روما، الاثنين 9 فبراير2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الرابع من مقالة روبير شعيب حول موضوع “التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية”.
* * *
ثانيًا: الحلقة التفسيرية القائمة بين اللاهوت والقداسة
إنه لأمر مصيري العمل على إعادة بناء التواصل والحلقة التفسيرية بين اللاهوت والقداسة.
غالبًا ما نتلفظ بكلمة ونتوقع ونعتقد أن يفهمها الآخر بحسب النية التي كانت وراء قولنا. وقد يعبر لنا الآخر عن أنه فهم قصدنا، ولكننا نتفاجئ أحيانًا بأن ما يظنه الآخر أنه مقصدنا هو عكس ما أردنا أن نقوله. لذا لا بد أن نتوقف على شرح معنى بعض الكلمات لكي نخفف من إمكانيات سوء الفهم.
لذا، من المستحسن أن نعيد النظر بالمعنى المقصود لبعض الكلمات التي بتنا نستعملها كل يوم، إن في الحياة الروحية، أو في الوعظ، أو في المناقشات الرعوية. تحتاج هذه الكلمات إلى تنقيح جديد لكي يكون هناك نقطة التقاء في كلمة المتكلم والكاتب وفي فهم السامع والقارئ. أقترح النظر مليًا إلى المعنى المسيحي لثلاثة من هذه الكلمات والتعابير والمفاهيم: الحقيقة، السر، والقلب.
أ. مفهوم الحقيقة
أنطلق من مقولة لفون بالتازار: “إن المفهوم الكامل للحقيقة الذي يقدمه الإنجيل يتألف من التجسيد الحي للنظرية في العمل، وللمعرفة في التطبيق”، تجسيد الحقيقة هو الحب المعاش، هو اللاهوت الذي يشع في قداسة العيش. “بحسب مفهوم الوحي الإلهي، ليس هنالك حقيقة أصيلة، إلا ويجب أن تتجسد في فعل، في طريقة تصرف، لدرجة أن تجسد المسيح يضحي مقياس كل حقيقة فعلية”.
عندما يتحدث بالتازار عن “اللاهوتي المتكامل” – كما سبق ورأينا– يتحدث عن هذا الأمر بالضبط. فكما في الحب، يقارب المرء حقيقة المحبوب من خلال محبته، ويتعمق في محبته من خلال معرفة حقيقته. يساعدنا في إيضاح الفكرة الفيلسوف اللبناني رني حبشي (René Habachi) الذي يقوم بالتمييز بين “الحقيقة-الإسمنتية” و “الحقيقة-الدعوة”.
“الحقيقة الإسمنتية” هي حقيقة الـ 2 + 2 = 4. إنها حقيقة تشبه النور الساطع الذي يبهر العيون بوضوحه فلا يستطيع المرء أن ينكرها. إنها حقيقة إسمنتية، “مصبوبة صبًا”، لا يمكنني أن أرفضها ولكن في الوقت عينه لا يمكنني أن أدخل في علاقة شخصية معها؛ إنها حقيقة لا يجتاحها الصدأ، هي كاملة وثابته، ولكنها مقفلة لا يمكن الدخول في علاقة وجدانية معها. ما من أحد يضحي بحياته لأجل حقيقة حسابية من هذا النوع.
أما “الحقيقة الدعوة” فهي حقيقة شخصانية، إنها حقيقة تهبني الحياة، وتجعلني مستعدًا أن أهب حياتي بدوري. يمكننا أن نقدم مثالاً عن هذه الحقيقة أمرًا قد يجعلنا نظن أن المسيحيون لا يجيدون علم الحساب 1 + 1 + 1 = 1! أشير بتبسيط حسابي إلى ما يقوله المسيحيون في الثالوث الأقدس: ثلاثة أقانيم (آب وابن وروح قدس)، طبيعة إلهية واحدة. هذه الحقيقة لا تفرض نفسها بشكل حسابي حتمي وجبري، ومع ذلك، فإن هذه الحقيقة كانت وما تزال واقع حبٍ يفهمه مِن بَعيد من يفتح قلبه للحب الذي يوحد ويحفظ التمايز، وهذا الفهم يحمل البعض على الهيام حبًا وصولاً إلى قبول الاستشهاد لأجل الإيمان بإله الحب.
لكي ندرك المفهوم المسيحي للحب، أود أن أستعين بإيجاز بأبحاث أحد كبار دارسي مفهوم الحقيقة في إنجيل يوحنا، الأب اليسوعي إينياس دو لا بوتري (Ignace de la Poterie) الذي يوضح بأن كلمة حقيقة في العهد القديم “إِمِت” ترتبك بجذر “أَمَن” الذي يعني “آمن، ثابت، وثيق”؛ وبالتالي فإن “إمت” تعني الصلابة الجوهرية والمتانة، أي ما يجعل أمرًا موثوقًا وقابلاً للإيمان والتصديق.
أما كلمة “أليثيا” (altetheia) فتعني بالأساس عدم التخفي، الكشف. وبالتالي إنطلاقًا من المفهوم الأثيمولوجي اليوناني، الحقيقة هي أمر يجب اكتشافه، أمر يجب أن يبحث المرء عنه وأن يقوم بالارتقاء نحوه.
