البعد الوجودي للفصل بين اللاهوت والقداسة

التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية (3)

Share this Entry

روما، الجمعة 6 فبراير 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الثالث من مقالة روبير شعيب حول موضوع “التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية”.

* * *

بعد أن تحدثنا في القسم الأول  والقسم الثاني من مقالتنا عن الانفصال المأساوي في العصر الوسيط وفي العصر الحديث بين اللاهوت والقداسة، ننتقل الآن إلى اعتبار البعد الوجودي للانفصال بين الإيمان والعقل، بين اللاهوت والقداسة.

البعد الوجودي للفصل بين اللاهوت والقداسة

سألت يومًا فتاةً ملتزمة في جماعة روحية، تعيش حياةً إيمانية وأسرارية دؤوبة: “لقد قرأتُ عن تظاهرة ضد المسيحيين جرت منذ عدة أعوام في ميلانو (شمال إيطاليا) رفعوا فيها رايات تندد بالمسيحية: ‘المسيحيون هن آكلو لحوم البشر وشاربو دماء. الموت للمسيحية ‘. كيف تجيبين أنتِ كمسيحية عن هذه الاعتراضات؟ كيف تشرحين لمن يتهجم على الإيمان المسيحي أن المسيحيين ليسوا كما تصفهم هذه اللافتات؟”. فكان جواب محاورتي: “نعم، نحن نأكل جسد الرب، ولكننا لسنا آكلي لحوم البشر؛ ولكن هذا الأمر لا يمكن تفسيره لأنه سر”.

إن جوابًا من هذا النوع، بالرغم من براءته، لا يكفي! فالطيبة والقناعة الشخصية لا تكفي في حياة الإيمان. لا يمكننا أن نعرض المحال على الآخرين متوقعين أن يقتنعوا ويؤمنوا. هناك عقلانية جوهرية في الإيمان المسيحي، ولا بد أن نجهد لإيصالها للآخرين، وإلا عبثًا نحاول التبشير!

الكنيسة ترفض الإيمانية التي كان يدعو إليها ترتليانوس بقوله “ Credo quia absurdum” (أؤمن لأنه محال)، وتدعو إلى إيمان عقلاني يتخطى حدود العقلية ولكنه لا يقع في أشراك السخافة. الإيمان المسيحي هو إيمان يطلب العقلانية والفهم الباطني “fides quaerens intellectum“.

يكتب القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل روما: “إِنِّي أُناشِدُكم إِذًا، أَيُّها الإِخوَة، بِحَنانِ اللّهِ أَن تُقَرِّبوا أَشْخاصَكم ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله. فهذِه هي عِبادَتُكمُ الرّوحِيَّة” (روم 12، 1). إن ترجمة النص إلى العربية ليست دقيقة جدًا. فالنص الأصلي اليوناني يقول (λογικην λατρειαν υμων). ومعناه أن عبادتنا يجب أن تكون بحسب اللوغوس. لكلمة لوغوس معانٍ كثيرة : العقل، المعنى، العقلانية. وبالتالي فالنص يشير إلى أنه يتوجب على العبادة الحقة أن تكون عقلانية. لا بد للإيمان الناضج وللعبادة الحقة أن تكون حاملة معنى وعقلانية.

بكل تأكيد لن يتمكن الفكر والعقل أبدًا من حصر الإيمان وحصر الله، ولكن لا يجب أبدًا أن يناقض فعل الإيمان العقل، وإلا لباتت وصية العهد القديم الأولى – أحبب الرب إلهك من كل قلبك، من كل قوتك ومن كل عقلك –  أمرًا غير مفهوم وغير ممكن العيش.

بالعودة إلى السؤال الذي طرحته على الفتاة في مطلع هذا النص. الجواب المسيحي على هذا السؤال لا يقضي على السر ولكنه يسلط عليه ضوءًا يبين إمكانية قبوله. ليس هذا الموضع للإجابة عن ذلك السؤال، ولكن يمكننا أن نقدم إطارًا للفهم. في لغة الكتاب المقدس، ما من فصل ديكارتي بين النفس والجسد. الإنسان البيبلي بوجه عام هو إنسان مثلث الأبعاد – نفس وروح وجسد – ويشكل الجسد بعدًا غير منفصم عن باقي الشخص. وبهذا المعنى هبة الجسد تضحي هبة للأنا، هبة كاملة للذات، وهبة الدم تضحي هبة رمز الحياة. ولذا في تناولهم جسد المسيح ودمه، المسيحيون يشتركون في حياة المسيح وهبة ذاته. بالطبع، يبقى هذا الواقع مغمورًا بهالة من السر، ولكن هذا السر ليس في إطار السخافة بل في إطار الحب، الذي هو – إن في الحقل البشري، وإن في الحقل الإلهي – سر عظيم لا ينتهي الإنسان من فهمه.

نفهم مما استعرضناه أعلاه أن الفصل بين الإيمان والعقل هو أمر غير مقبول في المسيحية. بالطبع هناك أديان عالمية تقول بـ “التضحية بالعقل” كجزء أساسي في الإيمان، ولكن الأمر ليس كذلك في المسيحية (رغم أن هناك خبرات صوفية تقدم هذا الأمر إلا أنه لا يشكل الحركة الأولى في فعل الإيمان المسيحيي). ففي وجهة النظر المسيحية، هذه التضحية المطلقة بالعقل تجعل من فعل الإيمان فعلاً غير إنساني، لأن فعل الإيمان الحق يجب أن يتعلق بعقلي أنا، وبقبولي أنا.

