* * *
غريغوريوس النزينزي

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
لقد تحدثت نهار الأربعاء الماضي عن معلم عظيم للإيمان، أب الكنيسة القديس باسيليوس. اليوم أود أن أتحدث عن صديقه غريغوريوس النزينزي، وهو، كباسيليوس، كابادوكي الأصل.
كان لاهوتيًا لامعًا، وخطيبًا بارعًا ومدافعًا عن الإيمان المسيحي في القرن الرابع. اشتهر لأجل فصاحته، وكان يتمتع كشاعر، بنفسية رفيعة وحساسة.
ولد غريغوريوس في عائلة نبيلة. وقد كرسته أمه لله منذ ولادته حوالي العام 330. بعد الثقافة الأولية التي تلقاها في البيت، ارتاد أشهر مدارس عصره: فتردد أول الأمر إلى قيصرية الكابادوكية، حيث وطّد أصر الصداقة مع باسيليوس، أسقف المدينة المستقبلي، وتردد أيضًا إلى مدن كبرى أخرى في العالم القديم، مثل الإسكندرية في مصر، وخصوصًا أثينا، حيث التقى بباسيليوس من جديد (cfr Oratio 43,14-24: SC 384,146-180).
يستعيد غريغوريوس لاحقًا ذكريات الصداقة مع باسيليوس فيقول: "لم أكن الوحيد في تكريم وإجلال باسيليوس الكبير لأجل رزانة عاداته ونضج وحكمة خطبه وأحاديثه، بل كنت أحض الآخرين الذين لم يكونوا يعرفونه بعد إلى القيام بالأمر نفسه... كان يدفعنا الشوق نفسه إلى المعرفة... وكان هذا جوهر التسابق بيننا: لا من يكون الأول، بل من يفسح المجال للآخر لكي يكون كذلك. كان يبدو وكأننا نفسٌ واحدة في جسدين" (Oratio 43,16.20: SC 384154-156.164). تبدو هذه الكلمات وكأنها تصوير ذاتي لهذه النفس النبيلة. ولكن يمكننا أيضًا أن نتصور هذا الرجل، الذي كان مندفعًا بقوة إلى ما وراء القيم الأرضية، كيف أنه تألم كثيرًا لأجل أمور هذه الأرض.
بعد عودته إلى بيته، تلقى غريغوريوس المعمودية ومال إلى الحياة النسكية: كان منجذبًا نحو الوحدة والتأمل الفلسفي والروحي. وقد كتب قائلاً: "ما من شيء يبدو لي أعظم من هذا. أن نُسكت الحواس، أن نخرج من حياة الجسد العالمي، وأن نستجمع نفسنا، وألاّ نضطرب لأجل الأمور البشرية، إلا لأجل ما هو ضروري حقًا؛ وأن نخاطب ذواتنا والله وأن نعيش حياةً تتجاوز الأمور الحسية؛ أن نُغني النفس بصور إلهية نقية دومًا، لا يخالطها شيء أرضي أو خاطئ؛ أن نكون حقًا مرآة لا عيب فيها تعكس الله والأمور الإلهية، وأن نصير هكذا أكثر فأكثر مستمدين النور من النور...؛ وأن نتمتع، بواسطة الرجاء الحاضر، بالخيرات المستقبلة، وأن نحاور الملائكة؛ أن نكون قد تخلينا عن الأرض، مع أننا ما زلنا عليها، وأن نكون قد ارتفعنا بالروح إلى العلاء" (Oratio 2,7: SC 247,96).
ويخبر في سيرته الذاتية (cfr Carmina [historica] 2,1,11 de vita sua 340-349: PG 37,1053) أنه تلقى السيامة الكهنوتية مكرهًا، إذ كان يعرف أنه كان عليه أن يقوم بدور الراعي، وأن يهتم بالآخرين وبأمورهم، وبالتالي كان سيحرم من استجماع نفسه للتأمل: إلا أنه لبى أخيرًا هذه الدعوة، وتقبل الخدمة الرعوية بطاعة كاملة، قابلاً، كما سيجري مرات كثيرة في حياته، أن تحمله العناية الإلهية غالبًا إلى حيث لا يريد أن يذهب (راجع يو 21، 18).
في عام 371، أراد صديقه باسيليوس، رغمًا عن إرادته أن يمنحه السيامة كأسقف على ساسيما، وهي محلّة استراتيجية هامة في كابادوكية. إلا أن غريغوريوس، بسبب مصاعب عدة، لم يتولى هذا المنصب، وبقي بالمقابل في مدينة نزينز.