أما إنجيل يوحنا فهو لا يقدم شيئًا يمكن أن يوحي بأن الحقيقة أمر يجب أن يبحث المرء عنه. ولا يتحدث أيضًا عن “ارتقاء” نحو الحقيقة. مفهوم الحقيقة اليوحنوي يقلب المقاييس: ليس الإنسان هو من يبحث عن حقيقة الله، بل حقيقة الله تأتي إلى الإنسان. الحقيقة هي نعمة وهبة: هي وحي يقدمه الله في يسوع المسيح (راجع يو 1، 17). ليست المسيرة نحو الحقيقة تصاعدية، بل هناك قلب للمقاييس، والحقيقة تنزل، تنحدر، تفرغ ذاتها، وتأتي نحو الإنسان. ويسوع يكشف للبشر الحقيقة التي تلقاها من الآب (راجع يو 8، 40).
والحقيقة ليست كشفًا عن أسرار عامة، ليست عبارة عن حفنة من العقائد البالية؛ هي وحي وكشف شخص يسوع، المسيح، ابن الآب الوحيد. وإنجيل يوحنا يزخر بالتعابير التي توضح هذا الأمر: “أنا الطريق والحق والحياة” (يو 14، 6).
نرى في يوحنا أيضًا ربطًا بين الإقامة مع يسوع، ومعرفة الحقيقة. وربطًا بين عيش كلمة يسوع ومعرفة الحقيقة: “إذا حفظتم كلمتي، عرفتم الحق” (يو 8، 31). معرفة الحقيقة في المسيحية ليست أولاً ثمر مزاولة المكتبات والكتب، بل نتيجة الأمانة لكلمة يسوع.
تقول الرسالة الأولى المنسوبة إلى يوحنا: “من يقول ‘إني أعرفه‘ ولا يحفظ كلمته، كان كاذبًا ولم تكن الحقيقة فيه”. هذا ما يكشف لنا الترابط الجوهري بين حفظ الكلمة (عيش القداسة) وفهم حقيقة الله.
تقول الرسالة أيضًا: “من أحب عرف الله، لأن الله محبة” (1 يو 4، 8). حقيقة الله (أنا هو الحق) لا تنفصل البتة عن جوهر الله “الله محبة” (1 يو 4، 16). وبالتالي فالولوج في معرفة الله يعني الدخول في دينامية المحبة. بالواقع، إذا ما فكرنا في أثيمولوجية كلمة ”
فلسفة” (filosofia)، والتي “محبة الحكمة”، لوجدنا أنها قبل أن تكون “صوفيا” (حكمة)، هي “فيلو”، هي محبة، محبة الحكمة.
أما ديكارت فقد وصف الإنسان بـ “ Res cogitans ” “كائن مفكر”. وأدى هذا التعريف بعده إلى عزل واقع الحب من جوهر الفلسفة. بات الحب أمرًا يتعلق بـ “مقالة الأهواء”، ولا يتعلق بواقع الفكر. ولكن “في البدء” لم يكن كذلك، فالحب، “الإيروس”، الزخم المتيم نحو الحقيقة، كان جزءًا جوهريًا في الفلسفة، في حب الحكمة.
إن الموقف المسيحي الصحيح أمام حقيقة الله ليس في المقام الأول، رغبة عقلية للقبض على الحقيقة، بل هو قفزة النفس نحو التطلع (contemplatio) إلى الله، إنه موقف جهوزية لتقبل الحقيقة، لـ “معرفة الحق” (يو 8، 32؛ 2 يو 1) لـ “الإقامة” في الحق بالإيمان. الله هو القائم بالخطوة الأولى، هو “الذي أحبنا أولاً” (1 يو 4، 19). أما المسيحي فيتوق لكي “يكون في الحق” يو 18، 37؛ 1 يو 3، 19) الذي يأتي وينصب خيمته بين البشر (راجع يو 1، 14).
خلاصة القول، عندما نقول أن المسيحية تعلن عن الحقيقة، لا نقصد أن المسيحية أتت لتعلم الطبيب مهنته، وعالم الفلك حركة الكواكب، والفيزيائي سرعة الضوء. حقيقة المسيحية واحدة: هي السر الكامن منذ الأزل، سر الحب الذي يربط الآب بالابن بقبلة الروح القدس. وهذا السر الذي أراد أن يشرك البشر بطوباوية المحبة هو حقيقة المسيحية. حقيقة المسيحية هي العلاقة الحقة القائمة في الثالوث والتي تريد أن تدخل البشرية في تيار إشعاعها الطوباوي.
من هنا أهمية إيضاح معنى مفهوم “السر”، لكي لا يفهم به البعض “الغموض” أو “الإيزوتيرية”.
(يتبع)
* * *
– روبير شعيب يعلم “الكريستولوجيا” و “مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي” في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما حول موضوع “معاني وحواس الإيمان. نظرة إلى الأبعاد ما قبل وما بعد العقلية في فعل الإيمان“، كما ويعمل كصحفي لوكالة زينيت العالمية.