سنستعرض الآن شكلان من أشكال الفصل الحياتي والوجودي بين الإيمان والعقل، بين القداسة واللاهوت.

1. الامتثال الحرفي

يتحدث الكاردينال واللاهوتي العظيم الراحل هنري دو لوباك (H. De Lubac) عن موقف يسميه “الامتثال الحرفي” (orthologie conformiste). هو موقف من يقبل حقيقة اللاهوت الحرفية، ويمتثل لها حرفيًا إلا أنه لا يترك لكلمة الحق هذه الفسحة المناسبة لتغيير حياته. هذا هو الخطر الأول في الفصل الوجودي بين اللاهوت والقداسة. وقد نبه اللاهوتي الألماني كارل رانر (Karl Rahner) من الخطر عينه مشيرًا إلى أن اللاهوتي الذي لا يعيش خبرة صلاة يُفقد كلمة تبشيره قوتها وكنهها ويضحي على الاكثر فيلسوفًا برجوازيًا يقدم فكرًا باهتًا.

2. الروحانية المفبركة

أما الخطر الثاني فهو الوقوع في الجهة المقابلة، في ابتكار روحانية فردية خاصة دون مرجعية من أي نوع كان، أو عبر انتقاء المرجعيات بحسب الأهواء. هذا النوع من الروحانية هو متفشٍ كثيرًا في أيامنا.

كثيرًا ما نلتقي في هذه الأيام بأشخاص يعتبرون ذواتهم روحيين، وتراهم يبنون فسيفساء عالمهم الروحي من حجارة يستمدونها مما هب ودب من مؤلفين “أوشو، دالاي لاما،
الماهاتما غاندي، ثم يضيفون بعض الأفكار من المتصوفين المسيحيين، رويزبروك، وتاولير، وريكارد دي سان فيكتور، ثم يضيفون تعاليم التصوف اليهودي المعروف بالـ “قَبَالاه”… هذه الظاهرة اشتهرت بشكل خاص مع ما يعرق بالنيوآيج، ولكنها ظاهرة قديمة رافقت المسيحية منذ ظهورها عبر بدع مثل الغنوصية والمانية وغيرها.

ولكن قد يسأل البعض، ما الخطأ في ذلك؟ الخطأ هو أنه عبر عيش روحانية هيولية لا ركيزة لها في التاريخ، هناك خطر “خلق الله على صورتنا ومثالنا” بدل أن نكون نحن “على صورته فمثاله”. الخطر هو أن يتم استبدال “الروحانية” ببعض الطرق والممارسات النفسية. الخطر هو في أن يتم التخلي عن الركيزة التاريخية لإيماننا، يسوع المسيح، من أجل تصوير معالم مخلص جديد، يحمل بشكل عام معالم رغباتنا وأهوائنا. وهذا ما حذر منه بولس الرسول في الرسائل الرعوية.

وقد وعى القديسون محورية يسوع المسيح التاريخي في الإيمان المسيحي. وحتى أشخاص عُرفوا بـ “خدماتهم الاجتماعية” مثل الأم تريزا، إذا ما نظرنا مليًا إلى حياتهم فهمنا أن المحور هو يسوع المسيح التاريخي. فكانت الأم تريزا تحض أخواتها على وعي محور حياتهم المكرسة: نحن لسنا مسعفات اجتماعيات بل عرائس المسيح. وكانت تقضي يوميًا وقتًا طويلاً في الصلاة أمام القربان المقدس ولدى مفارقتها الكنيسة كانت تقول ليسوع: أتركك هنا لألتقي بك في الفقراء.

وإذا ما قرأنا رسائل بولس الرسول لوجدنا المحورية الكريستولوجية عينها. فالروحانية التي يتحدث عنها بولس ليست روحانية “لرفاهيتنا” بل للدخول في علاقة مع المسيح، للعيش “مع” المسيح و “في” المسيح، ولكي “لا أحيا من بعد بل يحيا المسيح فيّ” (راجع غلا 2، 20). والإنجيل عينه لا يدعو إلى فضائل عامة بل إلى عيش الفضائل مثل المسيح: “اقتدوا بي فإني وديع ومتواضع القلب” (راجع مت 11).

وصية المسيح الجديدة ليست المحبة وحسب بل: “أحبوا بعضكم بعضًا كما انا أحببتكم”…

وبولس يدعو المسيحيين لكي تكون فيهم المشاعر عينها التي كانت في المسيح يسوع.

وبالتالي فإن الروحانية المسيحية ليست روحانية مرتجلة أو مفبركة بحسب الذوق الشخصي، بل انطلاقًا من محورية المسيح، ومن معرفة المسيح. وهذا هو وجوديًا موقع المعرفة، أي العقل واللاهوت في حياة الإيمان.

(يتبع)

* * *

– روبير شعيب يعلم “الكريستولوجيا” و “مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي” في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما حول موضوع “معاني وحواس الإيمان. نظرة إلى الأبعاد ما قبل وما بعد العقلية في فعل الإيمان”، كما ويعمل كصحفي لوكالة زينيت العالمية.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير