أصحاب النيافة والغبطة، أخوتي في الأسقفية، حضرة الآباء والرؤساء العامين الأجلاء، حضرة الأخوات الرئيسات العامات الجليلات، أيها الأخوة والأخوات الأعزاء،
انه لمن المفرح دائما لي ومناسبة للمشاركة ان اكون معكم وأشارك في صلواتكم وتأملاتكم من اجل خير الكنيسة والمؤمنين في هذا البلد الحبيب الذي يمر في مرحلة حساسة من تاريخه.
أنتم تشاركون في الدورة الحادية والاربعين التي تجمع كل المسؤولين الدينيين الكاثوليك الكبار في لبنان: بطاركة، اساقفة، مطارنة، رؤساء عامون ورئيسات عامات للرهبانيات. أليس هذا نعمة الهية ولفتة محبة من أمنا السيدة العذراء، الوجه المشرق للكنيسة، سيدة لبنان وسيدة السلام؟ لقد مر اربعون عاما لم تتوقفوا خلالها عن التطرق الى مسائل حيوية تطال عمق رسالتكم وتعكس هموم شهادتكم من خلال عملكم الدؤوب على التأمل المتعمق في الظروف الاجتماعية، الثقافية والروحية التي تهيأ في اطارها شباب اليوم لبناء عالم الألفية الثالثة.
من لا يود المساعدة في بناء عالم المستقبل من حجارة حية، على أمل ان تفتح لنا روزنامة التاريخ، في مرحلة النعمة والارادة الطيبة هذه، الباب على حضارة المحبة. وكما كتب يوحنا بولس الثاني في رسالته الحبرية الى شبيبة العالم: “وحده الله هو الأساس الأول والاخير لكل القيم. وهو وحده يعطي وجودنا الانساني معناه الحاسم. من دونه، من دون مرجعية الله يبقى كل عالم القيم المبتكرة معلقا في الفراغ المطلق. ويفقد كذلك شفافيته. لا يعود يعبر عن شيء، الشر يصير كالخير والخير يسقط. ألم يتبد لنا ذلك في تجارب عصرنا وخصوصا فيالسياسة حيت يتم استبعاد الله من الأفق، حين نقوم، حين نقدر، وحين نفعل؟ لماذا الله هو خير الى هذا الحد؟ لانه هو المحبة”.
ان الموضوع الذي اخترتموه لدورتكم سوف يعالج “الكنيسة والتمويل” انه موضوع للتجدد. والكلام على التجدد يعني الاعتراف بحاجة والاقرار بتحد. واذا كان صحيحا ان الحقيقة لا تحفظ النفوس الا بشرط ان نستميلها على الدوام، فان احدا لن يجد مشقة في الاقتناع بحجم الحالة التي يجب ارساؤها والعمل الذي يقتضي القيام به. وهذا يقودنا بلا شك الى القيام بنقد ذاتي للماضي، ووضع مشروع للمستقبل.
هذا الموضوع يلي اعمال الدورة الاستثنائية التي اقمتموها في 12 و13 آذار 2007. ويعكس صدى النداء الذي وجهه اليكم يوحنا بولس الثاني في الارشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان” الذي دعا كل الأساقفة الى “ان يسهروا على ان تؤمن لتلك الخيرات ادارة صحيحة وعصرية، بروح من التجرد التام، وعلى يد اشخاص أكفاء ونزهاء، وبخاصة أهل للقيام بخدمة كنسية واجتماعية، وعلى هؤلاء ان يؤدوا حسابا عن ادارتهم وقراراتهم” علما ان ممتلكات الكنيسة هي خدمة رسولية في خدمة العمل الاجتماعي والخدمات التي على المسيحيين انجازها من منظور التنمية والعدالة، واضاف يوحنا بولس الثاني: “وبحكم مهمتي وبصفتي مديرا أعلى لجميع اموال الكنيسة الزمنية، أطلب الى كل الجماعات الكاثوليكية الشرقية ان تلتزم جذريا، وتتعهد بأن تهتم على الدوام بتأمين ادارة عقلانية وشفافة، موجهة بوضوح نحو الأهداف التي من اجلها اقتنيت تلك الخيرات”.
