والتاسِعَ عَشَرَ من تشرينَ الأَوَّلِ تاريخٌ ارْتَبَطَ ارتباطاً عميقاً بالقديسةِ تريزيا الطفلِ يسوعَ وبِأُسْرَتِها، فهو اليومُ العالميُّ للرسالاتِ وتريزيا شفيعَةُ الرسالاتِ وقد أعلنها البابا بيوسُ الحادي عَشَرَ، وهو اليومُ الذي أُعْلِنَت فيهِ تريزيا ملفانَةَ الكنيسةِ جمعاءَ؛ فَمُبارَكٌ هذا اليومُ وما احتَواهُ من أحداثٍ مميَّزةٍ.
وَبَعْدُ، فإِنَّهُ يَحْصُلُ، ولأَوَّلِ مَرَّةٍ في تاريخِ الكنيسةِ، أَنْ يُطوَّبَ زوجانِ لهما ابنةٌ قِدّيسةٌ هي مِلْفانةُ الكنيسةِ. والمُلْفِتُ أيضاً أَنَّ التطويبَ غيرُ مُتَعَلِّقٍ بقداسَةِ الابنةِ تريزيا، بَلْ لأَنَّ الزوجينِ الوالِدَيْنِ عاشا القداسَةَ والحياةَ العائليَّةَ المليئَةَ بالحُبِّ والتضحيةِ والخِدْمَةِ، وفي هذا الإطار تقولُ تريزيا عن والِدَيْها: “إِنَّ اللهَ المُحِبَّ قد وَهَبَني أباً وأُمّاً يستحِقّانِ السَّماءَ أَكْثَرَ مِن الأَرضِ، وقد طلبَا من اللهِ أَنْ يَهِبَهُما الكثيرَ من الأولادِ ليُقَدِّماهم لَه”. (26 تموز 1897 رسالة 261). وفي هذا السّياقِ لا بُدَّ من الإِشارَةِ إلى أَنَّ تطويبَ لويس وزيلي مرتان ليسَ الأَوَّلَ في الكنيسَةِ الكاثولكيَّةِ، بَلْ إِن البابا يوحَنا بولسَ الثاني قد طوَّبَ في العام 2001 عائلة لويجي وماريا بلترامي كواتروكي الايطالية.
في هذه المناسبةِ تحضُرُنا شخصيةُ لويس مارتان وهو شابٍّ ممشوقُِ القامَةِ، وسيمُ الطلعَةِ، يَرْغَبُ في أَنْ يُصْبِحَ راهِباً، لكنَّهُ لَمْ يُقْبَلْ في ديرِ القِدّيسِ برنردوسَ لِجَهْلِهِ اللغةَ اللاتينيةَ. وتحضُرُنا بالمقابِلِ شخصيَّةُ الفتاةِ الجذّابةِ زيلي، التي هي أيضاً كانَتْ ترغَبُ في أَنْ تُصْبِحَ راهبَةً، من راهِباتِ القِدّيسِ منصورِ دي بول مؤسِّسِ راهباتِ المحبَّةِ، لَكِنَّ الأُمَّ الرئيسةَ رفضتها بِلُطْفٍ قائلةً لَها: ” إِنَّ اللهَ لا يَدْعوكِ إلى الحياةِ الرُّهبانيَّةِ”.
وشاءَتِ الظّروفُ أن يتلاقى لويس وزيلي لأَوَّلِ مرَّةٍ على جِسْرِ سان ليون في مدينةِ ألِنسون. لويس ساعاتي وبائِعُ حُلىً، وزيلي صاحِبَةُ مَشْغَلِ دانتال. ثُمَّ قَرَّرا أَنْ يعيشا معاً تحتَ سَقْفٍ واحِدٍ، وكانتِ ال(نَعَمُ) التي قالَها كُلٌّ منهما في 12 تموز 1858 في كنيسةِ السيّدةِ العذراءِ مريمَ في ألِنسون، بدايةَ رِحْلَةِ القداسةِ والحياة الزوجية والعائليَّةِ. هو مميَّزٌ بالانتباهِ الواعي وحسنِ التدبير وهي مميَّزةٌ بالديناميكيّةِ واللطافةِ المحبّبَة.
رُزِقَ الزوجانِ بتسعَةِ أولادٍ سَبْعِ بَناتٍ وصبيّيْنِ، لَكِنْ لمْ يَبْقَ منهم على قيدِ الحياةِ سوى خمسِ بناتٍ دَخَلْنَ الديرَ بأجمَعِهِنَّ حَيْثُ تَكَرَّسْنَ مُحَصَّناتٍ لِخدمةِ الرَّبِّ.
لقد عاشَ الزوجانِ لويس وزيلي تِسْعَ عشرةَ سنةً من الحياةِ الزوجيَّةِ العائليَّةِ المليئةِ بالحُبِّ والعطاءِ والصلاةِ والخدمَةِ والتضحية، وقد أقاماها على أساسٍ ثابتٍ صالِحٍ وقويٍّ هو كلمةُ اللهِ، ولطالما طبَّقا كلامَ الإنجيلِ: “… يتركُ الرجُلُ أباه وأُمَّهُ ويلزمُ امرأَتَهُ، ويصيرُ الاثنانِ جسداً واحداً، فلا يكونانِ اثنينِ بعد ذلكَ بل جسدٌ واحِدٌ، فما جَمَعَهُ اللهُ لا يُفَرِّقُهُ الإنسانُ” (متى 19/65).
في هذه المناسبةالمباركة، نسأَلُ ونتساءَل أَيُّها الأَحِبَّاءُ: ماذا نتعلَّمُ نحنُ اليومَ من هذينِ الطوباويّيْنِ؟ ما تُراهما يقولانِ لنا؟ ماذا يُحرِّكانِ في قلوبِ عائلاتِ العالَم وعائلاتِ لبنانَ؟ وكيفَ يَشهدانِ لعائلاتِ الألفِ الثالِثِ؟
لويس وزيلي مارتان يقولانِ لنا إِنَّ القداسةَ ليْسَتْ حِكراً على أَحَدِ، بلْ إِنَّ الجميعَ مدعوّون إليها، أَكانوا مُكرَّسينَ أَمْ علمانيينَ، بتولينَ أَمْ متزوّجينَ… يقولانِ إِنَّ القداسةَ مُمْكِنَةٌ وجديرةٌ بالتحقيقِ وليسَتْ مستحيلةً على العائلاتِ المسيحيَّةِ إذا أَرادَتْ عَيْشَها وبُلوغَها.
لويس وَزيلي مرتان يشهدانِ بأَنَّ كُلَّ عائلةٍ قادرةٌ على أن تكونَ كنيسةً بيتيَّةً ومشتلاً صالحاً للدعواتِ الرُّهبانيَّةِ والكهنوتيَّةِ وهي التي تبني الإنسانَ المؤمِنَ والمواطِنَ الصالِحَ.
مع لويس وزيلي تقدِّمُ الكنيسةُ مثالاً فريداً لأزواجِ العالَمِ وعائلاتِه، وتدعوهم إلى اكتشافِ عظمَةِ الزواجِ وكرامتِهِ وسِرِّ الحُبِّ الذي يسكنُ قلبَ الرجُلِ وقلبَ المرأةِ منذُ “أَنْ خَلَقَهُما اللهُ ذكراً وأُنثى على صورتِهِ ومثالِهِ”.
هذانِ الطوباويّانِ يشهدانِ من خلالِ حَياتِهما على أَنَّ دورَ الوالِدَيْنِ مهِمُّ في التربيةِ النفسيَّةِ والجسديَّةِ، لكنَّ دورَهُما الأهَمَّ يَكْمُنُ في نَقْلِ الإيمانِ والانفتاحِ على اللهِ والصلاةِ وشُكرِ الرَّبِّ على النِّعَمِ.
لويس وزيلي هُما علامةٌ وشهادَةٌ حيَّةٌ لِكُلِّ الأزواجِ، وذلك بمثَلهِما الصالِحِ وعيْشِهما اليوميِّ، وفي هذا الصدَدِ يقولُ البابا بولسُ السادِسُ: ” إِنَّ إنسانَ اليومِ يؤمِنُ بالشهودِ أَكْثَرَ منه بالمعلِّمينَ”. وبالتالي، فإِنَّ لويس وزيلي يتوجّهانِ إلى كلِّ العائلاتِ المتألّمةِ، الحزينةِ والمظلومَةِ، فهما عاشا المرضَ والتخلّي والامتحانَ والوَحْدَةَ: زيلي قَضَتْ بمرضِ السّرطانِ وبقي لويسُ وحيداً من دونِ زوجةٍ وأُمٍّ تهتمُّ ببناتِها الخمسِ، وعرفَ التخلّي في العطاءِ وعاشَهُ من خلالِ ذَهاب بناتِهِ إلى الديرِ، وعَبْرَ تقد
ِمَتِهنَّ للربِّ.
إلى ذلك، فإِنَّ حياةَ لويس وزيلي تُثبِتُ لنا مرَّة جديدةً أَنَّ الزواجَ الناضِجَ والناجِحَ يستمِرَّ إلى النهايةِ ويواجِهُ كُلَّ الصعوباتِ ويتغلَّبُ عليها، لأنهُ قائِمٌ على صخرةِ منيعةٍ هي كلمةُ اللهِ.
في هذا الجَوِّ العابقِ بالأمثولاتِ المقدَّسَةِ، أشْكُرُ الربَّ وإيّاكُم على هذهِ النعمةِ المُتَمثِّلةِ بحضورِ عائلةِ مارتانِ بينَنا في هذا الدّيرِ. لقد حَضَرَ لويس وزيلي وتريزيا إلى هَهُنا ليكونوا شُفعاءَ لنا لدى يسوعَ المسيحِ لعلَّهُ يُبارِكُ كُلَّ عائلةٍ ويَمْنَحُها القوَّةَ والصّبرَ والقدرةَ على الاستمرارِ والتضحيةِ والعطاءِ وعيشِ الامانةِ الزوجيَّة. لقد جاؤوا ليساعِدوا كُلَّ عائلةٍ لعلَّها تصبِحُ كعائلةِ الناصرةِ. لقد جاؤوا ليبارِكوا عائلاتِ لبنانَ فتشْهَدَ لحُبِّ الربِّ لها، وَلِتُصبِحَ مَشْتَلاً للدعواتِ وللمؤمنينَ، وأرضاً طيِّبَةَ للعطاءِ الخَصْبِ المُحِبِّ.
بشفاعَتِهم المُثَلَّثَةِ، نسأَلُ اللهَ أَنْ يُبارِكَ لبنانَ وَيَحْمِيَهُ ويُعطيَهُ السلامَ فتبقى عائلاتُنا مساكِنَ للحُبِّ والحوارِ ومطارِحَ لنموّ الإنسانِ بِصلاحٍ وكرامةٍ، ومقالِعَ تؤسِّسُ لوطنِ المستقبَلِ.
أحبائي! أَغْتَنِمُ هذهِ الفرصَةَ السعيدةَ لأُطلقَ مبادرَةً لَعَلَّها تصبِحُ موعِداً سَنويّاً. فيما أَنَّ الكنيسة أعْلَنت أَنَّ الثاني عشر من تموزَ هو يومٌ للاحتفالِ بعيدِ الطوباوييْنِ لويس وزيلي مارتان؛ فإنِّي بدوري، أُعْلِنُ أَنَّ 12 تمّوز من كلِّ سَنةٍ هو موعِدٌ ثابِتٌ نلتقي فيه معاً، في هذا الديرِ، لِنَقِفَ وِقْفَةَ تأمُّلٍ وصلاةٍ مَعَ العائلةِ ومن أَجْلِ العائلةِ ولكلِّ عائلة، فيكونُ يومَ عائلَةِ مارتان في دير القديسةِ تريزيا في سهيلة لبنان. وبانتظارِ حلولِ هذا الموعِدِ لنلتقيَ هَهُنا، نُصلّي ونضرَعُ إلى اللهِ من أَجْلِ لبنانَ ومن أجلِ العائلَةِ في لبنان. آمــين.