رسالة الأب الأقدس بندكتس السادس عشر بمناسبة الذكرى المئوية السادسة عشرة لوفاة القديس يوحنا فم الذهب

الفاتيكان، 22 نوفمبر 2007 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي القسم الثاني من الرسالة التي وجهها البابا بندكتس السادس عشر إلى الأساقفة وإلى سائر المؤمنين بمناسبة الذكرى المئوية  السادسة عشرة لوفاة القديس يوحنا فم الذهب، الأسقف وملفان البيعة. 

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

 تأتي الرسالة بمناسبة افتتاح المؤتمر العالمي ” Chrysostomika II”، الذي عقد في المعهد الآبائي ” Augustinianum “، وفي المعهد الحبري الشرقي من 8 إلى 10 نوفمبر 2007.

 * * * 

 لقد تحدث فم الذهب بشغف عن وحدة الكنيسة المنتشرة في العالم، في أنطاكيا وفي القسطنطينية.  وكان يقول في هذا الصدد: “المؤمنون في روما يعتبرون أولئك الذين هم في الهند أعضاءً من جسدهم” (44) وكان يسلط الضوء على أنه لا يوجد في الكنيسة مكان للإنقسام. 

“الكنيسة – كان يهتف – وُجدت لا لكي ينقسم أولئك الذين سبق واتحدوا، بل لكي يستطيع المنقسمون أن يتحدوا” (45).   وكان يجد في الكتاب المقدس التأكيد الإلهي على هذه الوحدة. في عظاته حول رسالة القديس بولس الأولى إلى الكورنثين، كان يذكر سامعيه أن “بولس يتحدث عن الكنيسة كـ “كنيسة الله” (46)، مبينًا أنها يجب أن تكون متحدة، وبما أنها “لله”، هي موحدة، وليس فقط في كورنثوس، بل أيضًا في العالم؛ فاسم الكنيسة، بالواقع، ليس اسم انقسام بل اسم وحدة وتفاهم” (47).

  بالنسبة ليوحنا، ترتكز وحدة الكنيسة على المسيح، الكلمة الإلهي الذي اتحد عبر تجسده بالكنيسة كالرأس بجسده (48): “حيث الرأس، هناك الجسد أيضًا”، وبالتالي “ما من انقسام بين الرأس والجسم” (49). 

 لقد فهم أنه بالتجسد لم يصر الكلمة الإلهي بشرًا فحسب، بل اتحد بنا أيضًا جاعلاً منا جسده: “لأنه لم يكن كافيًا له أن يصير بشرًا، أن يتعرض للضرب وأن يُقتل، لقد اتحد بنا ليس فقط بالإيمان، بل أيضًا بالحقيقة يجعل منا جسده” (50).

  في تعليقه على مقطع الرسالة إلى الأفسسين: ” وجَعَلَ كُلَّ شَيءٍ تَحتَ قَدَمَيْه ووَهَبَه لَنا فَوقَ كُلِّ شَئٍ رَأسًا لِلكَنيسة،  وهى جَسدُه ومِلْءُ ذاك الَّذي يَملأُه اللّهُ تمامًا” (51) يشرح يوحنا بالقول: “كما لو أن الرأس يكتمل بالجسد، لأن الجسد مؤلف من مختلف أعضائه. جسده إذًا هو مؤلف من الجميع. لأن الرأس هو مكتمل، والجسد يصبح كاملاً عندما نكون كلنا متحدين بالوحدة” (52). لذا ينهي يوحنا بالقول أن المسيح يوحد كل أعضاء كنيسته بذاته وبعضهم ببعض. إيماننا بالمسيح يطلب منا أن نلتزم باتحاد فعلي وأسراري بين أعضاء الكنيسة، واضعًا حدًا لكل الانقسامات.

  بالنسبة لفم الذهب، إن وحدة الكنيسة التي تتم في المسيح تنال شهادة خاصة في الافخارستيا. لقد تم تلقيبه بـ “ملفان الافخارستيا” لأجل عمق وسعة تعليمه بشأن هذا السر الأقدس (53)، فهو يعلّم أن الوحدة الأسرارية للافخارستيا تشكل الركيزة للوحدة الكنسية في المسيح وبه. “طبعًا هناك الكثير من الأمور التي تجمعنا سوية. هناك مائدة مبسوطة أمام الجميع… إلى الجميع تم تقديم الشراب نفسه أو، بالحري، ليس فقط الشراب نفسه بل أيضًا الكأس نفسها. لقد أعد أبانا، الذي يريد أن يقودنا بعطف وحنان، هذا الأمر أيضًا، أي أن نشرب من كأس واحدة، وهذا أمر ينبع من محبة عميقة” (54). 

 بتأمله في كلمات القديس بولس في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، ” أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟” (55)، يعلق يوحنا: لذا، بالنسبة للرسول “كما أن ذلك الجسد هو متحد بالمسيح، كذلك نحن أيضًا متحدون بواسطة هذا الخبز” (56). وبشكل أوضح، على ضوء كلمات بولس اللاحقة: “فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبْزِ الواحِد” (57)، يحاجج يوحنا بالقول: “ما هو الخبز؟ جسد المسيح. وماذا يصبح أولئك الذين يأكلونه؟ جسد المسيح؛ لا أجسادًا كثيرة بل جسدًا واحدًا. كالخبز، بالرغم من أنه مؤلف من حبات قمح كثيرة، يصبح واحدًا… كذلك نحن أيضًا نتحد أحدنا بالآخر وبالمسيح… الآن، إذا تغذينا من الخبز نفسه وأصبحنا كلنا شيئًا واحدًا، لم لا نبين الحب نفسه أيضًا، لكي نصبح في هذا البعد أيضًا شيئًا واحدًا؟” (58).  

لقد دفع إيمان الذهبي الفم بسر الحب، الذي يربط المؤمنين بالمسيح وفي ما بينهم، دفع به إلى التعبير عن تكريم عميق للافخارستيا، إكرامًا غذاه بشكل خاص في الاحتفال بالليتورجية الإلهية. لا عجب أن تحمل إحدى أغنى تعابير الليتورجية الشرقية اسمه: “الليتورجية الإلهية بحسب القديس يوحنا الذهبي الفم”. كان يوحنا يفهم أن الليتورجية الإلهية تضع المؤمن روحيًا بين الحياة الأرضية والحقائق السماوية التي وعد بها الرب.

   لقد عبر للقديس باسيليوس الكبير عن رهبة الإجلال التي تعتريه لدى احتفاله بالأسرار الإلهية بهذه الكلمات: “عندما ترى الرب المذبوح موضوعًا على المذبح، والكاهن، يصلي وقوفًا فوق الذبيحة… يمكنك يا ترى أن تفكر أنك ما زلت بين البشر، وأنك على الأرض؟ على العكس،  ألا تشعر فورًا أنك رُفعت إلى السماء؟”. 

 يقول يوحنا أن الطقوس المقدسة “ليست روعة للنظر وحسب، بل هي فائقة الطبيعة لأجل الرهبة التقوية التي تولّدها. فهناك يقف الكاهن.. الذي يجعل الروح القدس ينزل، ويصلي مطولاً لكي تستطيع النعمة التي تنزل على الذبيحة أن تنير في ذلك المقام عقول الجميع، وأن تجعلها أكثر تألقًا من الفضة المطهرة بالنار. من يستطيع أن يحتقر هذا السر الكريم؟” (59). 

 بعمق كبير يتوسع يسوع في التفكير حول مفاعيل الشركة الأسرارية [المناولة] في المؤمنين: يجدد دم المسيح فينا صورة ملكنا، وينتج جمالاً يفوق الوصف، ولا يسمح بأن يتم تدمير نبل نفوسنا، بل لا ينفك يرويه ويغذيه باستمرار” (60). لهذا السبب يحض يوحنا المؤمنين مرارًا وتكرارًا على التقرب من مذبح الرب باستحقاق، “لا باستخفاف… لا بسبب العادة والمظاهر”، بل بـ “الصدق ونقاوة الروح” (61). 

 ويردد يوحنا بلا وهن أن التحضير للمناولة المقدسة يجب أن يتضمن التوبة عن الخطايا والشكران لأجل الذبيحة التي يكملها المسيح لأجل خلاصنا. وعليه يحض المؤمنين على المشاركة بالكلية وبتقوى بطقوس الليتورجية الإلهية، وقبول المناولة المقدسة بتلك الاستعدادات عينها: “لا تدعونا، رجوناكم، نهلك بسبب قلة احترامكم، بل تقربوا منه بتقوى ونقاوة، وعندما ترونه موضوعًا أمامكم، قولوا لأنفسكم: “بفضل هذا الجسد أنا لم أعد ترابًا ورماد، لم أعد سجينًا، بل حرًا؛ بفضل هذا أنا أرجو الفردوس، وأن أنال الخيرات، ميراث الملائكة، وأن أتحاور من المسيح” (62).

  بالطبع، من التأمل بالسر، كان يوحنا يحصد أيضًا النتائج الخلقية التي كان يشرك بها سامعيه: كان يذكرهم أن الشركة مع جسد المسيح ودمه تلزمهم بتقديم العون المادي للفقراء والجائعين الذين يعيشون في ما بينهم (63). 

 مائدة الرب هي المكان الذي يتعرف فيه المؤمنون على الفقير والمحتاج الذي ربما كانوا قد تجاهلوه بالسابق (64). يدعو يوحنا المؤمنين في كل الأزمان إلى النظر أبعد من المذبح الذي يتم عليه تقديم الذبيحة الافخارستية وأن يروا المسيح في شخص الفقراء متذكرًا أنه بفضل المساعدة التي يتم تقديهما إلى المحتاجين يستطيعون تقديم ذبيحة مرضية إلى الله على مذبح المسيح (65).

  4. خلاصة 

 كل مرة نلتقي فيها بآباء الكنيسة هؤلاء – يكتب يوحنا بولس الثاني بشأن أب وملفان كبير في الكنيسة، هو القديس باسيليوس – “نتثبت في الإيمان ونتشجع في الرجاء” (66). تقدم لنا المئوية السادسة عشرة لوفاة القديس يوحنا فم الذهب فرصة مناسبة جدًا لتكثيف الدراسات حوله، ولكي نعاود اكتشاف تعاليمه وننشر تكريمه.

  أنا حاضر روحيًا بنفس شاكرة في المبادرات والاحتفالات المختلفة، التي يتم تنظيمها بمناسبة هذه المئوية السادسة عشرة، وأتمنى النجاح لجميع القائمين عليها. أود أن أعبر عن رغبة شديدة في أن يصبح آباء الكنيسة، “الذين يتردد في صوتهم صدى  التقليد المسيحي الثابت” (67)، أن يصبحوا أكثر فأكثر مرجعًا ثابتًا بالنسبة لجميع لاهوتيي الكنيسة. فالعودة إليهم تعني الرجوع إلى ينابيع الخبرة المسيحية، لتذوق نضارتها وأصالتها. أي تمنٍ أفضل من هذا يمكنني إذًا أن أوجهه إلى اللاهوتيين، إن لم يكن التمني بالتزام متجدد في استعادة تراث الآباء القديسين الحكمي؟ لا يمكن أن يصدر عن هذا إلا غنىً ثمينًا بفضل تفكيرهم بقضايا هي أيضًا قضايا عصرنا.  

يسرني أن أنهي هذه الوثيقة بكلمة أخيرة من الملفان العظيم، يدعو فيها المؤمنين – ونحن أيضًا بالطبع – إلى التأمل بالقيم الأزلية: “كم من الوقت أيضًا سنبقى مسمّرين على الأمور الحاضرة؟ كم من الوقت أيضًا يلزمنا لكي نستطيع النهوض؟ حتى متى سنستمر في تجاهل خلاصنا؟ دعونا نتذكر ما قد اعتبرنا المسيح أننا نستحقه، دعونا نشكره، ونمجده، ليس فقط بإيماننا بل أيضًا بأعمالنا، دعونا نتذكر أننا نستطيع نوال خيرات المستقبل لأجل النعمة ولأجل رحمة وطيبة ربنا يسوع المسيح، الذي له المجد مع الآب والروح القدس، الآن وإلى دهر الداهرين. آمين” (68).

  أبارككم جميعًا!   أعطي في كاستل غاندولفو، في 10 أغسطس من عام 2007، الثالث للحبرية   الحبر الأعظم بندكتس السادس عشر

:::::::

44 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Joannem 65,1 (PG 59,361-362).

45 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 27,3 (PG 61,228).

46 Cfr. 1 Cor 1,2.

47 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 1,1 (PG 61,13).

48 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 30,1 (PG 61,249-251); id., In epistulam ad Colossenses 3,2-3 (PG 62,320); id., In epistulam ad Ephesios 3,2 (PG 62,26).

49Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Ephesios 3,2 (PG 62,26).

50 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Matthaeum 82,5 (PG 58,743).

51 Cfr. Ef 1,22-23.

52 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Ephesios 3,2 (PG 62,26). Cfr. ibid., 20,4 (PG 62,140-141).

53 Cfr. Benedictus XVI, Discorso durante la recita del Angelus, Castel Gandolfo, 18 settembre 2005.

54 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Matthaeum 32,7 (PG 57,386).

55 Cfr. 1 Cor 10,16.

56 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 24,2 (PG 61,200). Cfr. id., In Ioannem 46,3 (PG 63, 260-261); id., In epistulam ad Ephesios 3,4 (PG 62,28-29).

57 Cfr. 1 Cor 10,17.

58 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 24,2 (PG 61,200).

59 Cfr. Johannes Chrysostomus, De sacerdotio 3,4 (SCh 272,142-146). Cfr. Benedictus XVI, Sacramentum caritatis, n. 13, 22 febbraio 2007.

60 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Ioannem 46,3 (PG 63,261).

61 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Ephesios 3,4 (PG 62,28). Cfr. id., In epistulam i ad Corinthos 24 (PG 61,197-206); id., In epistulam i ad Corinthos 27,4 (PG 61,229-230); id., In epistulam i ad Timotheum 15,4 (PG 62,583-586); id., In Matthaeum 82,6 (PG 58,744-746).

62 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 24,4 (PG 61,203).

63 Cfr Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 27,5 (PG 61,230-231), id., In Genesim 5,3 (PG 54,602-603).

64 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 27,5 (PG 61,230).

65 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ii ad Corinthos 20,3 (PG 61,540). Cfr. id., In epistulam ad Romanos 21,2-4 (PG 60,603-607).

66 Cfr. Ioannes Paulus II, Patres Ecclesiae, n. 1 (2 gennaio 1980).

67 Cfr. Benedictus XVI, Discorso durante l’Udienza generale, 9 novembre 2005.

68 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Ioannem 46,4 (PG 63,262).

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير