الانفصال المأساوي في العصر الحديث بين اللاهوت والقداسة

التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية (2)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

روما، الخميس 5 فبراير 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الثاني من مقالة روبير شعيب حول موضوع “التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية”.

* * *

بعد أن تحدثنا في القسم الأول من مقالتنا عن الانفصال المأساوي في العصر الوسيط بين اللاهوت والقداسة، ننتقل الآن إلى تحليل العصر الحديث.

1 . 2. العصر الحديث

يعتبر اللاهوتي الإيطالي المعاصر بيار أنجلو سيكويري (P.-A. Sequeri) أن العصر الحديث ساهم عبر إطارين باستمرار الانفصال الذي بدأ في العصر الوسيط.

الإطار الأول ينشأ مع الإصلاح البروتستانتي وهو ردة فعل على التطرف العقلي لبعض تيارات السكولائية (الفلسفة المدرسية). كردة فعل على الفصل الذي حملته السكولائية، قامت البروتستانتية بتسليط الضوء على العلاقة الروحية الفردية مع الله معتبرة إياها “السبيل الأوحد للإيمان الأصيل”.

خطأ هذه النظرة يكمن في التشديد على الخبرة الفردية كالوسيلة “الوحيدة”: نحن بصدد ما يعرف بإيمان-الثقة الذي يتحدث عنه لوثر، وما من خطأ هنا؛ يبدأ الخطأ عندما يتم التغاضي عن التعمق اللاهوتي.

الإطار الثاني يعود إلى العدد الكبير من المتصوفين والرائين في القرن السادس عشر والسابع عشر. لقد باتت الخبرة الصوفية في ذلك الزمن تحتل مكانة كبيرة ونشأ جدل حاد حول التصوف. بسبب طابع الخبرة الصوفية الفائق الطبيعة والمائل إلى المغالاة، والذي يؤدي غالبًا إلى إبعادها عن خبرة الإيمان الجامعة، قامت الكنيسة، كردة فعل، بأخذ موقف احتراس صنّف الخبرة الصوفية “في إطار المواهب الفردية، الجديرة بالتقدير، ولكن غير الضرورية”. بهذا الشكل، بدل دمج الصوفية كعنصر في واقع الإيمان، وبدل تقديم وعي أوضح وأعمق للصوفية، تم عزلها وتصنيفها كخبرة فردية، غير ضرورية للإيمان الحق.

وقد أدى هذا الإنطواء على الخبرة الفردية من جهة، وعزل ونفي الخبرة الصوفية من جهة أخرى إلى تعمق الهوة بين القداسة واللاهوت. من هنا توصل المجمع الفاتيكاني الأول إلى تقديم تعريف لفعل الإيمان كـ “قبول عقلي بالأحكام الإلهية”، أي لمجموعة من العقائد.

فقط مع مجيء المجمع الفاتيكاني الثاني، أقله من ناحية الكنيسة الرسمية، توصلنا من جديد إلى وعي حيوي وشخصاني للوحي الإلهي، بحيث قدم المجمع الوحي كعلاقة وشركة بين الله والإنسان، وكهبة يقدم فيها الله، لا أحكامًا وعقائد، بل ذاته. يقول الدستور العقائدي ف الوحي الإلهي “Dei Verbum” في العدد 2:

لقد حَسُنَ لدى الله، بجودته وحكمته، أن يكشف عن ذاتِهِ ويُعلِنَ سِرَّ إرادته (راجع أف 1، 9)، الذي به يتوصَّلُ البشر إلى الآب في الروح القدس، بالمسيحِ الكلمةِ المتجسِّد ويصيرون شركاءَ في الطبيعةِ الإلهيَّة (راجع أف 2، 18؛ 2 بط 1، 4). فإنَّ الله غير المنظور، (راجع كول 1، 15؛1 تيم 1، 17) بفَيضٍ من محبته للبشر، يُكالِمهم كأحباءَ (راجع خر 33، 11؛ يو 15، 14-15) ويتحدَّثُ إليهم (راجع با 3، 38) ليدعوهم إلى شركته ويقبلهم فيها. وتدبيرُ الوحي هذا يقومُ بالأعمال والأقوال التي ترتبط فيما بينها إرتباطاً وثيقاً، بحيثُ أنَّ الأعمال التي حقَّقَها الله في تاريخ الخلاص تُبرِزُ العقيدةَ والحقائقَ التي تُعَبِّرُ عنها الأقوالُ وتدعمُها، بينما الأقوالُ تعلنُ الأعمالَ وتوضح السرَّ الذي تَحويه. أمَّا الحقيقة الخالصة التي يُطلعنا عليها الوحي، سواءَ عن الله أم عن خلاصِ الإنسان، فإنَّها تسطعُ لنا في المسيح الذي هو وسيطُ الوحي بكامِلِه وملؤُهُ في آنٍ واحد“.

نود أن نلفت الانتباه في هذا النص إلى نقطتين هامتين: “Placuit Deo in sua bonitate et sapientia Seipsum revelare” (لقد حَسُنَ لدى الله، بجودته وحكمته، أن يكشف عن ذاتِهِ): جوهر الوحي المسيحي ليس كشف معلومات عن الله بل الله ذاته، وغاية اللاهوت هي التبحر في هذا السر الإلهي الذي يكشف عن ذاته للبشر حبًا.

وثانيًا، “Haec revelationis oeconomia fit gestis verbisque intrinsece inter se connexis” ، (وتدبيرُ الوحي هذا يقومُ بالأعمال والأقوال التي ترتبط فيما بينها إرتباطاً وثيقا). وبما أن الوحي يقوم على ترابط بين أعمال الرب وأقواله، لا بد من اللاهوت – كقول – ألا ينسى أعمال الإيمان، ولا بد لأعمال الإيمان ألا تنسى مرجعيتها في الكلمة التي تضفي على العمل معناه وطابعه الخاص الإنساني، والمسيحي.

* * *

– روبير شعيب يعلم “الكريستولوجيا” و “مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي” في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما حول موضوع “معاني وحواس الإيمان. نظرة إلى الأبعاد ما قبل وما بعد العقلية في فعل الإيمان“، كما ويعمل كصحفي لوكالة زينيت العالمية.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير