تستقبلنا اليوم بيت لحم – برسالتها الخالدة: رسالة الخلاص والمحبة والتواضع والسكينة. في هذه المدينة ولد طفل بيت لحم، وإليها يعود سيّداً للعالمين وديّانا.
وما أحوجنا هذه الأيام إلى عودته، لترجع الأمور إلى نصابها، وليعود إلينا طعم السلام والعدل والحرية، “فنحيا حياة وادعة مطمئنة، بكل تقوى وكرامة”. (تيموثاوس ٢ : ۲)
هذه القيم التي ولّت عنا من زمان بعيد، وأصبحنا نركض وراءها ونلهث، ونطلبها من كل زائر يزورنا، وكل مسؤول يحل بيننا. كلّنا يعي الصعوبات والآلام التي يختبرها شعبنا يومياً، نتيجة الحروب والتوترات السياسية التي أصابت منطقتنا، وألحقت بنا الكوارث الإنسانية من غير حصر، وأنزلت بنا الكبت والقهر.
قيم السلام والعدل والحرية، أصبحت في بلادنا سلعة نادرة، ومن قلتها أصبحنا غرباء في بلادنا، نشحد حرية التحرك حتى في شوارعنا، وحرية العمل حتى في ديارنا.
ويسأل عنها شبابنا وشاباتنا الدوائر الحكومية التي يشلّها العجز، أمّا المؤسسات الدولية فإنها تتعاطف مع شعبنا المسكين، ويبقى نداؤها في سبيل إنصافه حبراً على ورق، وصراخاً في برّية. يطرق شبّاننا وشيبنا الأبواب، وليس من يفتح. يمخرون البحار، ويجولون بقاع الأرض، وهم يسألون السماء نازحين لاجئين، لعلّهم يجدون في المهجر ما لا يتوفر في بلادنا من أمن وأمان ورزق شريف.
يا طفل بيت لحم !!
من قبلنا خوفاً من الظلم وطلباً للحياة، هجرت مدينة بيت لحم متوجهاً إلى أرض الفراعنة، وسرت مع والدتك الطهور مريم العذراء في دروب وعرة ومظلمة ومؤلمة، منذ البشارة مروراً بالهيكل، حتى الجلجلة حتى “الموت ، موت الصليب” (فليبي ٢: ٨). ولكنك عدت، عدت إلى فلسطين، لتعيش في كنف والديك حياة خفية متواضعة، حيث كنت تنمو في “السن والحكمة والنعمة”(لوقا ٢:٥٢). ويا ليت أبناءنا يعودون من الهجرة ليملؤا البيوت والكنائس والشوارع، بعزمهم وهمتهم وضحكاتهم، فننشد كل يوم في بيت لحم، وفي كل بيت فرحة الميلاد السيدي المجيد، “إنني أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: اليوم ولد لكم مخلّص، وهو المسيح الرب في مدينة داود”. ( لوقا 2: 10– 11).
يا رب، يا طفل بيت لحم
كثيرة الأسئلة التي نطرحها، ولا نجد لها جوابا “كيف ومتى؟”. وهل سنجد لمعضلاتنا حلولا؟ لماذا هذا الوضع المأساوي الذي تعيشه هذه “الارض الطّيّبة” والمدينة المقدسة، ومتى تنتهي شدّتنا، ويطمئن شبابنا في حياتهم ومستقبلهم. ومتى يتوقف نزف الهجرة، حيث يترك المؤمن ما قدّس الله من تراب وما ورث من تراث، فيهجر بالدمع السخين شجر الزيتون وكروم العنب والتين، بعد أن فقد الأمل في إصلاح الحال، وزال منه روح الإنتماء إلى هذا الوطن الفريد، وطن الرب المجيد والعذراء النقيّة والكنيسة الاولى، فهام أهلنا على وجوههم هربا من العنف والظلم، وطلبا لمستقبل تتوفر فيه الحرية والعيش الكريم.
يا طفل بيت لحم!
كم نحن بحاجة إليك، وبحاجة أن نرجع إلى براءة الطفولة، مقتدين بشجاعة العذراء، وصبر القديس يوسف وتواضع الرعاة، فعالمنا خشن قاس لا يرحم، يؤمن بحقّ القوّة لا بقوّة الحقّ!
يا طفل بيت لحم!
نريدك أن تولد من جديد، وتترعرع في ربوعنا من جديد، وتسمعنا صوتك. وكما نرتّل في تساعية الميلاد مستشهدين بالأنبياء: “يا ليتك تشقّ السماوات وتنزل، أقطري أيتها السماوات من فوق، ولتمطر الغيوم الصدّيق، لتنفتح الأرض ولتثمر الخلاص” ( أشعيا63: 19،8:45). نريد، يا طفل المغارة، أن يدوّي صوتك من جديد في سماء بلادنا.
– “طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض”.
– “طوبى للرحماء فإنّهم يُرحَمون”.
– “طوبى لصانعي السلام، فهم أبناء الله يُدعَون”. (متى ٥: ٤،٧،٩)
نريدك أن تولد هنا في بيت لحم، تولد في بيوتنا وقلوبنا، تولد وتسير في شوارع بيت لحم، وسائرمدن فلسطين، وترى بيوتها المهجورة، وأراضيها المصادرة، وحوانيتها المغلقة.
أيها الأخوة: لنا في إيمان مريم البتول الوالدة مثال نقتدي به ونهتدي، فهي أمينة في إيمانها، رغم الأسئلة الكثيرة التي كانت تجول في ذهنها، ولا جواب عليها إلا عند الله. وهي ملتزمة بمشيئة الله وإن كانت عليها شاقّة، إذ أعلنت في الناصرة للمرسل السماوي: “ها أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك”، معطية إيانا خير قدوة في التناسق بين مخطط الله علينا وإرادتنا البشرية. إذ كانت تحفظ كل شيء وتتأمله في قلبها”، ما كان يحصل وكل ما كان يسوع يقول ويفعل ويطلب.
أيها الأخوة والأخوات،
بصفتي بطريرك أورشليم لللاتين ( للأردن وفلسطين وإسرائيل وجزيرة قبرص)، أود أن أعبّر لكم عن سعادتي بوجودي بينكم، وشكري الجزيل لإستقبالكم لنا بكل مودة ومحبة وحرارة وحفاوة. أشكر بنوع خاص كاهن الرعية قدس الأب صموئيل فهيم، وجميع الأخوة الكهنة الرعاة الحاضرين هنا، كما أشكر السلطات المدنية التي كانت في إستقبالنا والرهبان والراهبات.
نرجو أن تزداد اللقاءات بيننا لننسق لما فيه خير المواطنين جميعا، مسيحيين ومسلمين.
أهنئ كل الفعاليات الموجودة في رعايا بيت لحم، وبيت جالا، وبيت ساحور، من جوقات ترتيل وكشاف وأخويات. أملي أن نلتقي بها في المستقبل، لنطلع على كل النشاطات والمبادرات الطيبة، ونسير يداً بيد، مستنيرين بنور طفل المغارة الإلهي.
بما أن الأبرشية تحتفل بسنة “الأسرة المسيحية”، أطلب من طفل بيت لحم وأمه العذراء، والقديس يوسف الصدّيق، أن يحموا عائلاتنا وشبابنا، فنكون متحدين فيما
بيننا، ونتمم رسالتنا، كأداة سلام ومحبة في بلد السلام والمحبة. أستمطر عليكم النعم الإلهية، وبركة الله القادر على كل شيء، الأب والإبن والروح القدوس تكون معكم، وتهدي خطواتكم بنعمة الكلمة. آمين
† البطريرك فؤاد الطّوال
بيت لحم، في 25 حزيران 2008