اخوتي وأخواتي الأعزاء، أنا أعي مثلكم كم هي ثقيلة التحديات التي تهدد لبنان وشعب لبنان بمكوناته المتعددة، وأدرك كذلك الجهود التي تبذلونها على كل المستويات لصون الوجه الأصيلة لبلادكم بروعتها ورسالتها المحددة، وذلك عبر تعزيز وتنمية كل ما هو حقيقي وطيب وجميل فيها، وعبر الاضاءة على كل قطاعات النشاطات البشرية بواسطة ادوات مطابقة للانجيل ومتناغمة مع الخير العام، وذلك وفق تنوع الظروف والأوضاع.
لا شيء مما نحوزه نمكله كليا، فنحن مفوضون من الله ان ندير الأموال والممتلكات لكي تؤت ثمارا لصالح البشرية جمعاء، المال هو وسيلة تبادل، أداة مفيدة في تعزيز العلاقات الانسانية بين البشر، وبامكان المال ان يعزز النمو الاقتصادي وتطور الشعوب. لا يتردد انجيل لوقا في وصف المال بالخداع ويعدد افخاخه:
– ارتهان الشخص للامتلاك، في مثل الغني الأحمق يكدرس الرجل فائض محاصيله في الأهراء ويخال نفسه بأمان لسنين طويلة، لكن الله يقول له ما معناه، أيها المجنون، هذه الليلة ستستوفى روحك فأين سيذهب ما تملك؟ هذا الرجل اختار الملك وخسر روحه، خال نفسه مالكا فاذا به مملوك.
– القطيعة مع الآخرين، هذه هي العبرة من مثل لعازار والغني هنا لا يكمن خطأ الغني في كونه حصل على ممتلكاته بطريقة غير سليمة، انما في تركه مسافة ترتسم بين مائدته العامرة وبطن فارغ. هذه المسافة تدمر الشراكة الانسانية، وهي مسافة لا يمكن حتى السماء ازالتها. وقد قال ابراهيم للغني: “بيننا وبينكم جعلت هوة عظيمة”.
– أموال هذا العالم التي كان يجب ان تكون علامة تواصل وشراكة صارت عائقا، جدارا، وكما يقول ابراهيم للغني الذي يطلب منه ابلاغ اخوته: “انهم وان قام واحد من الأموات، لا يصدقون.
نرى في الانجيل دائما ان الشخص الذي يتلقى رسالة يسوع يبدل جذريا موقفه حيال المال، الانجيل يحرر، فور صدور النداء عن يسوع ترك العشار متى عمله كجابي ضرائب ( متى 9: (9-13) , وقال زكا رئيس العشارين :” ها انا سيدي اعطي الفقراء نصف اموالي وان كنت ظلمت احدا ارد اربعة اضعاف( لوقا 19:8).
قامت الجماعة المسيحية الاولى منذ البداية على التقاسم والشراكة:” ولم يكن لجماعة المؤمنين الا قلب واحد، ونفس واحدة، ولم يكن فيهم من يقول عن شيء يملكه انه له، بل كان كل شيء لهم مشتركا بينهم.. ولم يك
ن فيهم محتاج فيوزع على كل واحد بحسب احتياجه ( اعمال الرسل 4: 32-35).
بين العديد من آباء الكنيسة الذين عالجوا هذا الموضوع يسأل القديس باسيليوس :” بماذا ستجيب القاضي الاكبر انت الذي يكسو اخاه؟ انت الذي يزين الاحصنة ولا يلقي حتى نظرة على اخيه الواقع في محنة؟ انت الذي يترك قمحه يهترىء ولا يطعم الجياع؟ انت الذي يخبىء ذهبه ولا يهب لمساعدة المحتاج؟
وتسأل لمن اسأت عندما احتفظت بما لي؟ ولكن قل لي:” ما هو لك؟ من اين حصلت عليه لتحمله في حياتك؟ الامر تماما كمن يحصل على مقعد في المسرح ثم يبعد الذين يريدون الدخول ويزعم الاحتفاظ لنفسه بما هو مخصص لاستعمال الجميع، هكذا يفعل الاغنياء لانهم اول شاغلي مال مشترك ما يخالون ان لهم حق امتلاكه.( عظة رقم 6، حول الغنى).
لقد ذكر المجمع الفاتيكان الثاني بقوة بهذه الغاية العامة للثروة،” لقد وضع الله الارض وكل شيء في خدمة جميع البشر وجميع الشعوب بحيث تسري ثروات الخلق بين ايدي الجميع ( ايمان ورجاء عدد 9).
ترك كل شيء، هذا ما فعله الرهبان الاولون، ومن بعدهم فرنسيس الاسيزي وكثر اخرون ممن نذروا انفسهم الفقر لكي يتبعوا المسيح، واليوم نرى اشخاصا وجمعيات دينية وجماعات مختلفة تشهد للنداء النبوي للانجيل.. “بع كل شيء لك، واعطه للفقراء فيكون ذلك كثر في السماء ( مرقس 10-21).
نحن لا نزال بعيدين عن الارتقاء الى مستوى الارملة التي رأيناها في الانجيل لا تعطي مما هو فائض عنها “فهي من عوزها القت كل معيشتها ( لوقا 21: 1-4) نحن لا نزال بعيدين عن الاستجابة لحاجات مليارين و800 مليون انسان لا يملكون اكثر من دولارين يوميا للعيش.
لا يمكن تحجيم التقاسم الى مستوى المساهمة المالية، فاعطاء المال من دون بذل النفس هو كذبة التقاسم يعني ان يعطي المرء ضمن امكاناته من وقته وماله وقدرته ومؤهلاته ويعني ايضا ابداء التضامن بكل اشكاله.
ان الادارة الحسنة لما في حوزتنا بهدف تحقيق الخير العام ليست امتيازا الاشخاص بل هي واجب المجتمع وكل الجماعات الكنسية.
الى اي مدى يصل اليوم التشارك في الكنائس المختلفة في العالم، بين الابرشيات والرعايا والجماعات والحركات والاجهزة الكنسية؟ الانجيل لا يتحدث عن الاملاك الفردية فقط، جماعات وكنائس محلية وابرشيات وجمعيات لا تحسن استخدام اموالها، لا بل كيف توظفها في حين ان جهات مماثلة اخرى لا تملك الوسائل لجعل كنهتها يعيشون بشكل لائق ولا للقيام بنشاطات ضرورية لنشر كلمة الانجيل.
منذ بدايات الكنيسة، نظم القديس بولس في الجماعات التي أسسها حملات تبرع من اجل الجماعات المسيحية في القدس التي كانت بعوز، داعيا الناس الى التشبه بكرم الرب يسوع “هو الغني، قد افتقر من اجلكم لكي تستغنوا انتم بفقره”.
اذا كان المسيحيون يرغبون في ان تكون الدولة أكثر كرما مع المهمشين في المجتمع والمهاجرين والدول المدينة، فانه من الملح ان يكونوا القدوة والمثال الأعلى ليس على المستوى الفردي فحسب بل على المستوى الجماعي ايضا.
صاحب النيافة واصحاب الغبطة والاخوة والاخوات الأعزاء،
في النقاشات الحالية حول سلطة المال “الفقاعة” المالية، البورصة على الانترنت، اختيار الاستثمارات، لا يمكننا البقاء مكتوفي الأيدي او الغياب عن النقاش تاركين للآخرين القيام بالمبادرات حتى لا يكون الفقراء ضحايا او رهائن لنظام لا بديل منه، وان الادارة الحسنة لأموالنا وفقا لمتطلبات الانجيل تجعلنا خلاقين اكثر في مساهمتنا في ادارة اموال كنائسنا.
كم من حقائق رئيسية في حياة الانسان لا يمكن للأسواق والمال تأمينها: فرح الادراك والمعرفة، فرح الاندهاش، فرح ان نحب وان نحب، احترام البذل المجاني والتأمل، احترام ما يبدو غير فعال واحترام حس التقاسم والتضامن.
مع تمنياتي لكم بالنحاج الباهر في أعمالكم، انضم الى كل منكم في الصلاة لكي يملأكم الله بنعمه، ويمنح هذا البلد العزيز الاستقرار والتضامن والازدهار”.