس أن يقدّم تجديدا وحيوية في الإيمان بالمسيح.
وهكذا ستولد دروب جديدة ومشاريع راعوية خلاّقة قادرة على نشر رجاء أكيد لعيش الإيمان بطريقة مسؤولة وفرحة وتجذيره في البيئة الخاصة. وانتقل البابا بعدها ليتحدث عن عنوان المؤتمر العام الخامس وهو:"تلاميذ ورسل يسوع المسيح، كيما تكون لشعوبنا فيه الحياة ـ أنا هو الطريق والحق والحياة"، وأضاف يقول: من يُبعد الله عن أفقه يزيّف مفهوم "الواقع"، ويسلك بالتالي دروبا خاطئة... والإيمان يحرّرنا من العزلة الأنانية لأنه يقودنا إلى الشركة: فاللقاء مع الله هو لقاء مع الإخوة...
وأشار البابا أيضا إلى أهمية تربية الشعب على قراءة كلمة الله والتأمل بها وتنشئة الأطفال والشباب والبالغين في الإيمان... فالتأمل الناضج حول الإيمان هو نور لمسيرة الحياة وقوة لنكون شهود المسيح... ولا يكفي الاكتفاء فقط بالعظات والمؤتمرات والدروس حول الكتاب المقدس أو اللاهوت، بل ينبغي اللجوء أيضا لوسائل الاتصالات الاجتماعية: الصحافة والإذاعة والتلفزيون والإنترنيت وطرق أخرى لإيصال رسالة المسيح بطريقة أفعل. وأكد البابا أيضا أن الحياة المسيحية لا يُعبّر عنها في الفضائل الشخصية فقط إنما أيضا بالفضائل الاجتماعية والسياسية. وتابع يقول: من حق شعوب أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاراييب الحصول على حياة كاملة والتحرر من تهديدات الجوع وكل شكل من أشكال العنف، مذكرا بكلمات السعيد الذكر البابا بولس السادس في رسالته العامة "ترقي الشعوب" حين قال: ينبغي أن يكون النمو الحقيقي متكاملا، أي موجها نحو نمو الإنسان، كل إنسان، وجميع البشر، ويدعو الجميع إلى إلغاء اللامساواة الاجتماعية.
ثم انتقل البابا ليتحدث عن المشاكل السياسية والاجتماعية مشيرًا إلى أنها متعددة ومعقدة في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاراييب ولا يمكن مواجهتها ببرامج عامة، وأن الرأسمالية والماركسية قد وعدتا بإيجاد الطريق لإنشاء بنيات عادلة، وأكدتا أنها وعند استقراها، ستعمل البنيات بمفردها وستنمي الأخلاقية المشتركة، ولكنّ هذا الوعد الإيديولوجي ـ قال البابا ـ بان خاطئا، مشيرًا في الآن معا إلى أنه وفي الغرب أيضا تزداد الهوة بين الفقراء والأغنياء وتسبب انحطاطا مقلقا للكرامة الشخصية من جراء المخدرات والكحول وأوهام الفرح الخدّاعة. وأكد الأب الأقدس في كلمته أن مجتمعا يغيب الله عنه لا يجد الإجماع الضروري حول القيم الأخلاقية وقوة العيش بحسب هذه القيم.
وتابع البابا يقول إن الكنيسة هي محامية العدالة والفقراء، وباستقلاليتها فقط تستطيع أن تعلّم القيم التي لا مفر منها وترشد الضمائر وتقدّمَ خيار حياةٍ أبعد من البيئة السياسية. وأكد الأب الأقدس على أن الحركات الكنسية مدعوة إلى تذكير العلمانيين بمسؤوليتهم ورسالتهم في نقل نور الإنجيل في ا لحياة العامة، الثقافية، الاقتصادية والسياسية. وتابع البابا كلمته مشيرًا إلى أن العائلة "إرث البشرية" تشكل أحد أهم الكنوز في بلدان أمريكا اللاتينية. فهي كانت ولا تزال مدرسة إيمان ومركزا للقيم الإنسانية والمدينة ومسكنا تولد فيه الحياة البشرية ويتم قبولها بسخاء ومسؤولية، وقال إنها تعاني اليوم من أوضاع مؤلمة بسبب العلمنة والنسبية الأخلاقية وتدفق الهجرات والفقر وغياب الإستقرار الاجتماعي والتشريعات المدنية المتعارضة مع الزواج والتي تشجّع الإجهاض وتهدد مستقبل الشعوب وأكد البابا أن العائلة هي جزء من خير الشعوب والبشرية جمعاء.
وفي ما يتعلق بالكهنة أشار البابا إلى ضرورة أن يحصلوا من أساقفتهم على الإهتمام والعناية الأبوية، مؤكدا أيضا حاجة المجتمع في أمريكا اللاتينية والكاراييب إلى شهادة الرهبان والراهبات والمكرسين ومذكّرا بأهمية دور المؤمنين العلمانيين في حياة الكنيسة. أما بالنسبة للشباب وراعوية الدعوات، فقال الأب الأقدس إن غالبية سكان أمريكا اللاتينية هم من الشباب، وذكّر بأن دعوتهم هي أن يكونوا أصدقاء المسيح وتلاميذه، مشيرًا إلى أهمية التزامهم من أجل تجديد متواصل للعالم في ضوء الإنجيل، وضرورة معارضتهم لأوهام السعادة الخداعة.
أضاف البابا يقول إن أعمال المؤتمر العام الخامس لأساقفة أمريكا اللاتينية والكاراييب تحملنا على التضرّع مثلما فعل تلميذا عماوس:"أُمكث معنا، فقد حان المساءُ ومالَ النهار". أُمكث معنا يا رب لأن الظلالَ تتكدس حولنا وأنتَ النور... أُمكث معنا يا رب حين تبان الشكوك والصعوبات حول إيماننا الكاثوليكي: فأنتَ الطريق، أَنِر عقولنا بكلمتك وساعدنا على الشعور بجمال الإيمان بك... أُمكث مع عائلاتنا وأنرها في شكوكها واعضدها في صعوباتها وساندها في آلامها ومتاعب الحياة اليومية حينما تتراكم من حولها الظلال التي تهدّد وحدتها وهويتها الطبيعية... أنتَ الحياة، أُمكث في منازلنا كيما تبقى مسكنا حيث تولد الحياة البشرية بسخاء وتُقبل وتُحب وتُحترم الحياة منذ الحبل بها وحتى موتها الطبيعي... أُمكث يا رب في مجتمعاتنا مع الأكثر ضعفا، مع الفقراء والمتواضعين، مع السكان الأصليين والأفرو أمريكيين الذين لم يجدوا دوما مكانا ومساندة للتعبير عن غنى ثقافتهم وحكمة هويتهم... أُمكث يا رب مع أطفالنا وشبابنا، مستقبل وغنى قارتنا. أيها الراعي الصالح، أُمكث مع مسنينا ومرضانا. أعضد الجميع في الإيمان كيما يكونوا تلاميذك ورسلك!