حوالي العام 379، تم استدعاء غريغوريوس إلى القسطنطينية، العاصمة، لكي يقود الجماعة الكاثوليكية الصغيرة الأمينة لمجمع نيقية وللإيمان الثالوثي. أما الأكثرية فكانت تتبع الأريوسية الذي كان الخيار "المناسب سياسيًا"، إذ كان يعتبر الخيار الناجع سياسيًا من قبل الأباطرة. وهكذا وجد غريغوريوس نفسه في حالة أقلية تحيط به العداوة.
في كنيسة القيامة (Anastasis)، ألقى غريغوريوس خمسة خطب لاهوتية (Orationes 27-31: SC 250,70-343) لكي يدافع عن الإيمان الثالوثي ويسهل فهمه. وما زالت هذه الخطب تتمتع بشهرة كبيرة لأجل استقامة عقيدتها، وقدرتها النظرية، الأمر الذي يجعلنا نفهم أن هذا هو المنطق الإلهي بالفعل. وكذلك فإن بنيتها تجعلها أخّاذة حتى في أيامنا.
وقد نال غريغوريوس لأجل هذه الخطابات تسمية "اللاهوتي". وهكذا يعرف غريغوريوس باسم "اللاهوتي" في الكنيسة الأرثوذوكسية. وذلك لأن اللاهوت بالنسبة له ليس تفكيرًا بشريًا بحتًا، وليس ثمرة تطلعات نظرية معقدة فقط، بل ينبع اللاهوت من حياة صلاة وقداسة، من حوار مستمر مع الله. وهكذا بالضبط يظهر لعقلنا حقيقة الله، السر الثالوثي. في الصمت المتأمل، المشبع بالدهشة أمام عظمة السر المعتلن، تتلقى النفس الجمال والمجد الإلهي.
وبينما كان يشارك في المجمع المسكوني الثاني عام 381، تم انتخاب غريغوريوس أسقفًا للقسطنطينية، فتولى رئاسة المجمع. ولكن حالاً قامت ضده معارضة شرسة، حتى أصبحت الحالة لا تطاق. وكانت هذه العداوات بالنسبة لتلك النفس المرهفة الحس أمرًا لا يحتمل. وكان يردد ما سبق وقاله بأسى كبير، وبكلمات نابعة من القلب: "لقد قسّمنا المسيح، نحن الذين نحب كثيرًا لله والمسيح! لقد كذبنا أحدنا على الآخر لأجل الحقيقة، لقد غذينا أحاسيس البغض بسبب المحبة، لقد انقسمنا أحدنا ضد الآخر!" (Oratio 6,3: SC 405,128). وهكذا، وصل به الأمر في حالة التوتر هذه إلى التنحي. وفي الكاتدرائية التي اكتظت بالحاضرين ألقى غريغوريوس خطبة مفعمةً تأثيرًا ووقارًا (cfr Oratio 42: SC 384,48-114). وختم غريغوريوس مداخلته الدقيقة بهذه الكلمات: "وداعًا أيتها المدينة العظيمة، التي يحبها المسيح... أبنائي، أرجوكم إحفظوا وديعة الإيمان التي أوكلت إليكم (راجع 1 تيم 6، 20)، واذكروا مضايقي (راجع كول 4، 18). فلتكن نعمة ربنا يسوع المسي ح معكم جميعًا" (cfr Oratio 42,27: SC 384,112-114).
وعاد إلى نزينز، وقام على الخدمة الرعوية في الجماعة المسيحية لمدة سنتين. وبعد ذلك انكفأ نهائيًا إلى الوحدة في أريانز القريبة، مرتع رأسه، حيث انكب على الصلاة وعلى حياة التقشف. في هذه الفترة قام بتأليف القسم الأكبر من مؤلفاته الشعرية، وخصوصًا السيرة الذاتية (De vita sua) التي هي عبارة عن إعادة قراءة في أبيات شعرية لمسيرته الإنسانية والروحية، وهي مسيرة مثالية لمسيحي متألم، لرجل ذو حياة داخلية عميقة في عالم مليء بالصراعات. إنه رجل يجعلنا نشعر بأولية الله ويتوجه إلينا نحن أيضًا وإلى عالمنا قائلاً: من دون الله يفقد الإنسان عظمته، من دون الله ليس هنالك نهضة إنسانية حقة. لذا، فلنصغ إلى صوته ولنسع لكي نتعرف نحن أيضًا على وجه الله.
في إحدى قصائده كتب متوجهًا إلى الله: "كن رحيمًا، أنت، يا من هو وراء كل شيء" (Carmina [dogmatica] 1,1,29: PG 37,508).
وفي عام 390، تلقى الله بين ذراعيه هذا الخادم الأمين، الذي دافع عنه بذكاء حاد في كتاباته، والذي تغنى به بحب كبير في قصائده.

ترجمة وكالة زينيت العالمية (ZENIT.org)
حقوق الطبع محفوظة: دار النشر الفاتيكانية – 2007