* * *
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
قال القديس أغسطينوس مرة في مؤلفه العظيم "مدينة الله" أن تاريخ البشرية بأسره، تاريخ العالم، هو صراع بين حبّين: حب الله حتى خسران الذات، حتى هبة الذات، وحب الذات حتى احتقار الله، حتى كره الآخرين. هذا التفسير عينه للتاريخ كصراع بين حبين، بين الحب والأنانية، يظهر أيضًا من خلال القراءة المأخوذة من سفر الرؤيا، التي سمعناها لتونا.
هنا، يظهر هذان الحبان بشخصيتين عظيمتين. فأولاً هناك التنين الأحمر الجبار، عبر ظهور مؤثر ومروع لسلطان خالٍ من النعمة ومن الحب، هو اعتلان الأنانية المطلقة، والرعب والعنف.
في الوقت الذي كتب فيه القديس يوحنا سفر الرؤيا، كان التنين متجليًا بالنسبة له بسلطان الأباطرة الرومانيين المعادين للمسيحية، من نيرون وحتى دومسيانوس. كان هذا السلطان يبدو لا متناهيًا؛ فالقدرة العسكرية والسياسية والدعائية للإمبراطورية الرومانية كانت ضخمة لدرجة أن الإيمان والكنيسة كانا يبدوان كامرأة عزلاء، دون إمكانية للبقاء على قيد الحياة أو للانتصار. فمن كان يستطيع أن يواجه هذه القدرة الحاضرة في كل مكان والتي كان يبدو وكأنها قادرة على كل شيء؟
ومع ذلك نعرف أن المرأة العزلاء هي التي انتصرت. لم تنتصر الأنانية، لم ينتصر الكره؛ انتصر حب الله وانفتحت الإمبراطورية الرومانية على الإيمان المسيحي.
إن كلمات الكتاب المقدس تتجاوز دومًا اللحظة التاريخية. وهكذا، هذا التنين يدل على سلطان مضطهدي الكنيسة في ذلك الزمان المعادي للمسيحية، ولكن أيضًا على الديكتاتوريات الماديّة المعادية للمسيحية في كل العصور. وقد رأينا هذا السلطان يثبت نفسه من جديد، هذا التنين الأحمر في الديكتاتوريات الكبرى في القرن السابق: ديكتاتورية النازية وديكتاتورية ستالين التي تغلغلت في كل زاوية، في الزاوية الأعمق. كان يبدو وكأن الإيمان، على المدى البعيد، لم يكن ليستطيع أن يبقى على قيد الحياة بوجه هذا التنين القوي جدًا الذي كان يريد أن يلتهم الله الذي صار طفلاً والمرأة، الكنيسة. ولكن بالواقع، في هذه الحالة أيضًا، كان الحب أقوى من البغض في آخر الأمر.
وحتى في أيامنا هذه، يظهر التنين بأشكال جديدة ومتنوعة. فهو يظهر في الإيديولوجيات المادية التي تقول: إنه أمر سخيف التفكير بالله؛ إنه أمر سخيف حفظ وصايا الله؛ إنه أمر مر عليه الزمن. فالمهم هو عيش الحياة لأجل ذاتها؛ أن ننال من الحياة في هذا الوقت القصير كل ما يمكننا أن نناله. يسيطر مبدأ الاستهلاك، الأنانية، المتعة. هذه هي الحياة. هكذا يجب أن نعيش. ومن جديد، يبدو غير منطقي، بل مستحيلاً أن نقف بوجه هذه العقلية السائدة، مع كل قوتها الإعلامية والدعائية. يبدو مستحيلاً أن نفكر اليوم بإله خلق العالم وصار طفلاً وأنه السيد الحق ضابط الكل.
الآن أيضًا يبدو هذا التنين وكأنه لا يقهر، ولكن الآن أيضًا يبقى حقيقًا أن الله هو أقوى من التنين، وأن الحب هو الذي ينتصر، لا الأنانية. بعد أن تطرقنا إلى مختلف المظاهر التاريخية للتنين، فلننظر الآن إلى الصورة الأخرى: المرأة الملتحفة بالشمس وتحت قدميها القمر، تحيق بها اثنتا عشرة نجمة. هذه الصورة أيضًا هي متعددة الأبعاد. المعنى الأول من دون شك هو العذراء، مريم الملتحفة بالشمس، أي بالله، بالكلية؛ مريم التي تعيش في الله، كليًا، يسترها ويتغلغل فيها نور الله. وتحيط بها اثنتا عشرة نجمة، أي أسباط إسرائيل الإثني عشر، شعب الله بأسره، كل شركة القديسين، وتحت قدميها القمر، صورة الموت. لقد تجاوزت مريم الموت، فانتقلت بالنفس والجسد إلى مجد الله، وهكذا، بدخولها في المجد، بعد أن تخطت الموت تقول لنا: تشجعوا، ففي آخر المطاف النصر هو للحب! فمثال حياتي كان يقول: أنا أمة الرب، حياتي كانت هبة ذاتي، لله وللقريب. وحياة الخدمة هذه تلج الآن في الحياة الحقة. ثقوا، وتشجعوا لتعيشوا أنتم أيضًا كذلك، ضد كل تهديدات التنين.
هذا هو المعنى الأول للمرأة التي صارت مريم. "المرأة المتحفة بالشمس" هي العلامة الكبرى لانتصار الحب، لانتصار الخير، لانتصار الله. هي علامة تعزية كبيرة. ولكن هذه المرأة تتألم أيضًا، وعليها أن تهرب، وأن تلد بألم عظيم، هي أيضًا الكنيسة، الكنيسة الحاجّة عبر كل العصور. في كل الأجيال، على الكنيسة أن تلد المسيح من جديد، وأن تحمله إلى العالم بألم وبهذا الشكل الموجع. هي مضطَهدة في كل الأجيال من قِبل التنين. ولكن في كل الأجيال، تعيش الكنيسة، شعب الله، في ضياء الله، وتتغذى – كما يقول الإنجيل – من الله. يتغذى شعب الله بخبز الافخارستيا المقدس. وهكذا في كل المحن وفي كل الظروف التي تمر بها الكنيسة طوال الأزمنة، في مختلف أنحاء العالم، بتأملها تنتصر. وهذا هو حضور وضمانة حب الله ضد كل إيديولوجيات الكره والأنانية.
بالطبع نرى كيف أن التنين، اليوم أيضًا، يريد أن يلتهم الإله الصائر طفلاً. لا تخافوا من أجل هذا الإله الذي يبدو ظاهريًا وكأنه ضعيف. فاليوم أيضًا، هذا الإله الضعيف هو قوي: هو القوة الحقة.
وهكذا فإن عيد سيدة الانتقال هو دعوة للثقة بالله وهو أيضًا دعوة للاقتداء بمريم في ما قالته هي ذاتها عن نفسها: أنا أمة الرب، أضع نفسي بخدمة الرب.
هذا هو الدرس: أن نسير على خطاها: أن نهب حياتنا وأن لا نخسرها. وهكذا بالضبط سنكون في مسيرة الحب التي هي خسران للذات، ولكنه هذا الخسران هو بالحقيقة الدرب الوحيد لنجد أنفسنا حقًا، لنجد الحياة الحقة.
فلننظر إلى مريم، سيدة الانتقال. فلنسمح لها بأن تشجعنا في الإيمان
وفي احتفال الفرح: الله هو الذي ينتصر. الإيمان الذي يبدو ضعيفًا ظاهريًا هو بالحقيقة قوة العالم. الحب أقوى من البغض. ونقول مع أليصابات: مباركة أنت في النساء. نصلي لك مع كل الكنيسة: يا قديسة مريم، صلي لأجلنا نحن الخطأة، الآن وفي ساعة موتنا. آمين.
ترجمة وكالة زينيت العالمية (ZENIT.org)
حقوق الطبع محفوظة: دار النشر الفاتيكانية – 2007
DERNIÈRES NOUVELLES
Aug 17, 2007 00:00